ChatGPT.. خرقٌ تقنيّ أم تقنية إنتحالٍ أدبيّ؟

يفاجئنا عالم التكنولوجيا بين الحين والآخر، بتطبيقات جديدة مستندة على خوارزميات متطورة للغاية، لكن الضجيج hype حولها دائماً ما يفوق الخطوة التقنية التي تحققت فعلياً. فيكون التطنين للتقنيات محملاً بالكثير من المبالغات الدعائية، يساعدها التعطش الدائم من قبل المتابعين غير التقنيين، خاصة ممن ينتمون لأجيال تبرعم وعيها مع بدء الألفية الثانية.

في الوقت نفسه، ثمة إدعائية شركاتية إما تريد طبقاتها الإدارية العليا والمتوسطة إثبات التطور وإظهار الحداثة في إدارة مختلف المهام الوظيفية أو أن مثل هذه الشركات ربما تعتمد على نقل، اقتباس أو تبني هذه التقنية الجديدة، خاصة إذا كانت هذه الشركات تعمل في مجال تكنولوجيا المعلومات. وغني عن الذكر أن الشركة المالكة للمنتج تريد حجز موقع لها بين أكبر “لوجوهات” الشركات التقنية بالعالم، وبالطبع تحقيق الأرباح. خاصة بعد تحول شركة OpenAI عن توجه Open Source Non-Profit إلى Closed Source For Profit.

أحدث الأمثلة التي لفتت إنتباه الكثيرين مؤخراً، هو تطبيق شات جي بي تي ChatGPT، روبوت الدردشة الذي صمّمته شركة “أوبن أيه آي” OpenAI الأمريكية، استناداً على تقنيات متطورة للذكاء الاصطناعي. خوارزميات البرمجة التي صُمّم بها هذا التطبيق متطورة للغاية، وتعتمد على مفاهيم تقنية حديثة يطول شرحها، مثل التعلم العميق Deep Learning، الذي تحاكي فيه شبكات من العمليات الكمبيوترية، الخلايا العصبية للإنسان، فيما يسمى بالشبكات العصبية الرقمية أو الاصطناعية Digital Neural Networks.

بينما في الأساس، التقنيات الرئيسية التي يعتمد عليها مثل هذا التطبيق هي، معالجة اللغات الطبيعية Natural Language Processing، وتعلم الآلة الإحصائي Statistical Machine Learning. وهي خوارزميات متطورة للغاية، تمكن الحواسيب من تحليل وفهم اللغات الطبيعية، مكتوبة أو مسموعة، لتنفيذ أوامر بناءً على ما تفهمه، أو لتقييم قيمة نص مكتوب، أو لفهم الأسئلة التي يطرحها أي سائل، بهدف توفير الإجابة الملائمة للسؤال المطروح. وهو ما يقوم به تطبيق روبوت الشات ChatGPT بكفاءة مبهرة. ولكن هل هو بالأمر الجديد بالفعل؟ وأليس هذا ما يؤديه محرك البحث جوجل Google بالفعل منذ سنوات طويلة؟

انتحال أدبي تقني

نعم، ChatGPT قادر أن يوفر لك إجابات محققة، منظمة بل ومطولة إن قمت بصياغة سلسلة أسئلتك بشكل لائق وواضح. ولكن إجاباته كلها وبلا استثناء، لا تمثل أكثر من “تقنية انتحال أدبي متطورة Hi-tech plagiarism”، حسب وصف الخبير اللغوي المخضرم نعوم تشومسكي.

إن المتصفح الباحث عن معلومة، يقوم بكتابة سؤال أو كلمات مفتاحية بسيطة، فيقوم جوجل بتقديم نتائج بحث ذات صلة، ويقوم بترتيبها حسب درجة أهميتها، جودة المحتوى بها، شموليتها أو كفايتها المعلوماتية. بل يقدم جوجل منذ سنوات خدمة Rich Snippets التي توفر ملخصاً مما قام بتصنيفها على أنها أهم نتيجة بحث، وكذلك خدمة Related Questions، التي تظهر في صورة أسئلة بإجابات مختصرة أعلى صفحة نتائج البحث. ضمن خواص أخرى يوفرها جوجل على صفحات نتائج البحث مثل News Box، In-Depth Article، Knowledge Panel وغيرها. كل ما يفعله ChatGPT، هو تقديم ذات الإجابات في صورة رد يظهر على واجهة تطبيق مصممة على هيئة برنامج دردشة.

