أول حرب إعلامية روسية ـ أميركية في زمن السوشيل ميديا

في الحروب، الحقيقة هي الضحية الأولى. مقولة قديمة تبقى صالحة لغاية يومنا هذا.

تُمثل حرب أوكرانيا ميدان اختبار لسياسات وأسلحة وخطابات تواصُل متضاربة. لكن الحرب الاعلامية سبقت الحرب العسكرية والاقتصادية وتصاعدت تدريجياً في محاولة للتحكم بمنسوب المعلومات ونوع المحتوى، فاتحةً الباب أمام جملة تساؤلات:

– ماذا بقي من حرية البثّ والتعبير، إذا كانت وسائل الإعلام هي الهدف الأول في مستهل أي حرب تكون فيها الولايات المتحدة طرفاً مباشراً أو غير مباشر؟

– كيف السبيل لحماية المتلقّين من حملات التضليل من دون المس بحق الوصول الى المعلومات؟

– هل ستؤدي المواجهة الإعلامية الحالية الى إعادة تشكيل عالم الانترنت الذي صاغ فكرة العولمة طوال ثلاثة عقود؟

حرب في الإعلام وعلى الإعلام

في حروب سابقة، كانت وسائل الاعلام هدفاً رئيسياً للآلة الحربية الاميركية، مثل محطة التلفزيون الصربية في بلغراد في مستهل حرب كوسوفو عام 1999 حيث سقط العديد من موظفيها بصواريخ الطائرات الأميركية، أو التلفزيون العراقي في بداية الإجتياح الأميركي للعراق عام 2003. وتم تصوير هذه المحطات كأهداف مشروعة باعتبارها مراكز للدعاية، واقتفت اسرائيل أثر اميركا في استهداف محطات اعلامية خلال حروبها المتتالية على لبنان (2006) وفلسطين المحتلة (نموذج حرب غزة الأخير كان هو الأفظع).

وكالة “أسوشييتد برس”: “الهجوم على أوكرانيا يكاد يكون أول نزاع مسلح كبير في أوروبا في عصر وسائل التواصل الاجتماعي، وفي وقتٍ تعدّ الشاشة الصغيرة للهاتف الذكي هي أداة الاتصال المهيمنة”

بدأت حرب أوكرانيا إعلامياً، وتستمر بضراوة في وسائل الإعلام وعلى مواقع التواصل لكسب المؤيدين من جانب كل طرف. ثمة رهان غربي على إمكان الإستحواذ على الرأي العام العالمي من خلال تجنيد مستخدِمي مواقع التواصل في اتجاهين: توثيق يوميات الحرب في داخل أوكرانيا وبثها على هذه المواقع، والمساهمة في تداول الصور والمعلومات التي تدين الموقف الروسي على أوسع نطاق ممكن، بالإستفادة من الحصار الذي تم فرضه على وسائل الإعلام الروسية على المنصات الإلكترونية الشهيرة. ولاحظت وكالة “أسوشييتد برس” في تقرير لها أنّ “الهجوم على أوكرانيا يكاد يكون أول نزاع مسلح كبير في أوروبا في عصر وسائل التواصل الاجتماعي، وفي وقتٍ تعدّ الشاشة الصغيرة للهاتف الذكي هي أداة الاتصال المهيمنة”. وذكرت أنّ “الرسائل ومقاطع الفيديو والصور التي يتم بثها عبر Twitter وFacebook  وTelegram  يفوق عدد الغارات الجوية التي تمطر على أوكرانيا”.

وتسعى الدعاية الغربية الى مجموعة من الأهداف أبرزها الآتي:

– شيطنة روسيا، وخاصةً الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. وقد تم تشبيه بوتين بشخصية الزعيم الألماني النازي أدولف هتلر، وقبل يومين قال الرئيس الأميركي جو بايدن إن بوتين “مجرم حرب”!

– تجاهل وجهة النظر الروسية، لا سيما في ما يتعلق بجذور الصراع ومسؤولية الولايات المتحدة وحلف الناتو عن تحدي مصالح موسكو الجيوسياسية.

– نقل المعركة الى الداخل الروسي عبر استثارة مشاعر معارضة للحرب و”ويلاتها الإقتصادية والمالية”، وبالتالي ضد الكرملين تمهيداً لـ”إسقاط استراتيجية بوتين”، على ما عبّر مسؤولون بريطانيون وفرنسيون.

