المعادلة السورية الصعبة.. دولة قوية موحدة في قلب الفوضى!

في الميثولوجيا الإغريقية كان "يانوس" هو "إله البوابات". حارس المفترقات الكبرى. ينظر إلى الماضي والمستقبل معًا من دون أن ينتمي إلى أي منهما. لم يكن إلهاً للحرب أو للسلام لكنه لم يكن غريباً عن الإثنين معاً. كان صاحب الكلمة الفصل عند التحول من عهد إلى عهد، ومن نظام إلى آخر. وكما يقول الكاتب السوري عماد فوزي شعيبي "لمنطقتنا بوابة شبيهة بيانوس اسمها بلاد الشام".

بلاد الشام، التي سالت وما تزال دماؤها منذ قرن ونصف من الزمن لم تعد جغرافيا جريحة فقط. هي المعبر الضروري نحو شكل الشرق الأوسط الآتي. من يدخل؟ من يخرج؟ من يتحكم بالممر؟

غير أن سوريا لا تصنع النظام القادم وحدها. صحيح أنها هي الشرط الذي لا يقوم نظام إقليمي من دونها. لكنها محكومة، حسب علم الأساطير، بالعبور من السلم إلى الحرب والعكس صحيح. من الازدهار إلى الفوضى والعكس صحيح.

في سوريا، ندر أن تجد صراعاً بوجهة واحدة. ولا حرباً واحدة. ولا خصم ثابتاً. هكذا يقول لنا التاريخ. هذا ما يشي به الحاضر. منذ العام ٢٠١١ والأرض السورية تتحول من مسرح لثورة شعبية إلى ساحة لاشتباك معقّد متعدد الأبعاد: صراع على سوريا وصراع في سوريا. صراع داخل الطائفة. صراع بين الطوائف. صراع على الطوائف. صراع بين القوميات. صراع حول الموقع الإقليمي. صراع بين أهل الإقليم على سوريا التي يريدون. صراع دولي يبدأ من المياه الدافئة ولا ينتهي في الصحارى الباردة. كلما استعرت النار الطائفية ابتعد هدف الوحدة السورية.. ليتحول الهدف الى إعادة تشكيل سوريا، نظاماً وجغرافية وسردية. واليوم بعد أكثر من عقد ونصف على النزف تتكرس فرضية أن الفوضى هي الممر الالزامي للوصول إلى نظام سوريا الجديد. ما يعني أن سوريا الموقع باقية بقدرها. سوريا الناس باقية بأقدراهم. سوريا الجغرافية باقية بقوة الطبيعة والآلهة، بينما سوريا النظام تُكتب بالفوضى.

الصراع الطائفي في سوريا ليس اختراعاً جديداً. له جذور ممتدة إلى ما قبل حقبة الاستعمار الفرنسي. الفارق انه منذ الانتداب الفرنسي حافظت سوريا على توازنها الطائفي الهش من خلال دولة مركزية مؤسساتية أمنية مترامية الأطراف. لكن الحرب الأخيرة حطّمت هذا التوازن وحوّلت الهويات الطائفية من وجوه صامتة إلى أدوات عنف مستطير. كل طائفة تبنت سردية وجودية مختلفة. العلويون يخشون أن يكون سقوط النظام نهاية وجودهم. تمزقوا بين عائلات أمن ضد عائلات مال. مناطق جبلية ضد أخرى شاطئية. أبناء المؤسسة ضد الطامحين. أما المسيحيون فقد رأوا في المعارضة تهديداً يشبه ما حدث لمسيحيي العراق. الدروز اختاروا الحياد التكتيكي. أما المسلمون السنة وبرغم كثرتهم تفرّقوا بين مرجعيات ودول وخطابات. بين من أراد ثورة مدنية ومن حمل السلاح تحت شعارات دينية. بين المدن والريف. الإخوان والسلفيون. المقيمون واللاجئون والمنفيون. وكأن الوطن السوري تفكك إلى جزر طائفية منفصلة لا يربطها إلا الموقع على الخريطة.

الطوائف لم تكن ضحايا فقط. بل أيضاً أدوات في لعبة دولية كبرى. هذا الصراع على الطوائف لا من أجلها حوّل أبناءها إلى أوراق في بازار النفوذ. ناهيك عن عبء إدارة التناقضات الاستراتيجية التي طغت على سياسات الدولة المركزية التي انعكست على الطوائف وليس لأجلها. كرد فعل على ذلك ومدفوعا بشخصية النظام السابق القمعية والدموية تحوّل العنف إلى ثقافة حاضرة في كل مدينة وقرية وطائفة ومؤسسة وعشيرة وعائلة. تم تدمير الثقة الوطنية بين أبناء سوريا.

تحوّلت الطوائف إلى كيانات منفصلة. أصبحت موضوعاً للمنافسة لا طرفاً في الوطن. وهنا ظهرت مرحلة الصراع على الطوائف من قبل قوى خارجية ترى في كل طائفة ورقة في لعبة إقليمية كبرى. إيران احتضنت العلويين وبعض الشبكات الشيعية. تركيا ركّزت على المعارضة السنية المرتبطة بها. الولايات المتحدة استخدمت الورقة الكردية لتثبيت نفوذها. إسرائيل تعاملت مع الدروز والأقليات الحدودية كخط تماس. أما روسيا فدعمت بقايا الدولة السورية العميقة حماية لنفوذها ووجودها العسكري.

