إذا عاد دونالد ترامب إلى سدّة الرّئاسة، فالتّداعيات المتوقّعة سلبيّة في كثير من الملفّات. والأمثلة على سلبيّات فوز ترامب المحتمل كثيرة ومتنوّعة ومن الأصناف العالميّة والاقليميّة والمحليّة معاً. ولكن، كما سبق وذكرت، فمن المؤكّد أيضاً أنّ عودة ترامب إلى البيت الأبيض قد تأتي معها بإيجابيّات متعدّدة، فهل تَفَكّرنا فيها بما يَكفي، خصوصاً من زاوية قضايانا كعرب ولبنانيّين؟
***
أولاً؛ الزّاوية الرّوسيّة:
من المُرَجَّحِ جدّاً أنّ عودة ترامب هذه سوف تُذهب كثيراً من الضّغوط والأثقال عن كاهل الدّولة والقيادة الرّوسيَّتَين.. وقد تؤدّي إلى نوع من النّصر أو أقلّه التّقدّم الرّوسيّ الاستراتيجيّ في أوروبا الشّرقيّة في نهاية المطاف (عاجلاً أم آجلاً). من العقلانيّ جدّاً اعتبارُ وجود ترامب في البيت الأبيض عاملاً مُسهِّلاً كبيراً للوصول إلى تسوية في ما يخصّ الحرب الأوكرانيّة.. وربّما في ما يخصّ ملفّات شرق أوروبا ككلّ ومستقبلَ دور روسيا الاتّحاديّة الاستراتيجيّ.
ومن شأن تحسّن وضع روسيا الجيوسياسيّ الإقليميّ والعالميّ أن يُرخيَ ببعض الظّلال الايجابيّة على منطقتنا أيضاً. فما أدراك، ربّما يُخفّفُ ذلك من وطأة الضّغوط على الدّولة السّوريّة مثلاً وعلى شعبِها.
ومهما كانت التّموضعات الأيديولوجيّة والسّياسيّة التي نتبنّاها هنا وهناك؛ لا شكّ في أنّ “سوريا” مرتاحة نسبيّاً في المنطقة، خيرٌ من “سوريا” تحت الضّغط. وقد بدأ بعض الحكّام العرب بفهم ذلك، وبفهم ما يعنيه على مستوى التّوازن العربيّ/العربيّ والتّوازن العربيّ/غير العربيّ.
وبشكل أعمّ، يمكننا اعتبار أنّ وجودَ روسيا وقائدِها المِقدام والمبادِر (وغيرِ الفرّار) على السّاحة الدّولية: عاملٌ أكثر من مهمّ في هذه المرحلة بهدف الحفاظ على التّوازن الدّوليّ، لا سيّما في مواجهة العامل الأميركيّ المهيمِن والمُتفرِّد عموماً. التّوازن الجيوسياسيّ بدلاً من الهيمنة والأحادية خيرٌ بل وضرورةٌ للعالم ولشعوب هذه الأرض. ويُصبح ذلك الأمر أكثرَ إلحاحاً إذا أخذنا بالاعتبار “التّردّد” الصّينيّ الظّاهر والباطن في المواجهة الحقيقيّة مع الولايات المتّحدة وفي كثيرٍ من الملفّات حول العالم وحتّى الآن.
***
أميلُ إلى الاعتقاد بإيجابيّة هذا الضّغط التّرامبيّ المسعور المتوقّع على الصّين وقادَتِها، فهو حريٌّ بأن يُجبرَ هؤلاء على التّقدّم بشكل أسرع نحو تسخين المواجهات حيثُ يَجب
ثانياً؛ الزّاوية الصّينيّة:
في ما يخصّ الصّين، من الواضح للمراقِب العقلانيّ والمُنصف أنّ هذه الدّولة العظمى لم تدخلْ بعدُ في المواجهة السّاخنة الحقيقيّة مع الهيمنة الأميركيّة على العالم كما أسلفنا. حتّى الآن، يبدو التّنّين الصّينيّ خجولاً نسبيّاً وفي ملفّات كثيرة. المتوقّع عقلانيّاً من الصّين، بهدف كسر الأحاديّة والهيمنة: المجازفة السّياسيّة والعسكريّة (وليس فقط الاقتصاديّة) الحقيقيّة وبشكل أكبر وأكثر تأثيراً.