كلماتي السابقة لا تعبر على الإطلاق عن رؤية مستهزئة بما تحققه شركات التكنولوجيا من تقدم مهول في مجال البحث العلمي التقني. هي فقط محاولة لوضع الأمر في إطاره الحقيقي.

فحين ينحصر الأمر في إضافة تحديثات أو أطر وواجهات جديدة Interfaces، لتقديم ذات التقنيات التي يعلم كل من يتابع أنها ليست بالجديدة كليةً، إلا من حيث إطلاق إسم جديد عليها في أحدث تجلياتها، هذه هي الحالة مع ChatGPT. فلم التطنين المبالغ به للتطبيق على أنه كشف أو خرق تكنولوجي؟

إن لم تقتنع بما فصلته في السطور السابقة، حسناً. إليك عزيزي القاريء اقتباس من إيلون ماسك، الذي كان أحد المشاركين في تأسيس شركة OpenAI سابقاً. فقد صرح ماسك أثناء لقاءه عبر الإنترنت مؤخراً، ضمن فعاليات القمة العالمية للحكومات بدبي، قائلاً عن ChatGPT:

“ما فعله ChatGPT في الواقع أنه أوجد واجهة استخدام لتقنية ذكاء اصطناعي كانت متواجدة لسنوات عديدة”.

التعليم والوظائف

أغلب ما أثير من جدل حول هذه التقنية المتطورة مؤخراً، يتمحور حول تأثيراتها على مجالي التوظيف والتعليم. فقد أثير جدلٌ واسعٌ حول مدى إمكانيات مثل هذه التطبيقات الذكية فيما يتعلق بصنع المحتوى، وأن تقوم باستبدال البشر في عملية كتابة المقالات أو الأبحاث العلمية. ومن جهة التعليم، تدور النقاشات حول تطوير عملية التعليم إلى مفاهيم مثل التعليم المنزلي، التعلم الذاتي أو التعلم المعزز والتي توحي للكثيرين بالاستغناء عن مؤسسات التعليم النظامي أو التقليدي التي دائماً ما تواجه هجوماً من المتعلمين، أولياء الأمور والخبراء على حد سواء، خاصة من يطلقون عليه “التدريس للإختبار Teaching to Test”.

أما من جهة المحتوى المعرفي الذي يقدمه التطبيق في صورة إجابات، فإن الأمر لا يحتاج إلى شرح كبير. فقط جرّب بنفسك أن تسأل ChatGPT، أي المدرستين الفلسفيتين تتبنى، مدرسة أفلاطون أم مدرسة أرسطو؟ وحاول إقناع نفسك أن التطبيق لديه رأي خاص يمكن أن يعد رؤية فلسفية جديدة يطرحها؟

إقرأ على موقع 180  بدء العد العكسي لنظام دولي.. بقواعد جديدة

التطبيق سيقوم بذات ما يفعله محرك بحث جوجل، حين يختار أن يظهر لك في صفحة نتائج البحث SERP، مقتطفات من محتوى في صفحات على الإنترنت، تم تصنيفها على أنها أهم نتائج بحث، بناءً على قياسات خوارزميات جوجل الذكية. نعم، ChatGPT قادر أن يوفر لك إجابات محققة ومفيدة. ولكن إجاباته كما أسلفنا تمثل “تقنية انتحال أدبي متطورة Hi-tech plagiarism”، حسب وصف نعوم تشومسكي. بل إنها تُصعّب مهمة كشف الانتحال الأدبي. تشومسكي ذاته، يتبنى رؤية سلبية بخصوص تأثير مثل هذه الأداة التقنية، بصفتها قد تمثل بدعة في مجال التعليم قائلاً عن التطبيق: “لا أعتقد أن له أي علاقة بالتعليم، عدا ربما تقويضه”.

وكان تعليقه الأهم على مثل هذه التقنيات “المُوفِرة” – وليست الصانعة – للمحتوى هو “أنها مجرد وسيلة لتفادي التعلم. وطريقة التعامل مع ذلك الأمر، هو بجعل البرنامج التعليمي مشوقاً بما فيه الكفاية، بما يمنع الطلبة من الرغبة في تفاديه، فهذه طريقة لتفادي التعليم.. إنها دلالة على فشل نظام التعليم”.

