لم أعد تلك الصحافيّة المتأهِّبة للردّ على أسئلة اجتماعات التحرير. غادرتني المهنة ولم أغادرها. وها أنا أعيد طرح تلك الأسئلة على نفسي، لحظة بدء كتابتي لمقالتي الأسبوعيّة. “الخبر اليوم” هو الحرب الروسيّة – الأوكرانيّة. بما لها وما عليها. لن أكتب، بالتأكيد، عن هذه الحرب. فلم يعد يهمّني الأمر، أبداً. أقصد الحرب. لم أعد أرى فيها، إلاّ إجراماً مجّانيّاً. استعراضاً أجوف للغطرسة والساديّة. لمهووسي السلطة والبطش. لطغاةٍ أدمنوا استخدام الناس الغلابى ذخيرةً حيّة لمعاركهم. باتوا يتلذّذون بالقتل.
والحرب مرادف القتل. وليس هناك، يا أصدقاء، طريقة مشرّفة للقتل. أو أسلوب لطيف للتدمير. لم أعد أستشفّ أيّ هدفٍ نبيل لأيّ حرب. بالمطلق. كذب علينا التاريخ، عندما أكّد لنا أنّ الحروب تقوم كي يموت الشرّ ويبقى البشر. فعلّمتنا الحياة، أنّ ما يحدث هو العكس تماماً. إذْ يبقى الشرّ ويموت البشر. بعبقريّةٍ شديدة! “فالغايات التي تُشَنّ الحروب من أجلها، لا تستحقّ ما يُبذَل في سبيلها من تضحيات”، يقول ليو تولستوي أحد أعمدة الأدب الروسي. ويوصّفها جورج هربرت الشاعر والخطيب والكاهن الإنكليزي، بقسوةٍ أكبر، عندما يخلص إلى أنّ “نتيجة الحروب هي خلق اللصوص. ونتيجة السلام هي قتلهم”. ولكن، إذا كنت لا أريد الكتابة عن الحرب الدائرة على تخوم أوروبا الشرقيّة، فلماذا إذاً إثارة الحديث عنها اليوم؟
لم تستطع كلّ المهدِّئات أن تخفّف من القلق الذي انتاب رئيس روسيا فلاديمير بوتين. هو الجزع، بمعنى أدقّ. فتحذير “دولة لبنان الكبير” له، لم يرحمه. وأكثر. لم يعطه فرصة لالتقاط أنفاسه
في الحقيقة، ثلاثة أمور استوقفتني في ردود الفعل اللبنانيّة على تلك الحرب. أوّلها، الموقف الرسمي “المدوّي” للسلطة اللبنانيّة؛ وثانيها، كيفيّة تعاطي حكومتنا العتيدة مع طلب النجدة الذي أطلقه من أوكرانيا الطلاب اللبنانيّون؛ وثالثها، موقف الشارع اللبناني الذي “استجدته” كاميرات الإعلام ليدلي برأيه، ويعلن “بوضوح” اصطفافه: “يا أيّها، مَن تدعم في هذه الحرب، حنّا أو حْنَيْن؟”.
طبعاً، لم تستطع كلّ المهدِّئات أن تخفّف من القلق الذي انتاب رئيس روسيا فلاديمير بوتين. هو الجزع، بمعنى أدقّ. فتحذير “دولة لبنان الكبير” له، لم يرحمه. وأكثر. لم يعطه فرصة لالتقاط أنفاسه. فنصّ بيان وزارة الخارجيّة والمغتربين، لا لبس فيه. نعم. لقد دعا “ذاك البيان” روسيا، بالحرف، إلى وقف العمليّات العسكريّة فوراً في أوكرانيا. وإلى سحب قوّاتها من أراضي أوكرانيا والعودة، فوراً أيضاً، إلى منطق الحوار. رجاءً لا داعي للضحك!
فحُكّامنا لا يمزحون في هكذا أمور مصيريّة. لقد خَبِرنا، هنا في لبنان، اهتمامهم وجدّيّتهم عندما وقعنا في الهاوية. أعود إلى بيان الخارجيّة. فهو استذكر الخبرة اللبنانيّة الطويلة والشرسة في الاجتياحات العسكريّة. ومن هذا المنطلق، بالذات، كان خوف السلطة اللبنانيّة على الأوكرانيّين المُكتوين بنار الحرب. لذا هزّت العصا لقيصر روسيا. “فالخوف يجعل الحمار أسرع من الحصان”، بحسب أحد أمثال بلاد بوتين الشعبيّة. تفصيل صغير أضيفه في هذا السياق. نحن اللبنانيّين، أمسينا كالفئران البيضاء. تتعلّم الشعوب في مختبراتنا دروساً، في كيفيّة التصدّي لكلّ مشكلة. لكلّ محنة. لكلّ شيء، باختصار. ولا سيّما وأنّنا نتفرّد بخاصيّةٍ نادرة (ربّما نتشاركها مع بعض الدول العربيّة).