حتّى متى يُمكن لمعادلة كتلك أن تَصمُد (مع التّبسيط):
(الصّين المنتِجة اجمالاً + ذات الفائض الماليّ-الاحتياطيّ الاجماليّ)؛ VS (الولايات المتّحدة المستهلِكة اجمالاً + ذات العجز النّسبيّ وبالتّالي الدّين الخاصّ والعامّ المتراكِمَين – على المدى البعيد)؟
هل تصمدُ مُعادلةٌ كهذه أمام واقع التّاريخ والجيو-اقتصاد والجيو-سياسة (إن صحّت التّعبيرات)؟ وهل تترك أميركا نفسَها عموماً تنزلق نحو مصير امبراطوريّات عُظمى سرّع سقوطَها تراجع انتاجها وتراكم ديونها على المدى البعيد؟ (خصوصاً في ضوء مَيل الصّين نحو تقليص الفارق مع الغرب والولايات المتّحدة في ما يعني التّقدّم التّقنيّ النّسبيّ، وهذه مسألة استراتيجيّة كُبرى مرتبطة بالتّوازنات الاقتصاديّة المتحرّكة – أي “الدّيناميكيّة” – عالمياً وعلى المدى البعيد).
هذا ما فهمَتْه إدارة ترامب السّابقة جيّداً، وأعتقدُ أنّ إدارة ترامبيّة قادمة ستُكمل على الأرجح: سياسة الضّغط الشّديد نسبيّاً على الصّين، بهدف تقليص تفوّقها الانتاجيّ النّسبيّ، وبغيةَ منعها من تقليص الفارق التّقنيّ (الدّيناميكيّ) النّسبيّ بشكل سريع و/أو متسارع. وفي سياق ما سبقَ حول الدّور الرّوسيّ والتّوازن المحمود على المستوى الدّوليّ: أميلُ إلى الاعتقاد بإيجابيّة هذا الضّغط التّرامبيّ المسعور المتوقّع على الصّين وقادَتِها، فهو حريٌّ بأن يُجبرَ هؤلاء على التّقدّم بشكل أسرع نحو تسخين المواجهات حيثُ يَجب.
لا يُمكن لدولة تُريدُ أن تحكم العالم أو أن تُشارك جدّيّاً في حُكمه: أن تتصرّفَ تصرُّفَ التّجّار وأصحاب الدّكاكين. إمّا أنّك تُريد أن تُحسِّن موقعك أو أنّك لا تُريد: أمّا الوقوف كالحائط أخي الحَجَر بين الإثنَين.. فهذا ما لا يُعوِّل عليه أهلُ القيادة وبناء الأُمم والمُستقبل الإنسانيّ.
من حيثُ لا تقصدُ قيادتُه الغريبة الأطوار في الأغلب: فقد يُساعدُ هَيَجانُ الثّورِ التّرامبيِّ المسعورِ والجائع، على تهييجِ التّنّينِ الصّينيِّ النّاعِسِ هذا، والتّاجِر البارِد والمتردِّد إلى الآن.. بما ينفعُ في سبيلِ تسريع إعادة بعض التّوازن الإستراتيجيّ إلى هذا العالم.
***
ثالثاً؛ الزّاوية الأوروبيّة:
قد يكون عنوانا الضّغط التّرامبيّ المتوقّع على الدّول الأوروبيّة هما (كما كان الوضع في العهد السّابق لترامب بالمناسبة):
(١) الولايات المتّحدة ليست جمعيّة خيريّة، عليكم أن تدفعوا ثمن “حمايتِنا” لكم (وهي حماية موهومة بالمناسبة، أو مبالغٌ فيها في أحسن تقدير، وقد روّجت لها أميركا نفسها على الأرجح)؛
(٢) لِيَعُد كلُّ واحدٍ منكم يا قياديّي أوروبا “إلى شغله”.. فلسنا بحاجة لمساعدتكم ضدّ فلاديمير بوتين أو غيره من “الأعداء” (أيضاً: المتوهَّمين أو المبالغ في عدائيّتهم).