وتم في هذا الإطار:

– إبراز روح “المقاومة” لدى الجيش الأوكراني والمتطوعين الى جانبه في التصدي للجيش الروسي “الغازي”.

– تظهير عمليات التطوع بين الأوكران لغرض القتال ضد الروس.

– تعظيم خسائر الجيش الروسي، لا سيما في ما يتعلق بضرب دباباته وآلياته العسكرية وإسقاط طائراته. والصور التي تتعلق بهذا الأمر تستهدف إثارة الإحباط لدى الجمهور الروسي ودفعه للتحرك ضد الحرب.

– التركيز على العنصر الإنساني عبر تصوير الغارات والقصف على الأماكن المدنية (مستشفيات ومدارس ومسارح إلخ..)، مع الإشارة الى ان الايام الأولى من العمليات الحربية الروسية شهدت نسبة محدودة من الدمار في المناطق المدنية وفق استراتيجية روسية مدروسة. في المقابل، لم تحظَ العمليات الحربية التي تستهدف المناطق الموالية لروسيا في جمهوريتي لوغانسك ودونيتسيك باهتمام إعلامي غربي.

– تظهير حركة النزوح الى الحدود بين أوكرانيا والدول المجاورة، في وقت لا يُعير الإعلام الغربي أي اهتمام للنازحين من اقليم الدونباس الى روسيا.

بالمقارنة مع التجربة الأميركية في حرب الخليج عام 1991، إقتصر الحضور الإعلامي الحربي الروسي على صورة المتحدث باسم وزارة الدفاع وهو يتلو بياناً عسكرياً بأداء جامد ومن دون حضور صحفي

إخفاقات روسية.. وعِبر

أما الإعلام الروسي فقد أظهر علامات ضعف عن المواكبة الفعالة للعمليات الحربية. ولوحظ في هذا السياق:

– عدم تهيئة الرأي العام الروسي لقرار الحرب. فقد دأب مسؤولون روس على نفي الأنباء الصادرة من واشنطن ولندن والتي أفادت عن تجهيز روسيا قواتها لغزو أوكرانيا. واعتبر المسؤولون الروس أن هذه الانباء مضلِّلة ولا أساس لها من الصحة. وجاء قرار بوتين بشن عملية عسكرية في أوكرانيا لحماية اقليم دونباس والناطقين بالروسية لينسف كل ما سبق من بيانات. ويُلقي هذا التضارب الضوء على وجود فجوة بين أداء القيادة العليا والمسؤولين في وزارة الخارجية، وكذلك بين القيادة العسكرية والأجهزة الإعلامية. ولا بد أن ذلك تسببَ بصدمة للكثير من الروس الذين لم يستعدوا بصورة كافية للحرب، لا نفسياً ولا مادياً.

– إستطراداً، أدى ذلك الى ارتباك أداء وسائل الإعلام الروسية. ومعلوم أن الخروج الى حملة عسكرية كبيرة يتطلب مسبقاً الكثير من الجهد الإعلامي لإقناع الرأي العام الداخلي بأهداف الحرب المتوقعة وتقبّل التضحيات التي تتطلبها فور إندلاعها..

– عدم وجود إعلام حربي فعال لدى الجانب الروسي. صحيح أن وزارة الدفاع الروسية بثت العديد من الفيديوهات في الأيام الأولى للحرب، لكنها اقتصرت في الغالب على صور إطلاق الصواريخ عالية الدقة أو تحرك ارتال الآليات العسكرية أو المُسيرات التي تضرب أهدافا عسكرية. بينما كانت الصور التي يبثها الجانب الاوكراني أكثر حيوية من خلال عرض ضرب دبابات روسية أو إسقاط مروحيات أو طائرات وتظاهر مواطنين أوكران أمام القوات الروسية، بالإضافة الى بث أرقام تتناول خسائر في صفوف الجيش الروسي (بصرف النظر عما اذا كانت دقيقة أو انها مضخَّمة بقصد إثارة الرأي العام الروسي ضد الحرب)، وكذلك توجيه نداءات للداخل الروسي من أجل التحرك ضد استمرار الحرب.

