جمهوريّة الطوائف الكريمة.. القاتلة!

دُعي الخبير البلجيكي "فان زيلاند" إلى بيروت، عقب الاستقلال، لتنظيم وترشيد الاقتصاد اللبناني، وبعد أسابيع قليلة على وجوده، كما تقول رواية مجلّة "الحوادث"، قصد رئيس الوزراء رياض الصلح. قال له شاكياً: "كيف لي، يا دولة الرئيس أن أعرف، أنّ التفّاح في بلادكم ماروني، والبرتقال سنّي، والزيتون أرثوذكسي، والتبغ شيعي، والعنب كاثوليكي؟ ولو كنتم قد أخبرتموني بذلك قبل مجيئي إلى لبنان، لما غامرتُ بسمعتي كخبير في هذه البلاد التي تنتسب فيها، كلُّ ثمرةٍ، إلى طائفة". غالباً ما أتذكّر مقولة المسكين "فان زيلاند"، كلّما ضربت أزمةٌ "محصولاً" من محاصيل إحدى ثمار بلدنا المثمر بالأزمات، وآخرها موسم "الزيتون الأرثوذكسي"!

تقول العصفورة، إنّ النقاش العاصف الذي دار في السراي الكبير، قبل أيام، بين رئيس الحكومة حسان دياب ونائب رئيس مجلس النواب (الأرثوذكسي) ايلي فرزلي، كان “مرعباً” بالشكل والمضمون، إذْ ظهَّر جليّاً، كيف طال التلاعب بالأسعار، السلعة الأساسيّة في أسواق السياسيّين اللبنانيّين: سلعة الطائفيّة.

كان دافع اللقاء بين الرجليْن، في الأساس، البحث في قضيّة محافظ بيروت الحالي الذي شنّ، “على شرفه”، وزراء ونواب وشخصيّات أرثوذوكسيّة حملةَ دفاع شرسة، بقيادةٍ مزدوجة لمطرانيّة بيروت وفرزلي. لقد انتهت ولاية السنوات الستّ لسعادة محافظ عاصمتنا ولا يمكن تجديدها إلى حين بلوغه سنّ التقاعد، لكون المحافظ الشاب لم يستقل من منصبه عند تعيينه (كما فعل محافظون آخرون)، فقرّر رئيس الحكومة، وتنفيذاً للقانون، تعيين خلفٍ له من دون الرجوع إلى متروبوليت بيروت للروم الأرثوذكس، فصرخ المطران الياس عودة: “يا غيرة الدين… ما حدا (أحد) أحسن من حدا”.

كيف لا يثور مطراننا “لكرامة مرجعيّته”؟ فلماذا لا يحقّ له ما أُبيح للبطريرك الماروني، عندما رمى الحُرم على كلّ مَن يتعرّض لارتكابات حاكم المصرف المركزي؟ ولماذا لا يحقّ له ما أُتيح لمفتي الجمهوريّة، عندما رسم الخطوط الحمراء أمام كلّ مَن يستقوي على فؤاد السنيورة بعنوان “الحسابات المالية”؟ ولماذا… ولماذا؟ إنّما لا تكمن المشكلة في “الاستغناء” عن شخص محافظ بيروت الحالي تحديداً (مع أنّه يعزّ كثيراً على نيافة المطران)، بل هو الاستخفاف في التعاطي مع أكثر المناصب الأرثوذكسيّة حساسيّةً في الدولة اللبنانيّة، مثلما هو الحال في منصب قيادة الجيش عند الموارنة ومديريّة الأمن العامّ عند الشيعة والأمن الداخلي عند السنة وأمن الدولة عند الكاثوليك. وهذا ما لم يفقهه الرئيس التكنوقراطي لحكومتنا!