وبرغم كلّ السّلبيّات المذكورة عادةً في ما يخصّ التّعاون الترانس-أطلسيّ عموماً وبعض القضايا الاقتصاديّة والثّقافيّة والبيئيّة وما إلى ذلك.. فمن شأن هذه السّياسة أن تدفع نُخبَ أوروبا وقادتها إلى التّركيز على حاجات مواطنيهم الحقيقيّة وعلى حلّ المشاكل الحقيقيّة التي تهدّد بعض المجتمعات الأوروبيّة (الدَّين العام، مستقبل أنظمة الضّمان الاجتماعيّ، تنظيم الهجرة، إعادة بناء نوع من التّفوّق الصّناعيّ النّسبيّ، العمل على تحسين التّقدّم التّكنولوجيّ النّسبيّ أيضاً، مكافحة تراجع الدّور الدّوليّ لبعض الدّول الأوروبيّة الأساسيّة، إعادة بناء الأسرة وإدارة تفكّك القيم المُجتمعيّة الأساسيّة التّقليديّة وارتداداتِها).
وبدل أن يشتغلَ بعض القادة الأوروبيّين بصفة مُنفّذٍ أو مُسهِّلٍ للسيّاسات الأميركيّة بشكل رئيسيّ، من شأن الهيجان التّرامبيّ أن يُجبرَ هؤلاء على العودة نسبيّاً لما يُريدهُ منهُم مواطِنُوهم.. لا ما يُريدُه العمُّ سام أو الجدُّ بايدن.
***
إدارة ترامبيّة قادمة ستُكمل على الأرجح: سياسة الضّغط الشّديد نسبيّاً على الصّين، بهدف تقليص تفوّقها الانتاجيّ النّسبيّ، وبغيةَ منعها من تقليص الفارق التّقنيّ (الدّيناميكيّ) النّسبيّ بشكل سريع و/أو متسارع
رابعاً؛ الزّاوية العربيّة:
مع التّبسيط الضّروريّ، سبقَ أن رأينا أنّ العقلَ الجيو-سياسيَّ العربيَّ لا يحبُّ بشكل عام: الأمرَ بين الأمرَين، والمنزِلَةَ بين المنزِلَتَين، والنّتيجةَ بين النّتيجَتَين.. بخلاف العقل الصّينيّ مثلاً أو بخلاف العقل الإيرانيّ عموماً. والحقُّ أنّ الدّيموقراطيّين في أميركا، ولأسباب متعدّدة، هم عموماً أهلُ أمرٍ بينَ أمرَين. فلَطَالما يختلطُ الأبيَضُ عندهم بالأسوَد، والتّسوية باللّا-تسوية، والاتّفاق باللّا-اتّفاق، والحرب باللّا-حرب وما إلى ذلك.
من هنا، أعتقد أنّ قادة وحكّام أهمّ الدّول العربيّة (خارج محور المقاومة والممانعة طبعاً) قد يُفضّلون عودة ترامب، رغم كلّ سيّئات هذا الأخير عليهم أيضاً (وتكاليفِه المُكلِفة). فالثّمن الذي يتوجّب عليك دفعه برأيهم، سوف تدفعه في الحالَتَين: لكنّك مع ترامب، تقوم بمُبادلة ملموسة.. فلا تبيعُ اليقينيَّ (من الدّولارِ الأخضرِ وغيره) بغير اليقينيّ، ولا تبيعُ الملموسَ بالمَوعود، ولا تبيعُ الحاضرَ بالغائب. التّعاملُ مع ترامب باعتقادي أسهلُ على أغلب حكّام العرب.
ومن جهة أخرى؛ مع الثّور الترامبيّ الهائج، سوف تتسارع على الأرجح صفقات التّطبيع الموعودة. ومن المُهمّ برأيي – ولمصلحة شعوبنا العربيّة – أن تُكشف جميع الأوراق. فبدلاً من نقاش أحداث السّقيفة والجمل وصفّين وأمور الفتنة الكبرى والقرامطة وثورة الزّنج وجهاد النّكاح.. نعود جميعاً “إلى شُغلنا” أيضاً. فيتبيَّن بعد ذلك للجميع ما هي الخيارات الحقيقيّة لكلّ حاكمٍ ولكلّ دولة، لا سيّما في ما يعني التّطبيع مع “إسرائيل” وفي ما يعني القضيّة الفلسطينيّة.
