لبنان: التعليم من بعد.. بمناهج القرن الماضي!

في كلّ مرّة يرتفع عدّاد إصابات الكورونا في لبنان، تتجه الأنظار نحو القطاع التعليمي حيث يُعتبر الخاصرة الرخوة أو بالمصطلح اللبناني "فشة الخلق". به تبدأ الإقفالات وتنتهي أيضًا على اعتبار أنّها أماكن التجمعات اليوميّة الأساسيّة ولتخفيف التفشي لا حلّ إلّا بإقفالها، ولكن على أرض الواقع هذه ليست الحقيقة، والتعليم من بعد لم يُقيّم لبنانيًا على كلّ المستويات، وهذه المقالة هي دعوة لاطلاق هذه المراجعة.

خلال العقد الثاني من هذه الألفية، لم تكن غريبة فكرة الاتصال المباشر عبر تقنيات الفيديو والبث المباشر عبر الانترنت، بل كانت جزءًا من يومياتنا تقريبًا ومثل أي مجال تكنولوجي فإنّه يحاول الوصول إلى شتى أنحاء الحياة، فدخل عالم التعليم، ولكن بخجل.

هذا الخجل لم يستمر طويلًا، فجائحة كورونا قبل سنتين، فرضت التغيير بالقوة ودفعت العالم كلّه نحو التوجه قسرًا إلى اعتماد طرق غير مألوفة للكثيرين في التعليم، ومنها التعلّم من بعد بكلّ أشكاله: التزامنية والتعلّم الذاتي. وقد صدرت فعلًا مئات الدراسات خلال هاتين السّنتين تكلّمت عن أهميّته العلميّة من جهة والبرامج المعتمدة من جهة ثانية ولكن لم تجرِ مقاربة حقيقية للأمر من وجهة نظر الطلبة والأساتذة، ماذا حدث إذًا، لا سيّما في لبنان.

أطلقت وزارة التربية والتعليم العالي في لبنان بعد إقفال البلاد في آذار/مارس 2020 التعلّم من بعد وطلبت من جميع المؤسّسات التعليمية الخاصة والرسميّة (على مستوى المدارس) تطبيق هذه الطريقة وغضّت النظر ـ على الطريقة اللبنانية ـ عن كلّ متطلبات هذه الطريقة الجديدة من تأهيلٍ للأساتذة وبنيةٍ تحتيةٍ ومناهج ملائمة، وفي المقلب الاخر، وعلى المستوى الجامعي، سارعت الجامعة اللبنانية والجامعات الخاصة الى اعتماده أسوة بجامعات العالم، وعليه فلنذهب إلى النتيجة مباشرة إذًا.

ظهرت المشاكل في المدارس كلّها دفعة واحدة بعد سنتين من ترك التعليم والترفيع التلقائي، ففي الصفوف المدرسية هناك فئة كبيرة من التلامذة ضُربت لديهم بكل معنى الكلمة المرحلة التأسيسية التي يعوّل عليها كلّ تعليم

اليوم عادت معظم المؤسّسات التعليميّة في لبنان إلى التعليم الحضوري بشكل كبير مدرسياً والمدمج جامعياً، وظهرت المشاكل في المدارس كلّها دفعة واحدة بعد سنتين من ترك التعليم والترفيع التلقائي، ففي الصفوف المدرسية هناك فئة كبيرة من التلامذة ضُربت لديهم بكل معنى الكلمة المرحلة التأسيسية التي يعوّل عليها كلّ تعليم، فإذا أردنا الدخول في توصيف كلّ مرحلة لقلنا الآتي:

  1. أطفال المرحلة الأولى (الحلقة الأولى) نسوا تقريبًا كلّ ما تعلّموه في السّنة الأولى من قواعد القراءة والكتابة والحساب.
  2. أطفال المرحلة الثانية والثالثة (الحلقتان الثانية والثالثة)، وهي المرحلة الأساسية في تأسيس العلوم التطبيقية، لا يجيدون اليوم في الكثير من الأحيان استعمال الآلات الحاسبة لتطبيق المعادلات الرياضية البسيطة أو المبادئ التأسيسية للكيمياء والفيزياء، هذا عدا عن اللغات ودرجة الإجادة.
  3. أمّا المرحلة الثانوية فقد كانت الأقل تأثرًا كونها تحتوي على شريحة عمرية أكبر يمكنها تحمّل بعض المسؤولية والمتابعة بشكل مستقل، ولكن برغم ذلك لا يمكن اعتبار أنّ طلابها نجوا من دون ندوبٍ تعليميّة، فخصوصيّة هذه المرحلة أنّها تحتوي على فروع مكنّت الطلبة من الهروب نوعًا ما من الفرع الأصعب نحو الأسهل أو نحو ما يختارون وفقًا للهوى والتوجه.

وعليه، المعاناة اليوم داخل الصفوف لا توصف، وفي الكثير من الأحيان لا تخرج هذه المعاناة إلى العلن، ليس خوفًا من لوم بل لانعدام الأمل في الحلول، فهي غير موجودة أبدًا، والفجوات التعليميّة هائلة وتكاد لا تحصى والكوادر التعليميّة في سباق دائم مع الأيام لإنهاء المقرّرات من جهة وفي تحدٍ غير تقليدي لسدّ ما أمكن من ثغرات من جهة ثانية، فخطة الأسابيع الأربعة الأولى التي اعتُمدت في وزارة التربيّة بداية هذا العام لا يمكن أن تغيّر في ما سبق أبدًا.