لقد بدا حسان دياب جاهلاً بكلّ اللعبة الميثاقيّة في بلاد الأرز، وظهر بمظهر المغترب العائد إلى وطنٍ لا يعرف شيئاً عنه أو عن تركيبة نظامه ودهاليزها، “فارتكب” أكثر من خطأ قاتلٍ تجاه طائفة الأرثوذكس، كان أفظعَها، على الإطلاق، تسريبُ تساؤله الساخر أثناء مناقشته، مع بعض الوزراء، موضوع التعيينات وحقوق الأرثوذكس، عندما قال: “وَيْن (أين) بعد في أرثوذكس في بيروت؟”

فاضت الكأس (الفارغة أصلاً) وارتفعت معها الآهات الأرثوذكسيّة المتألّمة، من هذا التكريس “السنّي الساذج” لتهميش أبناء الطائفة في اللعبة السياسيّة والإداريّة في لبنان. “نحن مَن له الفضل الكبير في تطوير لبنان والنهضة الفكريّة فيه وفي العالم العربي كلّه، كيف يمكن استصغارنا”؟، أعلنها الفرزلي صراخاً بوجه دياب الذي عاجله بالصراخ، أيضاً، فهُرِع الحرس الحكومي إلى باب قاعة الاجتماعات، لعلّ المحظور قد وقع.

إلاّ أنّ أيّاً، من كلّ هذه الأنظمة والقوى المستعمرة والمنتدبة والجيوش (حتى الصهاينة منهم)، لم يُمعنوا في التنكيل بحياة اللبنانيّين ومعيشتهم وحرّيتهم وكرامتهم وذاكرتهم وذكائهم، مثلما فعل قادتهم وزعاماتهم

ولكن…غداً يومٌ آخر. قالها الكلّ للكلّ بعدما هدأت النفوس. لا بدّ من تسويةٍ للموضوع. وهكذا، عند أيّ اضطراب أو أزمة (أو حرب حتى)، تعود كلّ طائفة إلى الاعتصام بحبل التسوية، ثمّ يتعامل أبناء الطوائف، مع بعضهم البعض، بروح الوفاق والوئام وكأنّ “أنهر الدم اللبناني” التي جرت، طيلة سنواتٍ وعقودٍ وعهود، ليست إلاّ وجهاً من وجوه الممارسة السياسيّة. في الساعات المقبلة، سيضمِّد أصحاب الفخامة والنيافة، في لقاء قصر بعبدا، الجرح الأرثوذكسي، مثلما فعلت لقاءاتٌ أخرى، مع جروحٍ أخرى، تعرّض لها أبناءُ الطوائف الأخرى. لكن مَن يضمّد جروح الوطن؟ لا مجيب.

على مدى تاريخه، كان لبنان عُرضة للهجمات والغزوات والانتدابات، حتى يكاد يدخل موسوعة “غينيس” في عدد الأمم التي احتّلته أو حكمته (بعد الأرقام القياسيّة لأكبر كأس ليموناضة وصحن تبولة وصحن حمّص وأطول منقوشة وقرص فلافل)، بدءًا بملوك آشور وبابل والفرس مروراً بالإسكندر المقدوني والسلوقيّين والرومان وصولاً إلى العثمانيّين والفرنسيّين والإسرائيليّين والأميركيّين والسوريّين… وللوصايات تتمّة. إلاّ أنّ أيّاً، من كلّ هذه الأنظمة والقوى المستعمرة والمنتدبة والجيوش (حتى الصهاينة منهم)، لم يُمعنوا في التنكيل بحياة اللبنانيّين ومعيشتهم وحرّيتهم وكرامتهم وذاكرتهم وذكائهم، مثلما فعل قادتهم وزعاماتهم الذين توالوا على حكمهم، ولا سيّما في كنف الجمهوريّة الثانية. كيف حصل ذلك؟ سنعود لاحقاً إلى هذه النقطة.

