الكابيتال كونترول يفضح اللبنانيين.. إنكار وطني عميم

تمخض النقاش المحتدم حول صيغة مشروع القانون المقترح لضبط التحويلات والسحوبات (كابيتال كونترول) في الأيام القليلة الماضية عن خلاصة واحدة: ما من أحد في لبنان يريد سقوط كرة نار الأزمة في حضنه. لا السياسيين، ولا المصرفيين والتجار والمنتجين، ولا المودعين.. ولا أحد!

بعد إنتقادات وإتهامات حادة موجهة تارة ضد السلطة التنفيذية، وطوراً ضد السلطة التشريعية مع تحميل زعماء معينين مسؤولية الحؤول دون اقرار قانون “الكابيتال كونترول” منذ بداية الأزمة، تبين عند اقتراب ساعة الحقيقة، ان الاعتراض مستمر من سياسيين. والمفاجأة في انطلاق ردح الرفض من قانونيين واقتصاديين وماليين ومنتجين ومصدرين ومستوردين وصولاً الى عموم المودعين . فضاعت الطاسة بين انتقادات مهنية وأخرى تشريعية، وقوى ضغط مصلحية وامتعاضات هامشية عن وجه حق. في جو غريب مشحون بجرعات سوء فهم في حوار الطرشان اللبناني المفتوح على مصراعيه.

تريد خلاصة قانون “الكابيتال كونترول” المفترض تطبيقه في مدى 3 سنوات تقييد حركة الرساميل لا سيما الخارجة من لبنان، أملاً في تحسين مؤشرات منها وصول ميزان المدفوعات الى حالة توازن ما تضع حداً نسبياً لنزيف العملات الصعبة سواء بتهريب الأموال او الافراط في الاستيراد، وغيرها من الاساليب غير العابئة بمصير الاقتصاد الوطني وعملته.

ويذكر ان القانون يأتي متأخراً نحو سنتين ونصف السنة. وبين أسباب التأخير كان السماح للنافذين من سياسيين ومصرفيين وغيرهم باخراج أموال من لبنان عشية وغداة اندلاع الازمة في 17 تشرين الاول/ اكتوبر 2019، ذهب خبراء ومتابعين ومصرفيين الى حد تقديرها بما بين 10 و20 مليار دولار بطرق وأساليب وعناوين مختلفة.

لبنان بمختلف اطيافه والفاعلين فيه يرفض تنظيم الفوضى المالية وكأنه يستسيغها، كما يستسيغ الفوضى السياسية والاجتماعية والاقتصادية جرياً على عادته مذ تكوين هذا الكيان الهش الهجين

بعدما طارت الطيور بأرزاقها، واقترب موعد التفاوض الجدي مع صندوق النقد الدولي، طلبت الحكومة التعجيل باقرار هذا القانون، وإلا فلا تسريع لبدء وضع الخطط العملية الأخرى المرتبطة باصلاحات مطلوبة من صندوق النقد لزوم قرض انقاذي للبنان.. مستقبلاً.

في هذا الاطار، لا بد من الإضاءة على النقاط الآتية:

أولاً؛ نادرة هي الحالات الشبيهة بلبنان التي تعاطى ويتعاطى معها صندوق النقد. ففي هذا البلد أزمة ودائع بنحو 100 مليار دولار غير معروفة المصير بعدما تأكد ان معظمها متبخر. أي تقييد للسحوبات و/أو التحاويل يعتبر انتقاصاً اضافياً من حقوق المودعين. فضلاً عن بديهية ان القرض المتوقع من الصندوق لا علاقة له بتاتاً بتلك الحقوق التي على السلطات اللبنانية تدبر امرها بالهيركات (الاقتطاع منها)، وليلرة بعضها (أي تحويلها من دولار الى ليرة)، وتقسيط جزء بين 7 و15 سنة، الى جانب تحويل ودائع الى أسهم ورسملة المصارف من جديد لتستطيع الإيفاء بما عليها، وتحميل الدولة بعض تلك الحقوق الى جانب البنوك ومصرف لبنان.

ثانياً؛ نادرة هي الحالات الشبيهة بلبنان التي تعاطى ويتعاطى معها صندوق النقد لجهة إعتماد بلد صغير على 70 الى 80% من استهلاكه على الاستيراد. فتقييد خروج الأموال سيطال حتماً مليارات من الدولارات المخصصة حالياً للاستيراد. ما يعني تغييراً جذرياً في انماط الاستهلاك والمعيشة ضمن ضرورات التقشف المرحلي المطلوب للخروج من الأزمة. واللافت للإنتباه أن فاتورة الاستيراد كانت تراجعت من 19.2 مليار دولار في 2019 الى 11.3 مليار في 2020 اي بنسبة 42%، ثم عادت لترتفع في 2021 الى 13.6 مليار دولار. وجزء من تلك الدولارات يأتي مما تبقى من عملات أجنبية في مصرف لبنان، هي عملياً ما تبقى من حقوق المودعين، الى جانب استخدام اموال تحويلات المغتربين في استسهال الاستهلاك على حساب الادخار والانتاج.

