عبدالله المصري اللبناني الروسي الذي تتلمذ في معهد تشايكوفسكي في موسكو على يد أهم أساتذة الموسيقى، أمثال قسطنطين باتاشوف ورومان ليدنيوف عرف كيف يخلق هويته الخاصة في التعددية الهارمونية وبناء القوالب الموسيقية وإضفاء الأبعاد الدرامية عن طريق استراتيجية خاصة ذات بعد إنساني عميق.
ألف إبن بلدة صليما المتنية اللبنانية كونشرتو البيانو وعزفه رامي خليفة الذي يعتبره المصري احد أهم العازفين على هذه الآلة ولحّن سمفونية “أنشودة المطر” للفنانة أميمة الخليل بصوتها الدافىء، رفقة رامي خليفة على البيانو. أعماله الموسيقية قُدّمت في أهم قاعات ومسارح العالم. فما هو جديده اليوم؟
***
حين تقرأ خبر الدعوة لإطلاق “كونشرتو العود” على مسرح “البيت الروسي”، مساء الخميس الواقع في ٢٠ كانون الثاني/يناير الحالي للمؤلف الموسيقي عبدالله المصري صاحب سوناتا البيانو “الجانب الآخر من القمر” برفقة عازف العود القدير الصوليست سمير نصرالدين، ليس بوسعك إلا أن تحمد الله على وجود حفنة من المجانين الذين لا يزالون يؤمنون بالفن وسيلة لتشكيل عالم أكثر نقاء أو على الأقل أكثر قدرة على الإحتمال. عالم تتوحد فيه العالمية والموسيقى والإنسانية، فيصبح تحريك المشاعر جزءاً من عصا المايسترو، بكل ما تحمله من رموز وألغاز ورسائل جميلة.
***
يحضرني للمناسبة قول للكاتب كورت فونيجت يُردّد فيه: “إحتم بالفن، أنا لا أمزح على الإطلاق، هو ليس وسيلة لكسب العيش فقط، إنه الطريقة الإنسانية لجعل الحياة أكثر إحتمالاً، قم بممارسة الفن، من دون أن تهتم أن كنت تقوم بذلك بشكل جيد أو سيء، الفن هو الطريقة الصحيحة لجعل روحك تنمو وتزدهر، من أجل السماء قم بالغناء وأنت تستحم، أرقص واستمع إلى الموسيقى، إحك حكايات وقصص للآخرين، أكتب قصيدة إلى صديق لك، حتى لو كانت سيئة جداً، حاول أن تمارس الفن قدر إستطاعتك، فسوف تحصل على مكافأة مجزية جداً، وهي أنك أبدعت شيئاً ما”.
***
الكونشرتو هو تأليف موسيقي غربي كلاسيكي صنف من التأليف وضع لآلة واحدة أو لعدة آلات مرافقة تقوم بالدور الرئيسي فيما تقوم الاوركسترا بدور المرافقة. في “كونشرتو العود” والبطولة المطلقة معقودة له، تسعون عازفا أجنبياً وأوركسترا عالمية، وأنامل صوليست العود اللبناني البارع الفنان سمير نصرالدين تحاور النغم. هذا الكونشرتو كان قد قُدّمَ في قطر وموسكو وعزفه الفنان شربل روحانا، واعتبره المبدع المصري أطول أعماله زمناً وأصعبها أداء. هو أشبه بقصيد سيمفوني منيع، عصي على الاستعراض المبتذل، يتحدث بلغة إنسانية حميمية حد البكاء في بعض الأحيان.
الفكرة التي تشكل إعتراضاً صارخاً على توحش الكون تعيد للموسيقى وظيفتها الجمالية الإنسانية. أسأل المصري، عن الفكرة التي تجسدت إبداعاً، فيجيب “نحن أمام عمل سيمفوني تراجيدي الطابع. ثمة نسيج درامي بين العود والأوركسترا. للعود رمزية تجسيد موسيقانا الشرق عربية مع صخب الاوركسترا العالمية الحضور. العود هنا يحمل صرخة صوتية وانسانية تعكس مرير واقعنا بعامة. فيه جرأة تحدي ما يحيطه من صخب ألوان الاَلات. نجد انماطاً مختلفة بالكامل عن العود التقليدي مع المحافظة على جذور السمع العربي. هنا الآلة تحمل أداءً تقنياً عالياً وغير معهود. هذا العمل كتبته في صيف 2012 وهو صرخة موسيقية انسانية الطابع بعد مآسي ما يسمى بالربيع العربي”.