ماذا عن بدعة اجتراح الطوائف اللبنانيّة؟

استقرّت الطوائف في لبنان عبر موجات متتالية ومتباعدة، وبقيت، في الغالب، جماعاتٍ غير مندمجة في ما بينها، إذ إنّ لكلٍّ منها المعتقدات الدينيّة والفكريّة والعادات والتقاليد الخاصّة، لكن ليس هناك أيّ جماعة من بين هذه الجماعات، تملك الأكثريّة العدديّة المطلقة. فما من طائفةٍ تستطيع أن تنسب لنفسها تفوّقاً مجتمعيّاً مؤكَّداً، أو الإدّعاء بالسيطرة الكاملة على البلاد، مهما كانت أهمّية الدور الذي لعبته، عبر التاريخ؛ ويعني انتماء المرء لطائفةٍ معيّنة في لبنان، الاعتراف رسمياً، لكلِّ مواطن بهويّتيْن، إحداهما وطنيّة والأخرى طائفيّة (بغضّ النظر عن رغبات اللبناني الشخصيّة). الدولة، بنظر مواطنيها، توليفة من التواريخ الجزئيّة، إذا جاز القول، وهويّتها خليط من هويّاتٍ مختلفة وتيّارات غير متجانسة، ومن هذا الخليط وهذه التوليفة تكوّن لبنان.

إقرأ على موقع 180  حتى تكونَ حراً.. (3)

كان اللبنانيّون، في زمن الجمهوريّة الأولى، يعيشون في ظلِّ “خَفَر الطوائف أو الحشمة الطائفيّة” (على حدّ توصيف المؤرّخ اللبناني أحمد بيضون)؛ أي إنّهم كانوا ملزمين وملتزمين بهذه الحشمة في الانتساب إلى المدار الطائفي، كشرطٍ لبقاء الدولة، لذا اعتادوا أن يمقتوا طائفيّة نظامهم السياسي، وينكروا الصفة الطائفيّة لمواقفهم وللتشكيلات المختلفة لهم. لكنّ الحرب الأهليّة أطاحت بـ”حشمة الطوائف” هذه، واستفاق اللبنانيّون، في زمن الجمهوريّة الثانية، ليجدوا طوائفهم قد فقدت كلّ حياء، ومحقت كلّ تمويهٍ لطائفيّةِ مسالكها في شتّى الأمور تقريباً، وخلقت خللاً بلغ فتكه بالمنطق الدستوري أو المؤسّسي بعضَ ذراه.

اللبنانيّون، وبعد أن جنحوا إلى الاستواء كطائفيّين محتشمين (قبل الحرب)، باتوا (بعد الحرب) يعتدّون، في الاجتماع، كما في السياسة، بهويّاتهم وزعاماتهم ومرجعيّاتهم وقياداتهم الطائفيّة الفرعية حصْراً

طوال سنواتٍ عسيرة، مشت طوائف لبنان، بناسها وزعاماتها ومرجعيّاتها، فوق الألغام التي شاركت بنشاطٍ في زرعها، فانفجرت هذه الطوائف في هيكل الوطن الذي حضنها؛ إنّما ردّت له “الجميل” بأنْ حضنته، ليعيش البلد تحت رحمتها ومُلحقاً بها، فاللبنانيّون، وبعد أن جنحوا إلى الاستواء كطائفيّين محتشمين (قبل الحرب)، باتوا (بعد الحرب) يعتدّون، في الاجتماع، كما في السياسة، بهويّاتهم وزعاماتهم ومرجعيّاتهم وقياداتهم الطائفيّة الفرعية حصْراً. من المهمّ التذكير في هذا السياق، أنّ الحكم في لبنان رفع المكتسبات الطائفيّة إلى رتبةٍ عالية، ووضَعها في مستوى الخصائص المُميِّزة والاتفاقات الثابتة، الأمر الذي رسّخ في ذهن كلّ مواطن تقليداً يقضي، بالنظر إلى بلده، دائماً، من منظار طائفته، وإلى دولته عبْر ممِّثله الطائفي، وإلى عمله ومصالحه وحقوقه (لا واجباته) من خلال حصّته الطائفيّة من الكوتا، في الإدارة والوظائف والمرافق العامّة.