وبالمقارنة مع التجربة الأميركية في حرب الخليج عام 1991، إقتصر الحضور الإعلامي الحربي الروسي على صورة المتحدث باسم وزارة الدفاع وهو يتلو بياناً عسكرياً بأداء جامد ومن دون حضور صحفي، بينما كان الأميركيون في حروبهم أكثر فطنة لأهمية السيطرة على الإعلام من خلال استعراض الخرائط والصور على شاشات عملاقة وإتاحة المجال للصحفيين لطرح الأسئلة، وكانت حرب الخليج حرباً متلفزة وممسرَحة الى حد كبير، وتجنَّدت فيها غالبية وسائل الإعلام الى جانب الخطاب الرسمي الأميركي الى حد التطابق. طبعاً، يلزم عدم التنكر لحقيقة وجود اختلافات هامة بين التجربتين، خاصة لجهة أن أميركا في حرب 1991 استحوذت على المعلومة والصورة وكان العراق حينها معزولاً وشبه وحيد، بينما تقف أوكرانيا اليوم وخلفها الغرب بأسره على المستوى الإعلامي والسياسي في مقابل عزل روسيا إعلامياً وسياسياً.

إقرأ على موقع 180  فضيلة سريلانكا.. "معرصة" لبنان!

– غياب محطة يومية مسبقة التوقيت للإعلام العسكري الروسي من شأنها أن تستقطب فضول وسائل الإعلام.

هذه الملاحظات لا تعكس كل الصورة، خاصة ان المردود الإعلامي رهن بالنجاحات على الأرض التي يمكن أن تقلب الصورة رأساً على عقب.

الحظر في زمن النشر

إنخرطت الدول الغربية في مجابهة إعلامية وسياسية واسعة مع روسيا حول أوكرانيا، وقد فرضت إجراءات ضد وسائل إعلام روسية مثل “RT” و”سبوتنيك” وقيّدت وصولها الى الفضاء الاوروبي والأميركي. ومنذ السابع والعشرين من شباط/ فبراير الماضي، تمت إزالة منصات إعلامية قيل إنها تابعة لروسيا من متجر “آب ستور” و”غوغل بلاي” في كل من الولايات المتحدة وبريطانيا وبلدان الاتحاد الأوروبي وأوكرانيا. كما حظرت شركة غوغل، الشركة الأم لموقع يوتيوب وهي أيضا أكبر شركة لبيع الإعلانات على مستوى العالم، على وسائل الإعلام الروسية الحكومية بيع إعلاناتها باستخدام أدوات محركها البحثي. وعلّقت شركتا “مايكروسوفت” و”آبل” مبيعات منتجاتهما في روسيا، في حين علّقت “نتفليكس” و”إنتل” و”إير بي إن بي” أنشطتها في هذا البلد.

هذه الحرب الإعلامية المتعددة الوجوه والأشكال تهدد بإعادة تشكيل الانترنت بالإستناد الى قواعد الفصل الجاري القيام بها إلكترونياً بين الدول الكبرى، وهذا يهدد إنجاز العولمة الإلكترونية الذي قادته أميركا في ما مضى

غير ان الساحة الأوسع لخوض الحرب الاعلامية تركزت على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث تستخدم أميركا هذه المواقع لمحاصرة الرواية الروسية وإغلاق المنافذ أمامها بدعوى “الدفاع عن التدفق الحر للمعلومات” و”مواجهة حملات التضليل”. وأصبحت كبرى شركات التكنولوجيا الاميركية أداة رئيسية في هذا السبيل، ونخصّ بالذكر منصات “فيسبوك” و”انستغرام” و”تويتر” و”يوتيوب” التي تحولت جبهات مستعرة. وفي هذا الإطار:

– قرر موقع “فيسبوك” الأكثر شعبية في العالم الخروج على قواعده المدوَّنة بحظر المواد التي تدعو الى العنف، فسمح بخطاب مناهض لـ”الغزاة الروس” في أوكرانيا وتوجيه الرسائل العنيفة التي تستهدف الجيش والقادة الروس. وبرغم ان “فيسبوك” قال انه لن يسمح بالمقابل “بأيّ دعوات ذات مصداقية للعنف ضدّ المدنيين الروس”، فإن التحقُّق من الفصل بين الأمرين يبدو صعباً في صراع ملتهب يستقي جذوره من منطلقات قومية على نحو متزايد.

