اعتلت صحة الرئيس “مبارك” وقلّت حركته ومتابعاته لما يحدث فى بلده وعالمه وضاقت عن الحد الأدنى الضرورى.
لم تكن الحالة الصحية لشيخ الأزهر الدكتور «محمد سيد طنطاوى» وبابا الكنيسة المصرية «شنودة الثالث» ومرشد «الإخوان المسلمين» «مهدى عاكف» توحى بقدرتهم على أداء المهام الموكولة إليهم بحكم مناصبهم.
مع اختلاف الأدوار والأحجام وطبائع البشر وأقدارهم، بدا البلد كله فى حالة جمود انتظارا لما قد تأتى به المقادير.
بمصادفات التواريخ فإن «مبارك» و«طنطاوى» و«عاكف» من مواليد العام نفسه (1928)، فيما كان البابا يكبرهم بخمس سنوات، فهو من مواليد (1923).
بالتوازى بدت الحياة الحزبية شبه مجمدة وزعاماتها تقادمت عليها السنين فى مواقعها.
كان ذلك شأن الأحزاب كلها بلا استثناء.
عندما وصل «خالد محيى الدين» زعيم حزب «التجمع اليسارى» إلى الثمانين من عمره عام (2002) اعتزل منصبه.
بحقائق الزمن فإن أى إنسان يتجاوز الثمانين من عمره يصعب عليه أن يقود عملا عاما يتطلب جهدا بدنيا ولياقة ذهنية تحت ضغوط العمل اليومى.
كانت تلك سابقة لم يتسن لها أن تستقر فى تقاليد وأعراف.
بقوة تدخل الدولة أزيح المهندس «إبراهيم شكرى» من رئاسة حزب «العمل الاشتراكى» وحُلّ الحزب عند مطلع القرن الجديد، فيما كان هو فى الرابعة والثمانين من عمره.
بتوقيت مقارب غادر «فؤاد سراج الدين» زعيم حزب «الوفد» الحياة فى التاسعة والثمانين من عمره.
ورحل زعيم الحزب «الناصرى» «ضياء الدين داود» عن الحياة بعد نحو ثلاثة شهور من ثورة «يناير» وهو فى الخامسة والثمانين من عمره.
للرجال أدوارهم فى تاريخ بلادهم، غير أن عجز البنى التنظيمية عن إنتاج قيادات جديدة تجدد شرايين الحياة فيها كان عيبا جوهريا أفضى إلى تهميش أدوارها قبل وأثناء ثورة «يناير» (2011) وما بعدها.
«نفسى يحكمنا رئيس منتخب قبل أن أموت».
كانت تلك العبارة، التى أطلقها المفكر الراحل الدكتور «مصطفى محمود»، تعبيرا عن شبه يائس من أن يحدث التغيير المرتجى حتى كاد يكون أمنية أخيرة قبل مغادرة الحياة.
جاء إلى صحيفة «العربى» متسائلا عما قد يحدث فى اليوم التالى بعد «مبارك».
كان ذلك تعبيرا عن أن مصر بجميع نخبها المؤثرة تكاد أن تتوحد رغم أى خلافات سياسية فى طلب الديمقراطية.
بتوقيت مقارب صدرت عن بعض أركان النظام تصريحات انطوت بمعانيها على إشارات بالغة السلبية عن تدهور مكانة موقع رئاسة الدولة.
«الرئيس مبارك شرف لكم وأنتم مش عاجبكم حد!» – يناير/كانون الثاني (2005).
كان ذلك تصريحا لرجل البرلمان القوى «كمال الشاذلى».
«أطالب المعارضة باحترام رئيس الجمهورية مثل حضرة العمدة!».
كان ذلك تصريحا ثانيا لوزير الداخلية اللواء «حبيب العادلى» – مارس/آذار (2005).
«الحكم يفتقد الخيال السياسى.. ومصر حبلى بالتغيير» – سبتمبر/أيلول (2005).
كان ذلك تصريحا ثالثا للدكتور «على الدين هلال» من قلب أمانة السياسات، التى يترأسها نجل الرئيس الأصغر!
«ما أنجزه مبارك لا يتناسب مع طول فترة حكمه» – مارس/آذار (2006).
كان ذلك تصريحا رابعا من داخل المنظومة الإعلامية، التى دأبت على الترويج للرئيس، على لسان «مكرم محمد أحمد».