على المستوى الجامعي، يمكن القول بأن الوضع كان أفضل مقارنة مع المدارس، ولكنه لم يكن أفضل الممكن نظراً لاختلاف المقدرات والقدرات البنيوية والمالية والتقنية للجامعات، اختلاف مستوى المهارات عند الاساتذة، ولكن الاساس بأننا أمام  فئة عمرية أكثر نضوجاً، متمكنة بين قوسين من ألف باء التعليم المدرسي، والاهم غياب أي ترفيع تلقائي بل امتحانات حضورية في أغلب المقررات والجامعات.

تكمن المشكلة الحقيقية في أن معظم الطروحات لا ترقى الى مستوى خطة وطنية (خطة دولة) تتناول تفاصيل العملية التعليمية، اسوة بما تم طرحه كخطة وطنية للقطاع الصحي مع الملاحظات التي من الممكن أن تسجل عليها من هنا أو هناك، باستثناء خارطة الطريق التي طرحتها الجامعة اللبنانية في أيلول/سبتمبر من العام ٢٠٢٠ من خلال مؤتمرها الذي تناول ما يمكن القيام به لتعزيز التعليم من بعد على المستوى التشريعي، التربوي والتقني. ولكن بقيت هذه الخارطة حبراً على ورق لانها تحتاج الى قرار مركزي تتخذه الحكومة اللبنانية، تُشارك فيه أغلب الوزارات من الاتصالات الى المالية فالتربية، وهذا القرار غير موجود. صحيح أنه حصلت بعض المحاولات من أفراد ومؤسسات تربوية، لتدريب وتجهيز الكادر التعليمي المدرسي والجامعي، ولكنها بالتأكيد غير كافية، ولا أحد يستطيع أن يُشكّل بديلًا عن الدولة.

لبنان هو ذلك البلد الذي لا زال يدرّس في كتب تعود للقرن الماضي، تحديدًا للعام 1997 وهذه المناهج لا يمكن تسييلها للتعلّم من بعد فهي لا تحاكي مشاكل اليوم ولا طرق اليوم التعليميّة ولا حتى لغة اليوم، هذه المعلومات التدريسية كتبت في عصر كان الحاسوب حكرًا على بعض المكاتب والجامعات ولم تكتب لمجتمع اليوم، مجتمع الذكاء الصناعي والميتافيرس

ولكن لا يمكن الرّكون والتسليم، فالقطاع التربوي المدرسي يعاني اليوم من ركود مزمن وكلّ الخطط التي توضع لا تكاد ترقى إلى “الترقيع اللبناني” حتى، نحن بحاجة لإعادة تأسيس من جديد على أسس تلحظ الآتي:

  1. الوضع الاجتماعي والاقتصادي.
  2. أسواق العمل الجديدة (البرمجة بأشكالها التطبيقية الجديدة، طرائق التعليم الحديثة..).
  3. حاجات الاقتصاد اللبناني الحقيقية، على سبيل المثال لا الحصر: السّوق لا يحتاج للمزيد من الصيادلة ولكنّه بحاجة للكثير من الكادر الحرفي المتمرّن، بل أكثر من ذلك، يجب العمل من الاجل الانتقال الى الاقتصاد الرقمي، الذي لا يحتاج إلى مواد أولية كالنفط والمعادن، بل إلى عقولة بشرية قادرة على انتاج برمجيات  ذكية، ونحن نمتلك الارضية الخصبة لذلك.
  4. قدرات الطلبة الذهنية، وتوجيههم نحو مقررات تتلاءم مع رغباتهم ومؤهلاتهم، إسوة بالنظام التعليمي الموجود في هولندا مثلًا.
  5. المواطن، والإجابة على السّؤال الأهم: أي مواطن نريد؟
إقرأ على موقع 180  روسيا تواجه كورونا.. بـ"الثبات الانفعالي"!

المناهج اللبنانية لا تقدّم إجابة حقيقية على هذا السّؤال لا سيّما أنّ التربية مجزأة بين القوى السّياسية في لبنان فلا يوجد مقرّر تربيّة واحد يُدرّس بشكل حقيقي في كلّ المؤسّسات التعليميّة، الكلّ يغني هنا على ليلاه والكلّ يدرّس نظرته للبنان.

ما سبق يجب أن يدفع لإعادة هيكلة القطاع التعليمي المدرسي كلّه من رياض الأطفال وصولًا إلى المرحلة الثانوية ما قبل الجامعية. بكلام آخر نحن بحاجة لمناهج تدريسية جديدة تحاكي العصر وحاجاته، قادرة على المواكبة والتطوّر، مرنة لا تقف عند عوائق أو مستجدات علميّة، وهذا أمرٌ مقدورٌ عليه ففي هذا البلد المنكوب طبقة متعلّمة فاعلة وقادرة على الانتاج الحقيقي لو أتيح لها وفتحت الطرقات من أمامها للإبداع لا للهجرة.

في نهاية هذا الجزء لا بدّ من القول إنّ لبنان لا يشبه الصين والولايات المتحدة الأميركيّة التي شرّعت الابواب أمام التعلّم من بعد ولا يشبه طبعًا دول القارة الأوروبية إن لناحية البنية التحتيّة التقنية أو لناحية المناهج المعاصرة. لبنان هو ذلك البلد الذي لا زال يدرّس في كتب تعود للقرن الماضي، تحديدًا للعام 1997 وهذه المناهج لا يمكن تسييلها للتعلّم من بعد فهي لا تحاكي مشاكل اليوم ولا طرق اليوم التعليميّة ولا حتى لغة اليوم، هذه المعلومات التدريسية كتبت في عصر كان الحاسوب حكرًا على بعض المكاتب والجامعات ولم تكتب لمجتمع اليوم، مجتمع الذكاء الصناعي والميتافيرس، فمتى التغيير إذًا؟

Print Friendly, PDF & Email
Avatar

باحثان وأكاديميان، لبنان

Download Nulled WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  "كوع التشليحة".. وعصابة أصحاب مصارف لبنان