النقطة الأخطر أن النظام القادم في سوريا لا يولد من صناديق الاقتراع أو عبر الاستفتاء أو موائد المصالحة. بل على الأرجح من ركام الحرب. كل طرف يسعى لفرض نظامه عبر السيطرة لا عبر الشراكة. والفوضى بدل أن تكون مرحلة انتقالية باتت أداة إنتاج النظام المقبل. وهذا ما يجعل كل دماء تسفك اليوم ليست عبثية في نظر اللاعبين. بل ضرورية لـتطهير الطريق نحو نظام ما بعد الحرب. هنا تصبح الجريمة مؤسسة من مؤسسات المستقبل

اليوم الرهان الأكبر ليس فقط على من يحكم دمشق. بل على ما سيخرج من بوابة دمشق نحو الإقليم. منذ الحرب أصبحت سوريا مسرحاً لإعادة توزيع النفوذ بين إيران وتركيا وروسيا والولايات المتحدة. سوريا كموقع ليست دولة عادية. قد يكون موقعها نعمة بالجغرافيا لكنه نقمة في الجيوبوليتيك. من هنا فإن مصيرها لا يُرسم في دمشق وحدها بل في غرف القرار الإقليمي والدولي. القول بأن سوريا الموقع قدرٌ يعني أن هذه البلاد ستبقى موضوع نزاع مرير وطويل. ولن تنجو من هذا القدر إلا بتحقيق معادلة صعبة جدا: بناء دولة قوية موحدة في قلب الفوضى.

إقرأ على موقع 180  القضاء اللبناني بين حدي الإنكسار أو الإنتصار

لم تعد الفوضى شيئاً يُمكن تجاوزه. بل لربما أصبحت الوسيلة الأساسية لإنتاج النظام الجديد. كل دم يسفك وكل تهجير وكل تغيير ديموغرافي وكل معبر حدودي تتم السيطرة عليه هو حجر أساس في بناء مرحلة ما بعد الحرب. هذه المقاربة تستطيع خلق توازن سلبي في المنطقة. استقرار هش لكنه قابل لإدارة الموقع والمرحلة. مع الوقت يتم ترميم الدولة قطعة قطعة، طوبة طوبة، عبر إعادة تدوير النخب وخلق شبكات اقتصادية عابرة للطوائف.

النقطة الأخطر في المشهد كله هي أن النظام القادم في سوريا لا يولد من صناديق الاقتراع أو عبر الاستفتاء الشعبي ولا من موائد المصالحة. بل على الأرجح من ركام الحرب. كل طرف يسعى إلى فرض نظامه عبر السيطرة لا عبر الشراكة. والفوضى بدل أن تكون مرحلة انتقالية باتت أداة إنتاج النظام المقبل. وهذا ما يجعل كل دماء تسفك اليوم ليست عبثية في نظر اللاعبين. بل ضرورية لـتطهير الطريق نحو نظام ما بعد الحرب. وهنا تصبح الجريمة مؤسسة من مؤسسات المستقبل. ويعاد تعريف الوطنية كوظيفة لا كقيمة.

سوريا التي عرفناها لم تعد موجودة. ما نشاهده الآن ليس دولة موحدة بل مشهداً فوضوياً تحكمه توازنات محلية وإقليمية. الخليج يبادر دفاعاً عن سوريا موحدة. الغرب مرتبك بين أميركا التي تريد دولة مركزية واحدة يُمكنها استثمار موقعها ومواردها وبين أوروبا التي لا تقارب أي أمر إلا من زاوية مصالحها الضيقة، فتتقاطع مصلحتها مع دعاة وحدة سوريا مخافة التهجير والترنسفير الذي سيرتد إليها من خلال شواطىء جنوب المتوسط.. إسرائيل تلعب بالنار ولا تريد سوريا الدولة والجيش قوية وموحدة. أما روسيا وإيران فإنهما تبحثان عن أوراق بقاء أو تخفيف أضرار. وسط هذا الركام تتصارع الأوهام مع الوقائع بينما الحقيقة الوحيدة الثابتة هي أن النظام القادم يكتب بالدم لا بالحبر.

لكن التاريخ علمنا أن الجغرافيا يمكن أن تكسر. وأن المصالح تتغيّر حين تتبدل موازين القوى. فهل تكون سوريا مرة جديدة مقبرة المشاريع أم رحم التوازنات الجديدة؟ لا أحد يملك الجواب لأن سؤال سوريا المستقبل يُطرح ليبقى مفتوحاً.

نحن أمام لحظة لا يُكتب فيها مصير سوريا فقط. بل تُرسم خطوط النظام الإقليمي المقبل. فإما أن تبقى البوابة مغلقة ويظل المشرق محكوماً بالارتباك، أو تفتح وتمر المنطقة إلى زمن جديد له وجهان كما ليانوس، “إله البوابات”.

– بالتزامن مع “الشروق

(*) اللوحات للفنان التشكيلي السوري نذير اسماعيل

Print Friendly, PDF & Email
طارق زيدان

كاتب سعودي

Download Nulled WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  أوكرانيا بين خيارين: مزيد من الإستنزاف أو التفاوض