كونشرتو العود “يستحضر إذاً آلة العود المعهودة برنينها التقليدي في عالمنا العربي وأسلوب أدائها المألوف، إلى جعلها آلة أساسيّة ومركزيّة داخل عمل تراجيدي بامتياز. التحدي الأبرز هو تأليفي محض؛ كيفية توظيف هذه الآلة تقنيًا، سواء باستنفاذها بكل قدراتها السابقة أو بفتح آفاق جديدة من خلالها، من دون تغليب الاستعراض التقني على الفكرة الموسيقية، بل التركيز على جمالية تأليفية موسيقية متينة البناء، كما يليق بالكونشرتو وتاريخه ومعناه. التحدي المكمل للأول هو من يستطيع تنفيذ هكذا عمل. هنا يكمن سر العازف سمير نصرالدين، الذي قدم العمل بأداء ساحر، ومهارة تقنيّة عالية، وأصالة سمعيّة مدهشة”، يقول عبدالله المصري.
***
انتظر عبدالله المصري اكثر من سنتين بعد إنجاز الجزء الأول من “كونشرتو العود” تسجيلاً وتحضيراً وتمريناً. تخللت هذه المرحلة سفرات الى موسكو وساعات من التسجيل مع اوركسترا “اورفيه السيمفونية” وصوليست آلات الغيتار في ثلاثي العود. “كل ذلك سبق كورونا والانهيار الاقتصادي في لبنان ومن ثم تفجير مرفأ بيروت. تابعنا تجهيز الاسطوانة، بأمل أن تصبح الامور افضل، ولكن دون جدوى. مؤخراً قررنا إطلاق العمل إيماناً منا بقيمته الموسيقية والمعنوية ووجهنا الدعوات إلى حضور الكونشرتو لمن تسمح له ظروفه المادية والصحية. وارتأينا ان يباع العمل لأسباب معنوية أولاً وليس بهاجس الكسب والربح، ذلك أن التكلفة لن تغطيها اي مبيعات مهما كانت أسعارها”، على حد تعبير المصري.
***
ماذا يحكي لنا عازف العود المنفرد سمير نصرالدين، عن تجربته الجديدة؟
يقول نصرالدين “كعازف آلة عود، لطالما كانت لدي قناعة بان هذه الآلة الموسيقية لديها القدرة على اداء اي لون او نمط موسيقي. هذه الآلة على عكس ما يعتقد كثيرون، وبرغم صوتها الخجول مقارنة مع آلات موسيقية اخرى، لديها إمكانيات تنفيذ اعمال موسيقية معقدة جداً ولكن يجب على العازف ـ لاكتساب هذه الخاصية ـ أن يكون منفتحاً فكرياً على الثقافات الأخرى وان يمتلك مخزوناً سمعياً واسعاً بالإضافة طبعاً إلى تقنيات عالية جداً في العزف تأتي من خلال التمرين والعلم والاستماع والممارسة. هذه كلها إجتمعت في “كونشرتو العود” الذي يبرهن عن المدى الاوسع لآلة العود ويفتح امامها الافق نحو الموسيقى العالمية بجدارة”.
“هذا العمل هو الاول من نوعه لآلة العود في عالمنا العربي. كونشرتو العود هو عمل متكامل ومترابط للعود والاوركسترا السمفونية بالمفهوم العلمي والكلاسيكي لقالب الكونشرتو استطاع من خلاله المؤلف د. عبدالله المصري تسخير آلة العود لخدمة العمل. الآلة بكامل طاقاتها المعروفة وغير المعروفة واستنبش منها تقنيات غير مألوفة تستنفر كل إمكانيات الصوليست وقدراته ومخزونه الثقافي السمعي ليؤدي النص الموسيقي بعمقه الفني والتعبيري والإنساني، وأختم بالقول إن كونشرتو العود لا يقل شأناً عن اعمال عبدالله المصري السمفونية الاخرى وقد اضاف على ادائي كعازف واثرى قدرتي التعبيرية كموسيقي يبحث دائما عن التجدد والتجديد”، يقول نصرالدين.
