ينقسم المرشحون الى فئتين، الاولى تمثل السلطة السياسية الحالية بموالاتها ومعارضتها، والثانية تمثل احزاباً معارضة لم تذق بعد نعيم السلطة وحولها قوى ومنظمات وهيئات معارضة لم تستطع على مدى عامين ونيف من عمر الانتفاضة الشعبية التي انطلقت في 17 تشرين الاول/ أكتوبر عام 2019 ان تتفق على برنامج ولا على قيادة موحدة ولا على لوائح مرشحين موحدة في كل لبنان.
تأتي الإنتخابات أيضاً في ظل مناخ مستمر من التشكيك بأصل إجراء الإنتخابات، في ظل ميل أكبر للقول إن القوتين المقررتين وهما حزب الله والولايات المتحدة، لا يريدان تأجيل الإستحقاق الإنتخابي. كما تأتي الإنتخابات في ظل واقع إجتماعي وإقتصادي ومالي غير مسبوق في تاريخ لبنان يُهدد بإنفجار إجتماعي، وهو الأمر الذي جعل أغلبية الناخبين يتعاطون بلا مبالاة مع الإنتخابات.
ووفق إستطلاع رأي إنتخابي أجراه مدير مكتب البحوث والإحصاء كمال فغالي فإن أولويات اللبنانيين المعيشية (طبابة وصحة ودواء وحروقات وغذاء) تتفوق على العناوين السياسية بما فيها سلاح حزب الله (حوالي 7% إعتبروا أن هذه القضية تعنيهم)..
ويزيد الطين بلة أن قوى السلطة نفسها أظهرت وتظهر استخفافا مع ما حصل خلال العامين الماضيين، بدليل أنها قررت إعادة ترشيح معظم الوجوه السابقة نفسها تقريباً، مع بعض الاستثناءات الطفيفة، ولكن ابرز تطور في إنكفاء تيار المستقبل عن المشاركة في الانتخابات بعد اعلان رئيسه سعد الحريري عزوفه عن المشاركة فيها ورمي الحرم الحزبي على كل من يشارك فيها من تياره. وقد استجر هذا القرار عزوف رؤساء الحكومات السابقين الثلاثة الاخرين عن المشاركة ترشيحاً (نجيب ميقاتي، فؤاد السنيورة، وتمام سلام) وبالتالي فقد أدى ذلك إلى ترك المكون الطائفي السني امام تشتت وفراغ لا بد من ان تحاول شخصيات سنية خرجت من رحم تيار المستقبل واخرى مستقلة أو من خصومه أن تملأه. امام هذا المشهد من الصعب التكهن بالنتائج التي ستأتي بها صناديق الاقتراع لجهة تمثيل الطائفة السنية التي لها 27 مقعدا ناهيك عن بضعة مقاعد يتم تحصيلهم من حصة طوائف اخرى بأصوات الجمهور السني.
وفي الجانب الشيعي، اكد تحالف الثنائي حزب الله وحركة امل تثبيت تحالفهما المستمر منذ ثلاثين عاما وقررا خوض الانتخابات تقريبا بالوجوه نفسها التي كانت في مجلس النواب الحالي باستثناءات طفيفة (حزب الله غيّر اثنين من نوابه وحركة امل غيرت اربعة، ثلاثة منهم من الشيعة وواحد درزي). ووفقا لخطاب الثنائي فانهما يركزان على فوز حلفائهما بسبب غياب مكون شيعي يستطيع مقارعتهما في مناطق نفوذهما. وعلى الرغم من ان الاتهامات الصاخبة لحركة امل بالفساد فان حزب الله ينأى بنفسه عما كان طرحه من شعار للانتخابات النيابية عام 2018 وهو محاربة الفساد ليلجأ الى سياسة الهروب الى الامام عبر استخدام المقاومة شعارا له تحت عنوان “باقون، نحمي ونبني” في محاولة منه لتجنب الكلام عن اسباب فشله الذريع في تحقيق شعاره السابق في محاربة الفساد، كما انه لا يملك اجابة على كيفية مواجهة هذه الآفة المخيفة التي تنخر في عظام الكيان اللبناني بكل مؤسساته. واستطرادا هنا فان حزب الله مع كل نواياه الحسنة في محاربة الفساد لا يستطيع فعل ذلك لانه بطبيعة تركيبته هو حزب طائفي مذهبي يتزعمه رجل دين شيعي، وبالتالي فان ملاحقته لاي فاسد من اي طائفة غير الطائفة الشيعية سيُردُ عليه بأن من كان منزله من زجاج لا يستطيع رشق منازل الاخرين بالحجارة. وقد جرّب حزب الله ذلك عندما حمل ملفاً ضد رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة فكان الرد من دار الفتوى بان السنيورة “خط احمر” وكذلك حصل الامر عندما حمل ملف حاكم مصرف لبنان فأتاه “الخط الاحمر” من البطريركية المارونية. يصبح السؤال كيف لحزب شيعي ان يطرح موضوع الفساد عند السنة والموارنة ولا يطرح موضوع الفساد في بيئته أولاً؟