فلقد تكفّلنا، ومذْ خرجنا من أرحام أمّهاتنا، بتحقيق أمنيات أعدائنا. بحيث، خضنا الحروب (ونخوضها دائماً) بالنيابة عنهم. حروبهم. بالأصالة أو بالوكالة. فلا فرق بين عربيٍّ ولا أعجميّ، في قاموسنا. نخدم الآخرين بريف العين. خصوصاً، عندما يكون اسم هذا “الآخرين” أميركا. أجل. فلماذا، برأيكم، تتموضع الحكومة اللبنانيّة في الخندق الأوكراني؟ قلقاً على شعبها؟ تضامناً مع رئيسها؟ خوفاً على قمحها الذي يصنع خمسين بالمئة من خبزنا (بحسب منظّمة الفاو)؟ Het, Het, Het كلا بالثلاثة!
مصدر رعب دولتنا، التي يندى الجبين خجلاً كلّما نطق مسؤولٌ فيها أو فعل فعلاً، هو شيءٌ آخر تماماً. نعم، حزرتم. دولتنا “حاضرة ناضرة” لتقديم الطاعة. للزحف على الجباه (بحسب تعبير الصحافي نصري الصايغ). الزحف أمام سادتهم الأميركيّين. وغير الأميركيّين، بطبيعة الحال. إذْ غريبٌ على سلطةٍ انتهجت سياسة “الحياد” حيال أزمات “غيرنا”، أن تستنكر العدوان الروسي قبل الأوكرانيّين أنفسهم!
سارعوا لنصرة أوكرانيا الأميركيّة الهوى. ولم يتنبّهوا إلى “الرفاق” الروس وهم يتبخترون على حدودنا. وهم يرسمون، في بلاد جيراننا، الخارطة الجديدة للمنطقة. ويحدّدون لنا، على هذه الخارطة، خطوط الطول وخطوط العرض. “إذا نامت المصيبة فلا توقظها”، ينصح المثل الشعبي الأوكراني. لكنّ حُكّامنا امتهنوا إيقاظ المصائب. لا بل تصنيعها. وبأكبر تكلفة ممكنة. على كلٍّ، لا نملك في لبنان سوى مواد أوليّة لـ”فبركة” المصائب. وتحديداً، عندما يتعلّق الأمر بالناس. بالشعب. باللبنانيّين الذين تطالهم تلك المصائب، أنّى وقعت. كيف تعاطت حكومتنا مع الـ 4000 لبناني في أوكرانيا (من أصلهم نحو 1000 طالب)؟
سارعوا لنصرة أوكرانيا الأميركيّة الهوى. ولم يتنبّهوا إلى “الرفاق” الروس وهم يتبخترون على حدودنا. وهم يرسمون، في بلاد جيراننا، الخارطة الجديدة للمنطقة
يقيم اللبنانيّون في المناطق الشرقيّة والجنوبيّة لأوكرانيا. ويعيش معظمهم حالة ضياع. لا يعرفون ماذا يفعلون. لكنّهم حضّروا حقائبهم للرحيل. للانتقال من مدينة خاركوف الشرقيّة (التي تبعد 80 كلم عن الحدود الروسيّة)، حيث العدد الأكبر منهم، إلى مناطق آمنة. اللجنة الطالبيّة هناك، ناشدت الدولة اللبنانيّة للإجلاء الفوري لكلّ مَن يريد العودة ولا يملك ثمن تذكرة السفر. تباينت الروايات بين بيروت وكييف بخصوص “سياسة” الحكومة حيال جاليتنا هناك.