ثالثاً؛ من الخصائص اللبنانية أيضاً ان الاقتصاد الموازي (الأسود) يشكل بين 30 و35% من الناتج. هذا يشمل التهريب والتهرب الضريبي فضلاً عن اقتصاد حزب الله غير الظاهر في الحسابات القومية الكلية. وبنتيجة تداعيات الأزمة وشبه انعدام الثقة بالقطاع المصرفي تحولت عمليات كثيرة الى الكاش النقدي. وفي اقتصاد الكاش يصعب الضبط ومعرفة المخزون الحقيقي للعملات في بلد يتفنن اهله في عدم الافصاح كما في التحايل على القانون.

رابعاً؛ يأتي مشروع قانون “الكابيتال كونترول” من خارج اي خطة اقتصادية ومالية ومصرفية شاملة للتعافي. وبالتالي قد يضع شروطاً وقيوداً تحول دون أمل البعض في سلوك التعافي سريعاً. وبين الامثلة اعتراض الصناعيين ومنتجين آخرين على ضواط معينة تحول دون زيادة استثماراتهم وتصديرهم المطلوب لزيادة تدفق الدولارات من الخارج الى الداخل.

نادرة هي الحالات الشبيهة بلبنان التي تعاطى ويتعاطى معها صندوق النقد لجهة إعتماد بلد صغير على 70 الى 80% من استهلاكه على الاستيراد. فتقييد خروج الأموال سيطال حتماً مليارات من الدولارات المخصصة حالياً للاستيراد

خامساً؛ حدد القانون لجنة مؤلفة من رئيس الحكومة ومن ينتدب عنه ووزيري المالية والاقتصاد بالاضافة الى حاكم مصرف لبنان. واناط بها تطبيق القانون وادارة المرحلة الانتقالية بصلاحيات اعفاءات واستثناءات وخلافه. واذا كانت لجنة كهذه في بلد آخر ممكنة التأليف والثقة بها، ففي لبنان ازمة ثقة عارمة بين المودعين والمنتجين من جهة والسياسيين والماليين والمصرفيين من جهة أخرى.

إقرأ على موقع 180  هدنة بين السعودية وقطر.. أين الإمارات؟

ما سبق غيض من فيض الاعتراضات على المشروع المطروح الذي سقط أمس في اللجان النيابية المشتركة. فما من نائب او كتلة نيابية تنتمي لهذا الفريق او ذاك على استعداد عشية الانتخابات النيابية ـ إن حصلت ـ للتصديق على قانون يفرض تقشفاً قاسياً ولا عزاء فيه للمودعين الذين يشكلون كتلة ناخبة وازنة لا يمكن ضربها او التخلي عنها في هذه المرحلة.

مشروع الكابيتال كونترول ليس الوحيد المرفوض لتنظيم الفوضى المالية العارمة في البلاد. فالصراخ على اشده ايضاً لمنع هيكلة المصارف التي فقدت رساميلها فيما هي ترفض الاعتراف كما ترفض تحمل تبعات ضياع مليارات المودعين. والخلاف يطال ايضا كيفية زيادة ايرادات الدولة التي انخفضت من 22% من الناتج الى 8% فقط وبالكاد تغطي الرواتب وبنوداً زهيدة اخرى. والنزاع على اشده بين من يريد وضع أصول الدولة في سلة الحلول ضمن مسؤوليتها عن ضياع الودائع وبين رافض بالمطلق لهذا المبدأ.

في المحصلة، كل طرف من موقعه يرفض ما يشاء ليقابله آخر برفض ما يشاء. حالة مراوحة مستمرة منذ اكثر من سنتين خلاصتها ان لبنان بمختلف اطيافه والفاعلين فيه يرفض تنظيم الفوضى المالية وكأنه يستسيغها، كما يستسيغ الفوضى السياسية والاجتماعية والاقتصادية جرياً على عادته مذ تكوين هذا الكيان الهش الهجين.

Print Friendly, PDF & Email
منير يونس

صحافي وكاتب لبناني

Download Premium WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  ستة أسرى يتحررون.. نفق تصدع المجتمع الإسرائيلي