وعلى الجانب الاسلامي ايضا، هناك الصراع المحتدم في طائفة الموحدين الدروز، اذ تنحصر مخاوف الزعيم الدرزي وليد جنبلاط الذي يراس الحزب التقدمي الاشتراكي مما يصفه محاولات تحجيمه من قبل حزب الله عبر الحلفاء الدروز للحزب، وبصورة اساسية طلال ارسلان ووئام وهاب، ومن المعروف ان حصة الدروز من مقاعد المجلس النيابي تبلغ ثمانية مقاعد، ولكن منذ اول انتخابات نيابية بعد انتهاء الحرب الاهلية عام 1992 كان جنبلاط يلعب دور “بيضة القبان” في قوى السلطة وكان عبر تحالفاته الانتخابية يحصل على معظم المقاعد الدرزية وعلى عدد من المقاعد المسيحية والسنية ليرفع عديد كتلته النيابية الى 12 نائباً، لكن هذه المرة مع غياب تيار المستقبل السني واستشراس القوى المسيحية في استعادة كل مقاعدها من الطوائف الاخرى فان جنبلاط سيواجه ليس فقط احتمال خسارته للمقاعد المسيحية والسنية بل أيضاً بعض المقاعد الدرزية مما يسقط عنه في الصراع السياسي اللبناني صفة “بيضة القبان”، وهذا ما جعله يرفع نبرة خطابه السياسي باتهامه حزب الله بمحاولة محاصرته وذلك في محاولة لشد العصب الدرزي حول زعامة نجله تيمور المرشح عن أحد المقعدين الدرزيين في دائرة الشوف.
وعلى المقلب المسيحي، فان “ام المعارك” ستكون بين التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية، ربطاً بالإستحقاق الرئاسي في الخريف المقبل. وفي حين تركز القوات على ما تصفه الفشل الذريع للتيار الوطني في تحقيق الاصلاح الذي وعد به على الرغم من وصول مؤسسه العماد ميشال عون الى سدة رئاسة الجمهورية وتوليه غالبية المقاعد المسيحية في الحكومات المتعاقبة لعهده الممتد منذ اكثر من خمس سنوات، تركز حملات التيار الوطني على ما تصفه بـ”التاريخ الدموي للقوات” و”على غدرها بحلفائها”، ان لجهة ضربها تفاهم معراب مع التيار الوطني الحر او لجهة “طعنها بالظهر” حليفها السني سعد الحريري. وان كانت قرقعة المعركة بين الطرفين تطغى على ما عداها مسيحياً، هناك قوى مسيحية اخرى تطمح للإستفادة من هذه المطاحنة لتحقيق خرق ما او تحسين مواقعها الحالية، ومن هذه القوى حزب الكتائب اللبنانية بقيادة النائب سامي الجميل (ابن الرئيس السابق امين الجميل وحفيد مؤسس الحزب بيار الجميل) الذي خرج طوعا من نعيم السلطة بعد ان امر وزراءه ان يستقيلوا من حكومة سعد الحريري الأخيرة واستقال نواب حزبه أيضاً في صيف العام 2020 من المجلس النيابي الحالي على امل ان يحصد نتائج انتقاله الى المعارضة ومحاولة تماهيه مع حركة المجتمع المدني التي توسعت شعبيا بعد انتفاضة تشرين الاول/ أكتوبر 2019. كما ان تيار المردة الذي يقوده النائب والوزير السابق سليمان فرنجية يطمح الى تاكيد زعامته المسيحية الشمالية من باب معارضته للرئيس عون وعدائه التاريخي للقوات اللبنانية على امل ان يعزز حظوظه في الانتخابات الرئاسية في تشرين الاول/ أكتوبر المقبل.