أنهك البلد عشر سنوات كاملة تحت وطأة سيناريو «التوريث» وأنذرت أحوال المعيشة المتدهورة بانفجارات اجتماعية توشك أن تهب. «النظام فى شيخوخة.. والنخبة خائنة» كان ذلك نقدا حادا غير مألوف ورد على لسان الأستاذ «سلامة أحمد سلامة»
كادت السلطة بجميع مكوناتها أن تشبه أوراق خريف تتساقط، لا هى مقتنعة بقدرة الرئيس على الحكم، ولا هى قادرة على إكساب موقعه احتراما يعوزه.
هكذا بدت مصر قرب نهايات حكمه أقرب إلى حالة «كرب ما بعد الصدمة» ــ حسب تعبير عالم النفس الدكتور «أحمد عكاشة».
لم يكن أحد يعرف إلى أين تذهب مصر، ولا ماذا بعد «مبارك»؟
أنهك البلد عشر سنوات كاملة تحت وطأة سيناريو «التوريث» وأنذرت أحوال المعيشة المتدهورة بانفجارات اجتماعية توشك أن تهب.
«النظام فى شيخوخة.. والنخبة خائنة».
كان ذلك نقدا حادا غير مألوف فى فبراير/شباط (2007) ورد على لسان الأستاذ «سلامة أحمد سلامة»، وهو كاتب صحفى عهد عنه التأنى فى إصدار الأحكام وانضباط الألفاظ على المعانى التى يقصدها، عبر عن قدر الغضب المكتوم فى المجتمع، الذى على وشك أن ينفجر فى وجه نظام نالت منه الشيخوخة السياسية وقدر ضيق آخر بالنخبة السياسية التى تكلست فى مواقعها وأفكارها وقدرتها على اجتراح التغيير لإنقاذ البلد مما وصلت إليه.
هكذا هبت عاصفة يناير من خارج السياق، الذى ضربته الشيخوخة السياسية.
لم يكن ممكنا لقانون الطوارئ أن يوفر استقرارا أو يحمى أمنا أو يكون بديلا عن السياسة.
لم تكن الأحوال داخل “الجماعة” الأكبر حجما أفضل مما هى عليه فى قصور الحكم ومقرات الأحزاب.
صراعاتها الداخلية استحكمت وتصفيات الحسابات بين أجنحتها تفاقمت.
كان ذلك تمهيدا لإعادة ترتيب الأوراق فى مرحلة ما بعد «عاكف» بسيطرة من يوصفون بـ«القطبيين»، الذين اتهموا فى قضية تنظيم (1965)، على مقاليد ومفاصل الجماعة.
كانت استقالة «عاكف» وصعود «محمد بديع» إيذانا بمرحلة جديدة وجدت فرصتها فى عاصفة «يناير».
كانت الجماعة آخر من نزل الميدان وأول من خرج منه.
أول من عقد الصفقات وأكثر من دفع ثمنها.
فى ذروة ثورة «يناير» أطلق الشاعر «عبدالرحمن الأبنودى» تعبير «دولة العواجيز».
بعدد السنين كان أبعد من أن يُحسب على أجيال الشباب.
بغضب الثورة، كان ضد «عواجيز شداد مسعورين أكلوا بلدنا أكل».
فى صرخته «شوف مصر تحت الشمس.. آن الأوان ترحلى يا دولة العواجيز»، إيمان بالمستقبل وأجياله الجديدة «مش دول شبابنا اللى قالوا كرهوا أوطانهم»، «هما اللى قاموا النهارده يشعلوا الثورة».
لكنه لم يدع إلى أية قطيعة مع الأجيال التى سبقت وأعطت وضحت فى سبيل المعانى نفسها «يرجعلها صوتها.. مصر تعود ملامحها»، «تاخد مكانها القديم والكون يصالحها».
لم يكن قصده أن يصفى أى حسابات مع كل من تقدم فى العمر، أو أن يدعو إلى «قتل كل أب» وإلغاء أى تاريخ.
التفكير العجوز صلب دولة العواجيز.
لم تكن دولة «مبارك» عجوزة بأعمار مسئوليها الكبار بقدر ما كانت فى أفكارها وخيالها ووسائلها وخياراتها.
«قول إنت مين للى باعوا حلمنا وباعوك.. أهانوك وذلوك ولعبوا قمار بأحلامك».
لو كان نظام «مبارك» كله من الشباب فإن السقوط كان محتما.
(*) بالتزامن مع “الشروق“