إعادة التوزيع Remix

لنكن منصفين، كل محتوى Content – لغوي كان أو أي محتوى آخر- يمكن أن يعد بمثابة عملية إعادة توزيع Remix لمحتوى سابق الوجود، حتى الأبحاث العلمية. فهي تبني على آخر ما توصل إليه السابقون لتصل إلى كشف أو إثبات جديد إن أمكن، لكنها لا تبدأ من الصفر.

بتطبيق تلك الحقيقة على ChatGPT، يمكن وصفه على أنه أداة محرك بحث Search Engine، على هيئة برنامج دردشة منمقة قادرة على قراءة وفهم ما يكتبه المستخدم من أسئلة، عبر تقنيات الذكاء الاصطناعي، مثل تعلم الآلة Machine Learning، معالجة اللغات الطبيعية Natural Language Processing. تطبيق مزود بخوارزميات محرك بحث متعارف عليها، تمكنه من إيجاد النتائج والإجابات التي يريد الباحث معرفتها. تطبيق جديد لتقنيات ذكاء اصطناعي، مصممة للتعامل مع المحتوى النصي/اللغوي، من حيث انتهت تطبيقات عديدة سبقته. ربما يمكن أن نعده خطوة بسيطة إلى الأمام، ولكنه لا يمثل “ثورة تكنولوجية جديدة”، كما يظن الكثيرون.

تواجه كل خطوة جديدة للأمام، خاصة في ما يتعلق بالمجال التكنولوجي، مقاومة، انتقادات، ومخاوف مشروعة تثير الجدل والنقاشات، العلمية منها كما غير المتخصصة. وهذه المخاوف تعرضت لها كل التقنيات التي لا تتوقف عن التطور مع تقدم الزمن. حتى منذ ظهور الآلة البخارية، ودخول أجهزة التلفزيون إلى المنازل، انتشار أجهزة الأتاري Atari، والجيم بوي Gameboy. مروراً بأطباق الاستقبال الفضائية للقنوات الرقمية، وانتشار أجهزة الحاسب الشخصي بالمنازل والهواتف المحمولة بين الأنامل، خاصة بعد ازدياد ذكائها والاعتمادية عليها. ثم تطبيقات التواصل الإجتماعي بأنواعها. بل إن برامج وكالة “ناسا” الفضائية ذاتها تتعرض للنقد ذاته.. والقائمة تطول.

الجدل الصحي

ChatGPT، باختصار ودون بروباغندا، هو محرك بحث يوفر المحتوى للسائلين عبر واجهة مستخدم صممت على هيئة برنامج دردشة.

لكنه من الصحي أن يثار الجدل على المستوى الإعلامي، الاجتماعي وكذلك السياسي، حول كل تطور تكنولوجي جديد. ففي النهاية، مثل هذه التقنيات ليست مصممة لتسبح في ميتافيرس صحبة بعضها البعض دون تفاعل إنساني. بل هي من صنع البشر، ومن يصفق لها بشر، ومن يستخدمها أو يتكسب منها بشر أيضاً. والأهم، أنها لا تقوم بشيء إلا أنها تسرع وتسهل ما أراد البشر القيام به بدرجة فعالية تفوق طاقة العقل البشري العملياتية.

ChatGPT صناعة تقنية بشرية، ومن يطرح عليه الأسئلة هم بشر. بل إن الإجابات التي يقوم التطبيق بتجميعها وتلخيصها لكي يقدمها للسائل في صورة إجابة بواجهة الدردشة، هي إجابات قام بكتابتها مسبقاً، بعد قتلها بحثاً وتوثيقاً.. بشر.

وهذه هي الحقيقة التي ينسينا الانبهار إياها في كثير من الأحيان.

القرار دوماً بين أيدينا نحن البشر، فيا ترى كيف سنقرر بشكل جمعي استخدام ChatGPT ونظرائه؟

وإن ظننت أن القرار في يدي ChatGPT. أقترح عليك أن تقوم بطرح هذا السؤال في واجهة روبوت الدردشة للتطبيق الذكي، وأنظر إن كان يمكنه أن يكوّن رأيه الخاص في نفسه إذن!

تحياتي.

Print Friendly, PDF & Email
تامر منصور

مصمم وكاتب مصري

Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  ChatGPT ثورة في عالم التعليم.. هل انتهى الفرض المنزلي؟