ولا تتوقّف الطائفيّة، بنسختها اللبنانيّة، عند حدود التركيبات السياسيّة والإداريّة للنظام، بل تتعدّاها إلى البنية الاقتصاديّة والمجتمعيّة للبلاد، حيث لا يشكّل البُعد الديني إلاّ إحدى الوظائف العديدة المرتبطة والمتّصلة بالطائفيّة، التي تخترق المجالات كلّها. فهي أفضت إلى خللٍ خطير في بُنى المجتمع اللبناني الأساسيّة، بحيث جعلت: الحياة (الدنيا والآخرة) والموت والاستشهاد والعمالة (للعدوّ) والحب والكره والفنّ والأدب والصحافة والجمال والمخدّرات والبيع والشراء والجرائم والإعفاءات والسجن والسرقة والنفايات والمجارير وأيّ شيء وكلّ شيء وأهمّ شيء وأسخف شيء…، مُهيّأً وقابلاً للتحاصص والتناتش والتنازع وإشعال الحروب.

“معقول، كيف تستطيعون العيش في مجتمعٍ كهذا”؟، تسأل صديقتي الفرنسيّة بعد انتهائها من قراءة فصلٍ في أطروحتي للدكتوراه، خصّصتُه لعرض “واقع المجتمع اللبناني المعاصر”. إذْ كنتُ قد طلبتُ منها أن تقرأ يومها ما كتبت، لخشيةٍ منّي أن أكون قد غصتُ، أكثر من اللزوم، في تفاصيل محليّة لبنانيّة قد لا يفهمها أساتذة “لجنة المناقشة والتحكيم” الأجانب. فصديقتي تعرف جيّداً، كم يضنيني ويهينني “الموضوع الطائفي”، وكيف تتأهّب الكريات البيضاء في دمّي لمواجهة وباء الطوائف والطائفيّة والطائفيّين، وكثيراً ما أتذكّر “صدمتها” وأبتسم. لقد خطرت ببالي، مؤخّراً، عندما أخبرت أحد زملائي أنّني تقدّمتُ بطلب ترشيحٍ لعمادة كليّة الإعلام في الجامعة اللبنانيّة، فقال متعجّباً: “عمادة الإعلام للمسيحيّين يا عزيزتي”!، هكذا واجهني من دون مواربة أو حرج من صداقتنا، وبرغم معرفته العميقة بانتمائي العقائدي. لكنّ المفاجأة (المتوقّعة؟) أتت من ممثّلي “طائفتي” الكريمة، الذين تصدّوا بكلّ ما أوتوا من نفوذ وغضب وفجور، ضدّ هذه “الترقية الأكاديميّة”. سألوني وكدتُ أسمعهم: “كيف تسوِّل لكِ نفسكِ أن تخرجي من مشاعيّة الطائفة؟ وكيف تتجرّئين، أصلاً، على سطوة المرجعيّة السياسيّة لطائفتكِ؟ وعلى زعيم طائفتكِ الذي يهمّه أمركِ لدرجةٍ يستطيع أن يمنع سقوط شعرة من رأسكِ، من دون استئذانه”؟

نادراً ما عدلت الطائفيّة في تاريخها لدى توزيع المغانم على الرعايا، كما يستنتج الكاتب الصحافي نصري الصايغ مُحقّاً، “فالمغانم حصصٌ ترضي الزعامات، وتحرم العامّة. وتصبح الطائفة خندق دفاع ومنصّة هجوم، إذا اختلّ نظام توزيع المغانم. وإرضاء الزعامة الطائفيّة إسكاتٌ للأصوات المعبّرة عن ظلم حقيقي وحرمان مبرم وتعدٍّ قائم”.

كلمة أخيرة. حين يعلو منسوب الوحدة السياسيّة في كلّ طائفةٍ من الطوائف، تزداد أزمة النظام عسراً ومؤسّسات السلطة والدولة تهالكاً، وتعظم حظوظ الجنوح إلى القوّة في إدارة التنازع الطوائفي الحاصل. لا بقاء إلاّ بعد خراب. لا بقاء للبنان إلاّ بعد خراب الطوائف الكريمة و… القاتلة. إذاً، إقتضى التعجيل بالثورة.

Print Friendly, PDF & Email
وفاء أبو شقرا

أستاذة في كلية الإعلام في الجامعة اللبنانية

Download Best WordPress Themes Free Download
Download Best WordPress Themes Free Download
Free Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
free online course
إقرأ على موقع 180  الإسلام و"الإرهاب".. واحتكار العدالة