فوزير خارجيّتنا يؤكّد، أنّ وزارته اتّخذت عدداً من الإجراءات. كما أنّ السفارة في أوكرانيا وضعت أرقاماً وتطبيقات بتصرّف اللبنانيّين، للوقوف على حالهم هناك. لكنّ الكثيرين من الجالية اللبنانيّة يقولون إنّ أحداً لا يجيب على سيل اتصالاتهم التي تطلب العون. مَن نصدّق؟ للأسف، اعتدنا ألاّ نصدّق حرفاً واحداً ممّا يقوله أيّ مسؤولٍ لبناني! “ففي مستنقع الأكاذيب لا تسبح سوى الأسماك الميتة”، كما يقول “الغزاة” الروس. وبعد؟
في فيلمه “حدود ثلاثيّة Triple Frontier” (2019)، يستند المخرج ج. س. شاندور إلى فكرة السقوط الأخلاقي للكائنات البشريّة. فيسرد كيف تنتهي مغامرة، كانت تبشّر بآمالٍ كبيرة، نهايةً مأساويّة لم تكن متوقَّعة. وذلك، بعد أن يجد أبطالها أنفسهم داخل سلسلة من الكوابيس الحقيقيّة المروّعة. فيتحوّلون، حينئذٍ، إلى أجسادٍ بلا أرواح. وألسنة بلا وازع. وإلى تفاهاتٍ فكريّة صادمة.
ومع بدء شرارات الغزوة الروسيّة لأوكرانيا، تظهّر بقوّة مستوى السقوط الأخلاقي في بلادنا. سقوط سحيق هبط إليه الكثير من المواطنين اللبنانيّين! فتبدّت، بسبب هذا السقوط، الانتكاسة العارمة للقيم والمعايير في لبنان. لا بدّ أنّكم لاحظتم، كم ضاقت الحياة في مجتمعنا! صحيحٌ أنّ الهموم والمحن، تؤكّد دراسات علم النفس الاجتماعي، تقتلع جذور الإنسانيّة والتعاطف من نفوس البشر. لكن، أن يصل الأمر إلى النظر إلى حربٍ (كادت تشعل العالم) كفسحةٍ جديدة للتنمّر على النساء الأوكرانيّات والروسيّات وتسليعهنّ، فهي الكارثة بذاتها!
أيُعقَل ألاّ يستطيع “الذكر اللبناني” أن يفكّر، إلاّ من خلال أعضائه التناسليّة؟! وأن يرمي بقذارات تعليقاته على السوشيل ميديا؟ ما هذا الخواء والحقارة والرذالة التي يرتضيها لنفسه؟! والأسوأ منه، بعض إعلامنا الذي سارع لإعداد تقارير تثير الشفقة على الحال الذي وصلنا إليه. Vox pop مع “ذكور لبنانيّين”، حصراً، يتقصّى مواقفهم. يسألهم المراسلون، بحماقةٍ منقطعة النظير، ما إذا كانوا “مع” الروس أم الأوكرانيّين؟ كما لو إنّنا نسأل عن فريقيْن يخوضان مباراة في كرة القدم. يحتار أحدهم بماذا يجيب، لكونه “يحبّ” الروسيّات والأوكرانيّات، على حدٍّ سواء!! سفالة ما بعدها سفالة يا لبنانيّين.
أيُعقَل ألاّ يستطيع “الذكر اللبناني” أن يفكّر، إلاّ من خلال أعضائه التناسليّة؟! وأن يرمي بقذارات تعليقاته على السوشيل ميديا؟ ما هذا الخواء والحقارة والرذالة التي يرتضيها لنفسه
كلمة أخيرة. قد يكون scoop الحرب المشتعلة على ضفاف البحر الأسود، ما سجّله السفير الأوكراني في لبنان. فلقد شارك السيّد إيهور أوستاش مع مجموعةٍ من المواطنات الأوكرانيّات في اعتصامٍ أمام السفارة الروسيّة في بيروت! سلوكٌ يُعتبَر “سابقة” في تاريخ العلاقات الديبلوماسيّة في العالم. أيُعقَل، يا سعادة السفير؟! فأنت المبعوث الرسمي لبلادك، وتتمتّع بأعلى رتبة ديبلوماسيّة. سعادتك، تمثّل أوكرانيا لدى حكومة لبنان المضيفة. وما عليك إلاّ أن تفاوض وتقيم الاتصالات الضروريّة لحشد موقفٍ داعم لبلدك. أن تنشر المعلومات (الخاصّة ببلدك). وتحافظ على العلاقات السليمة والسلميّة، مع الدول الأخرى. وعلى التحالفات، في الأوقات الصعبة. عملك يتركّز، كذلك، على السهر على مصالح مواطنيك حيث هم. أمّا أن تحمل اللافتات وتشكو وتنعى وتحتجّ وتعتصم وتتظاهر ضدّ نظامٍ ما، وعلى أرضٍ بعيدة عن هذا النظام، فهي المهزلة بعينها. لكنّك في لبنان. في بلد المهازل المتناسلة. فلا عتب عليك. اقتضى التذكير.