لاجئات سوريات تحتضن أطفالهنّ.. بالدعم النفسي

تعتمد أجيال كاملة من الأطفال السوريين الذين ولِدوا في لبنان أو حتى هربوا بأعمار صغيرة على أحاديث أهاليهم عن الحرب، أحاديث هي قصص وتجارب، لحظات ثقيلة وطويلة تحولت لتكون أياماً وشهوراً وربما سنوات، لحظات تركت الإنسان عاجزاً أمام مواجهة الأقوى منه، سطوة الآلة العسكرية وقدرتها على تدمير كل شيء.

هذا العنف الأعمى والمُشرّع على المجهول منذ أكثر من عقد من الزمن، ترك وراءه آلاف من الأيتام والأرامل، ودفع بالعائلات إلى النزوح والهجرة، فتفرق شملها، ما جعل أكثرهم تحت تأثير الصدمات النفسية، وشكّل إنذاراً لنا جميعاً بأن انتهاء الحرب، لا يعني زوال تداعياتها.

تُظهر وسائل الإعلام المرأة في العالم العربي ضحيةً عاجزةً خلال الحروب، وأنها مسلوبة الإرادة وتفتقد للحلول وتهيم على وجهها مع أطفالها، بعد أن تُشرّد الحرب عائلتها وتُبعدها غالباً عن الزوج والمسكن، إلاّ أنّ المعاينة الحسية لأرض الواقع، جعلتنا نشيح النظر عن التنميط الإعلامي المفتعل، ونلتفت بإعجاب لنماذج نسوية رسمت صورة مشجعة لقدرة المرأة على بناء السلام ونشر الأمل في محيط عائلتها، من خلال رعاية أسرتها وتأمين قوت يومها والحرص على اكمال تعليم أولادها ومساعدتهم على التأقلم والاندماج مع كل المتغيرات التي طرأت على حياتهم، وفي معظم الأحيان فإن المرأة تصفق بيدٍ واحدة في ظل غياب الدور الأبوي جرّاء الخطف أو القتل أو الإصابة أو حتى المشاركة في القتال.

ولأنّ الرهان العالمي اليوم على دور صحافة الحلول التي تهدف إلى اظهار النماذج الايجابية التي حاولت تجاوز الأزمات، اخترتُ لقاء سيدات عايشْنَ الحرب السورية وانتقلْنَ إلى لبنان. توجهتُ إلى مركز إحدى المؤسسات المدنية في عين الرمانة – بيروت، وبعد التعرّف عليهن، طرحتُ عليهنّ الفكرة الآتية: “ماذا تقلن لأطفالكنّ عندما يسألونكنّ عن الحرب؟”، وبهذا السؤال حاولتُ فهم تأثير الأمهات على تصوّرات أطفالهنّ حول مفاهيم الحرب والسلام.

جاءت الإجابات لتعكس شجاعة اللاجئات السوريات في لبنان، فهنّ يعرفنَ معنى النجاة من الحرب ومعنى البقاء على قيد الحياة، وكيفية التعامل مع الصدمات التي واجهتهنّ، كموت أحد أفراد أسرهنّ، أو اختفاء أزواجهنّ وانقطاع أخبارهم، أو اصابة أحبابهنّ بإعاقات جسدية أو اضطرابات نفسية نتيجة ما يتعرضون له من مآسٍ، وكان اللافت للإنتباه في كل ما ذكرت، أنهنّ حاولن الصمود بكل معاني الكلمة؛ حاولن الهروب من مناطق القتال، بعد تعرضهنّ للكثير من العذابات الجسدية أو النفسية.

فيروز بكر: “الخيارات المتاحة أمامنا كانت صعبة جدا، فإما الخدمة العسكرية في جيش النظام وإما الانضمام إلى الأحزاب الكردية المسيطرة على المنطقة. لذلك، لجأت إلى لبنان لأُجنّبهم الدخول في خضّم صراعات لن تنتهي، ولكن اشتياقي لأمي وأبي ولوعة الغربة هما جزء من ثمن باهض أدفعه لأنني اخترت السلام”

تروي “عنود” (اسم مستعار) التي جاءت من ريف حلب إلى لبنان بعد أن مات زوجها “كانت رحلة الهروب محفوفة بالمخاطر، بين التنظيمات الارهابية والمساءلات القانونية، لأن أغلبنا لم يحمل المستندات المطلوبة للسفر كالبيانات العائلية وما شابه”، ولكن عندما وصلت إلى لبنان، نسيت كل شيء والتقطتُ نفساً جديداً واحتضنت أولادي وشاركت في العديد من ورشات الدعم النفسي”.

في بيتها قررت “عنود” أن تمضي وقتها في صناعة الحُلي والأكسسورات ومن ثم تبيعها لبعض تجار الجملة لتؤمّن مصاريف أولادها معتبرةً أنّ نجاحهم الأكاديمي سيُبعدُهم عن التطرف في كلّ أشكاله. تؤكّد “عنود” أن أولادها ما زالوا يشعرون بالخوف عند سماع أي صوت قوي، أو عند سماع صوت إطلاق الرصاص العشوائي في سماء بيروت خلال الأفراح أو الأتراح.