***
خامساً؛ الزّاوية اللّبنانيّة:
أمّا في لبنان، فقد حصل عندنا كما يُردّد بعض المحلّلين والخبراء على الدّوام: ما يُمثّل أكبر كارثة ماليّة-نقديّة في التّاريخ الحديث ربّما، نسبةً إلى حجم الاقتصاد والحجم الدّيموغرافيّ للبلد. أمّا الفساد وسوء الإدارة والقرارات الفاشلة، فلا أعلم ما هي البلاد أو الدّول التي سبقتنا إلى هذه المستويات من الدّرك الأسفل من “جهنّم”.. وبئسَ المصير. وأمّا بالنّسبة إلى نظامنا السّياسيّ وفشله، فلا أعلم إن كنتُ أُنقص من نسبةِ التّهذيب الضّروريّ مع القارئ العزيز إذا ما أعدتُ الكلام والسّرد والتّفصيل في هذا المجال.
ومع ذلك، وخصوصاً تحت تأثير سياسات إدارة بايدن، فإنّك ترى أغلب الطّبقة السّياسيّة اللّبنانيّة.. وكأنّه باتَ “مُرتاحاً على وضعه”. أو هو يظنّ ذلك. أو أنّهُ يظنّ ربّما أنّ النّاس الذين سُرقت ودائعهم وتمّ تهجير أولادِهم – مثلاً – سوف ينسون مع الوقت (ألا يعلم هؤلاء أنّ الله لا ينسى أيضاً).
ثمّ يأتيهم الأملُ الموهومُ على شكلِ كبيرِ مستشاري الجدّ بايدن: آموس هوكشتين، الذي لا تُعرف فَتحةُ تائِه من كَسرَتِها، تماماً كأغلب الدّيموقراطيّين من أهل الأمرِ بين الأمرَين، والشّيءِ بين الشّيئين، والموقِفِ بين الموقِفَين. يأتيهم، ويتمّ تنظيم الاستقبالات له والتّشريفات المشرَّفة، ويشرب القهوة على حساب المواطن طبعاً.. لِيَعدَهم بماذا؟ لِيَعدَهم ساعةً بغازٍ موهوم (أين هو الغاز الموعود بالمناسبة؟)؛ وساعةً – إن شاء الله – بمستقبل زاهر في كذا وكذا من الأمور والملفّات السّطحيّة التي لا يُعوَّل عليها. (بالمناسبة: كلُّ “تسوية” لا توصل إلى اصلاحٍ جذريّ للنّظامَين السّياسيّ والاقتصاديّ في لبنان.. لا يُعوّل عليها، وكفانا مجاملات بيننا).
أمّا مع ترامب، وبرغم كلّ سيّئاته وفظائعه، فالأرجحُ أن تكون الأمور مُختلفة ولو نسبيّاً. حيث سيكون أغلب الطّبقة السّياسيّة اللّبنانيّة على الأرجح أمام ادارةٍ هائجة (مهما كانت النّيّة الحقيقيّة وراء هذا الهيجان الرأسماليّ الجشِع العظيم طبعاً، وهذا موضوعٌ آخر).. ومن شأن هيجانِ الثّور الرأسماليّ المستمرّ أن يضغطَ في اتّجاه تحريك الملفّات الدّاخليّة الأساسيّة – وبشكل ملموس نسبيّاً وأكثر جوهريّةً – لا على قاعدة صحوة الضّمير – وأيّ ضمير؟ – وإنّما على قاعدة الدّهاة: “مُكرَهٌ أخوكَ لا بَطَلُ”..
***
في النّهاية، لا شكّ عندي في أنّ عودة ترامب وما يُمثّله هي: خبرٌ سيّء اجمالاً بالنّسبة إلى الإنسانيّة جمعاء، وبالنّسبة إلينا كعرب متضامنين مع إخوتنا في فلسطين ومع إخوانهم من المقاوِمين أجمَعين. ولكن، كما رأينا في هذا المقال، فقد يأتي بعضُ الشّرِّ الظّاهر ببعضِ الخيرِ الباطن، واللهُ لا يَتركُ عبادَه وقد بشَّرَ منهم الصّابرين والمُتوكّلين. ولذلك، فإذا رحَلَ الجدُّ بايدن وعادَ الثّورُ الهائجُ ترامب، فمن المستحَبِّ تلقّي الأمر على طريقة أهل القصيدة “المُنفرِجة” المغارِبة:
فإذاْ بِكَ ضاقَ الأمرُ، فَقُلْ: اشْتَدِّيْ أَزمةُ.. تنْفَرِجيْ.