اما المكون الثاني، فهو احزاب من خارج المنظومة الحاكمة وقوى وحركات ناشئة تحت عناوين المجتمع المدني والتغيير الشعبي ومقاومة الفساد. ومن ابرز قوى هذا المكون هناك الحزب الشيوعي اللبناني العابر للطوائف والمناطق والذي انهى للتو مؤتمره التنظيمي من دون اي تغيير يذكر في قيادته كما في لغته السياسية التي تعاني انفصاما حادا بين رؤيته للصراع في شقيه الخارجي والداخلي الى درجة يبدو معها لبنان وكأنه كوكب قائم بذاته لا يتأثر ولا يؤثر في الصراع القائم عالمياً، فهو اكد في وثائق مؤتمره على مواصلة عدائه لـ”الامبريالية الامريكية” وحلفائها الذين تمتد خريطة تواجدهم على امتداد اليابسة في الكرة الارضية ولكن الاهم منها العداء للكيان الصهيوني الغاصب لفلسطين الذي يعتبر حليفا استراتيجيا لامريكا ويطرح الحزب شعار المقاومة العربية الشاملة لهذا الكيان الذي باتت دول الخليج تتراكض للتطبيع معه، اما في الداخل فان الحزب الشيوعي لا يزال يتغنى بتاريخه المقاوم بحيث انه كان الحزب اللبناني الذي اطلق المقاومة ضد “اسرائيل” عند غزوها للبنان عام 1982 وفي الوقت نفسه ينأى بنفسه عن المقاومة القائمة حاليا ضد هذا الكيان وتتمثل بحزب الله تحت شعارات ليبرالية تتغطى بمحاربة الفساد، وهو بهذا المعنى، يعادي الامبريالية وحلفائها نظريا ويتحالف موضوعيا مع جماعتها في الداخل الذين جاهروا بمواقفهم الداعية لـ”محاربة الاحتلال الايراني” و”نزع سلاح المقاومة”. وهناك في هذا المكون رئيس التنظيم الشعبي الناصري اسامة سعد الذي ينحصر نفوذه في مدينة صيدا الساحلية والذي كان على الدوام حليفا لحزب الله ولكنه قرر هذه المرة النأي بنفسه عن هذا التحالف “لان الحزب بات موضوعيا حليفا لقوى الفساد في السلطة”، على حد تعبيره.
امام هذه الخريطة يبقى السؤال عن دور ما يسمى بالمجتمع الدولي وقواه الداخلة على خط الانتخابات بقوة في محاولة منه لتغيير الاغلبية الحاكمة، (على وجه الخصوص الولايات المتحدة) والذريعة التي يستخدمها هؤلاء هي الفساد المستشري في كل مؤسسات الدولة اللبنانية، وهي ذريعة تشكل ادانة لكل قوى هذا المجتمع الدولي لانها وعلى مدى ثلاثين عاما كانت تغذي قوى السلطة وهي على بينة بادق تفاصيل فسادهم وسرقاتهم، فالقاصي والداني يعلم ان ما من قرش يدخل الى لبنان او يخرج منه الا عبر عاصمة راس المال نيويورك، فكيف يعقل ان تسرق منظومة السلطة عشرات المليارات من الدولارات لتخزنها في مصارف هذا المجتمع الدولي من دون معرفته؟ ان التركيز على موضوع تغيير الاغلبية الحاكمة فيه الكثير من قصر النظر السياسي ان لم نقل الغباء. فالاغلبية في لبنان كما الاقلية هما وهميتان الى حد كبير. فلنأخذ مثلا الاغلبية الحالية التي تتشكل نواتها الصلبة من الثنائي الشيعي والتيار الوطني الحر وتيار المردة والحزب السوري القومي الاجتماعي وبعض النواب المستقلين، فنجد ان هناك صراعا عنيفا بدأ منذ اللحظة الاولى لانتخاب الرئيس ميشال عون قبل خمس سنوات بين حركة امل والتيار الوطني الحر كما ان صراعا مشابها يدور بين التيار الوطني الحر وتيار المردة، وفي مقلب الاقلية الاخر، فان ما بين تيار المستقبل والقوات اللبنانية والحزب التقدمي الاشتراكي من خلافات وصلت الى حد اتهام رئيس المستقبل سعد الحريري لـ”حليفه اللدود” سمير جعجع قائد القوات اللبنانية بـ”الطعن بالظهر”. لذلك وبمعزل عمن سيشكل الاقلية او الاكثرية في السلطة التشريعية فان كلا القوتين سيكون وهميا اذ حتى لو خسر حزب الله وحلفاؤه الاكثرية ولنفترض انه حصل خرق ما في المقاعد الشيعية الـ 27 وهو أمر مستبعد، هل هناك اية امكانية لعدم انتخاب مرشح الثنائي الشيعي لرئاسة المجلس النيابي؟ او هل هناك اية امكانية لقيام اية حكومة من دون ممثلين لهذا الثنائي؟
خلاصة الامر ان الانتخابات النيابية المقبلة لن تكون سوى عملية الهاء لتمرير الوقت بانتظار ما يحمله الصراع الدولي المحتدم على اكثر من خط من الجبهة الروسية الاوكرانية التي ستعيد رسم الخريطة السياسية للعالم، الى جبهة مفاوضات فيينا لعودة ايران الى الاتفاق النووي وهي عودة ستؤدي إلى إعادة رسم خريطة الصراع في منطقة الشرق الاوسط.
بانتظار ذلك لا باس بقليل من التسالي الانتخابية لعلها تحرف الانظار عن مآسي الفقر والجوع والعوز التي بات اكثر من سبعين بالمئة من الشعب اللبناني يرزح تحتها.