البناء النفسي السليم هو العامل الأساس في بناء مستقبل هؤلاء الأطفال، لأن سيكولوجيتهم تسمح لهم بتضخيم كل الأحاديث التي يسمعونها بسبب خيالهم النشط وفضولهم للمعرفة، فيُكثرون من الأسئلة عن ما حصل ويحصل..

ترفض “أم عباس” الكلام مع أطفالها عن الحرب؛ تريد أن تمحو هذه الصورة من ذاكرتهم، تقول: “الأفكار ستصبح سلوكاً، ولا أريد ان يتعلم أولادي اي سلوك عنفي، أجنبّهم مشاهدة الأخبار حتى لا أعيدهم إلى صور الجثث والجرحى والدمار التي شاهدوها بأمّ العين”.

يُعتبر تصرّف “أم عباس” مبرراً في المدرسة السلوكية، بل هو نوع من العلاج النفسي الواقعي والذي يعمل على تجنيب الإنسان المثيرات التي تعيده إلى الذكريات المؤلمة من خلال تقديم واقع جديد يسمح له ببناء تصورات جديدة حول الأحداث المستقبلية، ولأنّ “أم عباس” تمارس دورها البديهي كأم، فإنّ تأثيرها على أطفالها قد يساهم في شفائهم من الماضي العنيف ويعمل على تقديم نماذج جميلة عن الحياة والمستقبل.

“فيروز بكر” سيدة كردية في العقد الرابع من عمرها، كانت معلمة في إحدى مدارس منطقة “الأشرفية” في حلب بشمال سوريا، تقول: “شاهدت الموت بعيوني أكثر من عشرين مرة، كلّ مرة كنت أتصدّى له؛ أبعده عن أولادي وأقول في نفسي سأستمر حتى أفرح بدخولهم الى الجامعة. الخيارات المتاحة أمامنا كانت صعبة جدا، فإما الخدمة العسكرية في جيش النظام وإما الانضمام إلى الأحزاب الكردية المسيطرة على المنطقة. لذلك، لجأت إلى لبنان لأُجنّبهم الدخول في خضّم صراعات لن تنتهي، ولكن اشتياقي لأمي وأبي ولوعة الغربة هما جزء من ثمن باهض أدفعه لأنني اخترت السلام”. تتحسر وبتنهيدة تحبس أنفاسها وتقول: “دخلنا خلسة إلى لبنان في سبيل التحاق أولادي بالجامعة، ولكن عدم تسوية وضعنا القانوني في البلد حرمهم من الحصول على مقعد دراسي برغم تفوقهم في شهادة البكالوريا السورية”.

إقرأ على موقع 180  الإسلامُ روحيةٌ.. وليس حروفاً!

“أم لؤي” من دير الزور هربت نتيجة قذيفة سقطت في القرب من بيتها وابنها لم يتجاوز السبع سنوات، لم تعرف كيف تتصرف في ذلك الحين، وبعد تنقلّها مع عائلتها من بلدة الى أخرى داخل سوريا قررّت اللجوء الى لبنان، تقول: “عندما يسألني أولادي عن الحرب خصوصاً من وُلدوا هنا (في لبنان)، أجيبهم بأنّ الحرب ذكريات قديمة ونحن الآن بأمان”.

تُدرك “أم لؤي” أنها تتعامل الآن مع أولادها بعناية بالغة، فبعد أن استطاعوا التغلّب على صوت القذائف وغارات الطائرات، أعادهم انفجار مرفأ بيروت إلى نوبات القلق والخوف الشديد، مؤكّدةً أنّ أولادها لم يشفوا من تجاربهم السابقة.

تسلك التجارب الصادمة مسارين انطلاقاً من نظرية التحليل النفسي الفرويدي، الأول، ينطلق من مبدأ العنف يولد العنف ويوجّه الأجيال القادمة نحو مزيد من الانتقام والثأر، والثاني، من مبدأ التسامي إذ يمكن أن يحوّل الانسان معاناته الى أعمال فنية أو خيرية كحيلة دفاعية تُخفِّف عنه وقع ألمٍ ما مرّ به، وتقدّم الفائدة للآخرين وتقيهم مُرّ التجربة المتكررة.

يؤكد قرار مجلس الأمن الدولي الرقم 1325 على أهمية دمج خبرات وإمكانيات المرأة في عمليات حفظ السلام، ولأنّ مشاركة النساء في عملية صُنع القرار والحياة السياسية لا تزال تواجه الكثير من العقبات، فإن الدور الأكبر يقع على النساء الراعيات لعملية التربية، لأنهنّ في المجتمعات الشرقية يقضين أغلب الوقت مع أطفالهن، ولذلك فإنّ صحتهنّ النفسية تؤثر على تشكيل العالم الذي نعيش فيه لأنهنّ الأكثر قدرة على تغييرذهنّية أجيال المستقبل وتعديل استجاباتهم اتجاه المسائل المؤلمة والتجارب العنيفة وبالتالي صناعة منظور مختلف حول السلام والصراعات.

Print Friendly, PDF & Email
مايا ياغي

صحافية لبنانية

Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
free online course
إقرأ على موقع 180  الجيش اللبناني إمّا مفوضاً بالترسيم.. أو فليسحبوا تفويضهم