***
هذه الموسيقى الخارجة عن المألوف تدعونا بكامل طاقاتها إلى تلبية دعوتها لحضور أمسية دافئة عند السادسة من مساء الخميس المقبل في “البيت الروسي” (المركز الثقافي الروسي سابقاً). هناك سنجد “ضوء القمر” أمام أعيننا ليصير للحياة معنى أكثر عمقا وإنسانية. نعم، كونشرتو العود جعل من المستحيل حقيقة.
***
في رسالته إلى عبدالله المصري، للمناسبة، كتب الفنان مرسيل خليفة الآتي: “صديقي عبدالله، يستعيد كونشرتو العود دفء البداية على قيثارتك الاولى في ظلال صنوبرات صليما تمتلىء بالزمن الطفولي الجميل. رغم جرأة وصعوبة كتابة هذا الكونشرتو، اقتربت اكثر من ايقاع الطفولة وفتنة الأشياء من حولك. لن اكتب نقداً لأنني لست بناقد ولأن الموسيقى للسماع ولكن ساحاول ان اجد في الكلمات بعض وضوح يخيطه الخيال من حدوث أو مشاهدات: كونشرتو العود تأليف: عبدالله المصري، وعزف: سمير نصرالدين، هو انكسار الضوء على وردة خجلى. هو التجلّي بما يفيض الروح عن خريطته. هو الحب في طهره القليل وفي خطيئته. هو العود في بهاء نقرته. هو المكان في وجع الوتر. هو القمر حينما يخلد لهدأته. هو المرأة حين تستسلم للحب. هو القلب حين يُسِرّ بخبيئته. وبعد، لقد اكتمل الكونشرتو في قدرة السوليست على تفسير النوتة المستحيلة واتى بكامل سطوته كتعبير عن الارتباط الوثيق بين المؤلف والمؤدي .شكراً لك عبدالله وشكراً لك سمير. تدونون احلامكم كما تريدون، لا كما يريدون. يا ليتني كنت معكم في الاحتفال ولكنني معكم في قلب الحب، مع كثير من الموسيقى. مرسيل خليفة”.
(*) د. عبد الله هاني المصري من مواليد بيروت عام 1962. درس العزف على آلة الجيتار مع عيسى إسكاف في قرية حمانا (1977-1979) جارة بلدته صليما ودرس الموسيقى النظرية مع جوزيف أشكانيان في المركز الثقافي الاسباني – بيروت (1979-1982)، ثم تابع الدراسة الموسيقية في موسكو التي رسمت شخصيته الموسيقية (علي أيدي كبار أمثال كونستانتين باتاشوف ورومان ليدنيوف ويوري فورونتسوف ويوري خولوبوف ونيكولاي راكوف) في “كونسرفاتوار تشايكوفسكي – موسكو” حيث حصل على أعلى المؤهلات العلمية في التأليف الموسيقي. يحمل الجنسيتين الروسية واللبنانية، ويعمل محاضرا في جامعات الكويت منذ عام 1994. من مؤسسي مدرسة التأليف المعاصر في الكويت التي خرّجت مجموعة كبيرة من المؤلفين والموسيقيين الذين لمعوا في الكويت كما في محافل عالمية.
كتب المصري عددًا من المؤلفات للأوركسترا، أبرزها ثلاث سيمفونيات (1991، 1994، 2016)، كونشيرتو للكمان (2001)، كونشيرتو للبيانو (2003)، كونشيرتو للعود (2011)، كونشيرتو للتشيلو (2012)، “مطر” لميتسو سوبران، بيانو وأوركسترا (2010) إلخ.. أصدر مجموعة من الأبحاث والكتب العلمية آخرها كتاب الهارموني الذي صدر في الكويت. عضو نشط في اتحاد الملحنين الروس منذ عام 1998. وقد قدمت موسيقاه في مصر وفرنسا وألمانيا والكويت ولبنان وروسيا وسويسرا. وعواصم أوروبية أخرى أسّس في لبنان فرقة “الجبل” عام 1977 ثم فرقة “الولادة” عام 1984. عمل مع “فرقة الميادين” بقيادة مارسيل خليفة من 1977 إلى 1982.