– قررت مجموعة “ميتا” التي تملك “فيسبوك” و”انستغرام” و”واتساب” فرض حظر في أوروبا على وسائل إعلامية روسية حكومية مثل قناة “روسيا اليوم” وموقع ووكالة “سبوتنيك”.

– أوقفت إدارة موقع “يوتيوب” العديد من القنوات الروسية على الموقع وحدّت من قدرتها في الحصول على أموال عبر الإنترنت. وتم توسيع هذا الحظر على “اليوتيوب” ليشمل أنحاء العالم وليس فقط أوروبا.

– حذرت شركة “تويتر” من التغريدات ذات الصلة بمحتوى حسابات وسائل الإعلام الموالية لروسيا. كما فرضت قيوداً على دخول بعض الأشخاص في روسيا إلى منصتها.

– هبّ الملياردير الأميركي إيلون ماسك لتشغيل خدمات الإنترنت عبر الأقمار الصناعية في أوكرانيا عبر مشروعه “ستار لينك”.

شبكة إنترنت جديدة!

في المقابل، لجأت السلطات الروسية الى اجراءات مضادة، من بينها:

– حجب موقع “فيسبوك” في روسيا رداً على القيود المفروضة على دخول وسائل الإعلام الروسية على منصته. وقال بيان صادر عن هيئة تنظيم الاتصالات الروسية “روسكومنادزر” إنها “منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2020، سجلت 26 حالة تمييز مارسها موقع فيسبوك ضد وسائل إعلام ومصادر معلومات روسية”. كما أعلنت موسكوأنها ستبدأ ملاحقات قانونية ضد شركة ”ميتا”، متهمة إياها بنشر “دعوات قتل وتحريض” ضد الروس.

– تقييد الوصول الى “انستغرام” و”تويتر” في روسيا.

– عدم السماح للمستخدِمين الروس بالنشر في منصة “تيك توك”.

– لكن الإجراء الروسي الأهم قد يكون تسريع تشغيل نسخة روسية من شبكة الانترنت. وكانت روسيا قد بدأت منذ سنوات اختبار شبكة إنترنت خاصة بها يطلق عليها اسم Runet . وسبق ان قالت الحكومة الروسية عام 2019 إنها اختبرت النظام بنجاح. وحينها، طُلب من مزودي خدمة الإنترنت في روسيا تهيئة الإنترنت داخل حدود البلاد لتكون شبكة خاصة من مواقع الويب التي يتم تقييد نقاط اتصالها بالشبكة العالمية. وإذ سعت روسيا – التي تمتلك مقومات تنفيذ حملات سيبرانية – الى حماية مواقعها الإلكترونية من حملات القرصنة الأجنبية، فإنها قد تجد في الحصار الإعلامي عليها فرصة لإعلان “الإستقلال” عن شبكة الاتنرنت العالمية التي تهيمن عليها الشركات الأميركية وتفرض عليها قواعدها الخاصة السياسية والايديولوجية والتجارية. ويقال ان روسيا تلقت في هذا المضمار مساعدة من الصين التي بنت شبكة انترنت خاصة بها أسميت “جدار الحماية الصيني العظيم”، وإن كانت تركيبتها أكثر استقلالاً بالمقارنة مع النسخة الروسية المُعدّة.

هذه الحرب الإعلامية المتعددة الوجوه والأشكال تهدد بإعادة تشكيل الانترنت بالإستناد الى قواعد الفصل الجاري القيام بها إلكترونياً بين الدول الكبرى، وهذا يهدد إنجاز العولمة الإلكترونية الذي قادته أميركا في ما مضى. والأهم، تكشف التطورات الجارية ان وسائل الإعلام ليست محايدة في هذه الحرب عندما يتعلق الأمر بمنظومة الغرب السياسية – الايديولوجية والقيمية – المعيارية، بل إن هذه الوسائل تسابقت الى اتخاذ مواقف وإجراءات منحازة الى طرف ضد آخر، ولم تجد صعوبة في العثور على تبريرات مختلفة للإصطفاف وراء حكوماتها في هذه الحرب.

Print Friendly, PDF & Email
علي عبادي

صحافي وكاتب لبناني

Download Premium WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Download Premium WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  ألمانيا تغادر القمقم.. إلى العسكرة درْ