بالنسبة لجيلي كانت صحيفة “السفير” صباح يومنا، لا أذكر واحداً من أترابي لا يقرأها يومياً، ولا أذكر واحداً منّا لم يحفظ أسماء الكتّاب فيها، من افتتاحياتها في الصفحة الأولى إلى مقالاتها وتعليقاتها في صفحة الرأي، وكم كنّا نستغبي من خانته ذاكرته فنسب مقالة إلى غير كاتبها.
حين صدرت “السفير” ذات ربيع من عام 1974، كانت يومية والدي صحيفة “الحياة” وكان من المحظورات الفاحشات إدخال صحيفة يسارية أو يمينية أو حزبية إلى منزلنا، كان أبي يُردّد: هذه الأحزاب ذات الشمال وذات اليمين ستحرق لبنان وتجعله خراباً.
يا إلهي.. كم كان والدي مُحقاً وكم كان على حق.
ولكن كيف يمكن أن ألوذ من إغراء “السفير”؟
لم يكن باليد حيلة سوى قراءتها في منازل الأتراب والأصدقاء، وأكبرُنا لم يبلغ حينها سن الرابعة عشرة. لم يستغرق الأمر أشهراً معدودة حتى رفع والدي الحظر عن الصحيفة المغضوب عليها. سألتُه ما الخطب؟ فأجاب: هي لبنانية عربية، لبنانيتها لا تناقض عروبتها وعروبتها لا تناقض لبنانيتها.
عقّدتها يا أبي، قلتُ ذلك محدثاً نفسي، ولكن لا همّ لي بذلك ولا شأن، فالمهم أن “السفير” تياومت و”الحياة” في منزلنا، وصرنا أبي وأنا، نتبادل الصحيفتين إلى أن توقفت الثانية في عام 1976.
ليس في الذاكرة أن يوماً أغرب أو أمسى لم أقرأ “السفير”، كانت الصحف الأخرى من المتبدلات والمتحولات اليومية، فيما ثابتة “السفير” رافقت يوميات المراهقة والشباب والكهولة، لم تنافسها إلا “الحياة” في مرحلة صدورها الثانية عام 1988، وهكذا عادت ثنائية الصحيفتين لتلازم الثلاثيني الذي غدا بعدما لازمت الفتى الذي كان.
***
باكراً بدأتُ الكتابة في “السفير” عن طريق الزميل المحترم جهاد الزين، إذ أفرد لي مساحة في صفحة الرأي ربما لم تتوفر لغيري ممن كان في بداية طريقه وفي النصف الثاني من عشرينياته، كانت أولى المقالات من أجزاء أربعة، وفي الثالثة منها كنتُ في زيارة “السفير” بلا موعد مسبق، قيل لي في ركن الإستعلامات إن “الأستاذ طلال” يريد رؤياك.
ـ أنا؟
ـ نعم.. لحظة من فضلك.
لم تطل اللحظة، وبعدها قال لي عامل الإستقبال إن “الأستاذ” ينتظرك بعد ثلاثة أرباع الساعة.
غريب أمر “الأستاذ” ماذا يريد؟ ماذا يروم ويبغي؟ عشرات المترادفات من أفعال سبر الأغوار والسرائر اجتاحت مخيلتي ولم يتوقف زحفها إلا بعد أن ناداني المنادي وقال: الأستاذ بإنتظارك.
دخلتُ إلى غرفة “الأستاذ” في الطابق السادس، وإذ به يخرج من وراء مكتبه ويدعوني إلى الجلوس وجهاً لوجه. ربما لاحظ ارتيابي فبادر بالحديث وعلى محياه ابتسامة وقال:
ـ سألتُ عنك وراجعتُ بعض مقالاتك في أكثر من أسبوعية، لكن سلسلة مقالاتك في “السفير” مميزة، وأبوابها مفتوحة لك متى شئت.
أكثر من ساعة دام اللقاء الأول، وخرجت إثره بإنطباعات أبرزها الآتي:
لا يتحدث الأستاذ طلال سلمان بـ”أستاذية” هي تليق به بالأصل، يستمع أكثر مما يتكلم، يتحدث بعفوية ولا ينقب عن المفردات والمصطلحات كي يوحي لمحدثه أنه من عباقرة الزمان، يملك قدرة لافتة بإزاحة حواجز غربة المكان والزمان وفوارق العمر، في ملامح وجهه خجل طفولي يجعل من يجالسه يتساءل هل هذا طلال سلمان الأستاذ الكبير؟
***
لم يحصل أن عملتُ في “السفير” ولكن كتاباتي على صفحاتها غدت شبه دورية منذ عام 1989 ولغاية توقف نبض أوراقها، ولم يحصل أيضاً لقاء آخر مع الأستاذ طلال إلا بعد عامين من أول لقاء، كنتُ حينها في قناة “المنار” وطلبتُ موعداً لإجراء حوار معه حول مسيرته المهنية، لاقى طلبي ترحيباً فوق العادة منه ودعاني للغداء في مكتبه وفي الأثناء قال:
ـ أنا “شغِيل” عملي هو “العتالة”، دعنا نُحضِر سوياً لهذا الحوار، نأخذ وقتنا، فيتحقق لك النجاح وأفوز أنا بالإرتياح، ومع أننا اتفقنا على مواعيد مفتوحة، فإن واحداً منها لم يلتئم ولم يتم، ويكمن السبب في عاملين واحد منهما أن ضيوف برنامجي كانوا محددين مسبقاً لشهرين إلى الأمام، وهذا عنى أن آخر الحلقات ستكون معه، والذي حدث أن الأستاذ طلال إتصل بي وقال قبل أسبوعين من توقف البرنامج إنه على جهوزية قبل الحلقة الأخيرة لأنه على سفر بعدها. ضربني التلعثم، ماذا أفعل بالضيف الآتي من دمشق؟ تلكأتُ في الإجابة، فما كان من الأستاذ طلال إلا أن استشعر بلبلتي فأرسل لي طوق النجاة بقوله ” يبدو عندك حرج من ضيف اتفقتَ معه، لا تقلق مر صوبنا إلى الجريدة قبل أن أسافر”.
أنقذني بدماثته من ذاك المأزق، وكانت خسارتي أن برنامجي توقف ولم أستضف الأستاذ طلال، وسيمُرُ بعد هذه الخسارة سنوات لا تقل عن الخمس حين رنّ هاتف مكتبي وإذ بصوت يتسلل من السماعة ويقول:
ـ أنا جوزف سماحة كيف الحال؟
ـ الحمد لله.. كيف حالكم؟
ـ ممكن تزورنا في “السفير”؟
ـ اتشرف.. الواحدة والنصف بعد غد؟
ـ اتفقنا.
لم أكن أعرف جوزف سماحة شخصياً، ولم أره من قبل، كان بين باريس ولندن وكنتُ في بيروت، وفي الموعد المحدد وصلتُ إلى مكتبه في “السفير” وبعد التعارف والسلام والكلام قال:
ـ توافقتُ والأستاذ طلال سلمان على تخصيص صفحتي رأي في الجريدة بدلاً من صفحة واحدة، وتبادلتُ والأستاذ طلال وزملاء آخرين من بينهم ميشال نوفل وجهات النظر حول من يكون نائب مدير صفحتي الرأي، فكان شبه إجماع عليك، هل لديك استعداد؟
ـ أشكرك، اتفقنا بالمبدأ.
ماذا حدث بعد هذا “الإتفاق الإطار”؟ لا أعرف، وما أعرفه أن جوزف سماحة غادر “السفير” بعد ذلك بأسابيع عائداً إلى صحيفة “الحياة”، ثم عاد إلى “السفير” رئيساً للتحرير بعد فترة غير قصيرة اقتصرت معها “قضايا ورأي” على صفحة واحدة وتلاشى مشروع الصفحتين.
تلك كانت الخسارة الثالثة مع “السفير” والأستاذ طلال، ولكن عام 2017 كان لي معه “ربح صاف” برغم فداحة خسارة “السفير” ومرارتها، فأجريت معه حواراً تاريخياً في قناة “الإتجاه” عن العرب وأوضاعهم وعن “الأمة” و”قادتها” وعن أحزاب السلطات والمعارضات وخيباتها وخيباتنا.
في الحوار قال ما يمكن أن يقال، وفي جلسة ما بعد الحوار قال ما لا يقال، سألته عن أهل السياسة العرب، نفث دخان سيجارته إلى الأعلى وبدا كأنه يداعب ملذة التبغ وأجاب: دعني أستمتع بفنجان القهوة حتى لا تفلتُ مني الكلمات.
***
قبل انتكاسته الأخيرة، كنا أمين قمورية وحسين أيوب وأنا في مكتبه في “السفير” سألني:
ـ كم تبعد بيروت عن طرابلس؟
ـ 80 ـ 84 كلم.
ـ لا.. هذه المسافة كانت عندما صدرت “السفير” عام 1974، الآن تبعد طرابلس عن بيروت 20 ألف كلم، لعلك عرفت لماذا توقفت “السفير”؟
ـ نعم.. الآن عرفت.
رحمك الله أستاذ طلال سلمان.