يقول رونين بيرغمان إنه بعد انتهاء التحقيق مع الشيخ احمد ياسين واحالته الى المحكمة (1984)، حُكم عليه بالسجن لمدة 13 عاماً ولكن اطلق سراحه بعد مرور سنة واحدة من سجنه، وذلك بموجب اتفاق تبادل اسرى مع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين – القيادة العامة التي يتزعمها احمد جبريل. سرعان ما عاد الشيخ ياسين الى النقطة التي كان قد توقف عندها قبل اعتقاله، وهي بناء البنى التحتية لتنظيمه. كان ياسين، بحسب بيرغمان، يتمتع بذاكرة مذهلة ويحفظ عن ظهر قلب الاسماء الحركية التي كان يعطيها لـ1500 من عملائه وعملياته وصناديق بريده وكان باستطاعته ان يتلو قصة حياة كل فرد من افراد جماعته، كما اظهر وعياً مدهشاً للاختراعات التكنولوجية ومعرفة عميقة بالشؤون الراهنة للشرق الاوسط. وفي السنوات التالية، طوّر ياسين عقيدة استخدام الهجمات الانتحارية ونشرها على نطاق واسع، واظهر لاتباعه منافع الفرق بين الانتحار المُحرّم دينياً بشكل قاطع، والتضحية بالنفس (الشهادة) في ميدان القتال والذي هو أمر ديني يضمن للشهيد وحتى لعائلته مكاناً في الجنة. ومن فتاوى ياسين انه ما ان يحصل الانتحاري على بركة شيخ مسلم معترف به فانه لا يكون بسلوكه هذا يبغي اهدافا شخصية بل هو يصبح شهيدا سقط في ساحة الجهاد من اجل الله (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله امواتا بل احياء عند ربهم يرزقون).
الخطر الإسلامي!
كان جهاز الشين بيت ـ يضيف بيرغمان ـ “يمر في تلك الفترة بمرحلة انتقالية عصيبة، فقد كان يحاول التعامل مع سلسلة من الصدمات الناجمة عن قضية حافلة عسقلان وتداعياتها (انكشاف قيام عناصر من الشين بيت بقتل شابين فلسطينيين بعد اسرهما والزعم بانهما قتلا خلال اقتحام الحافلة التي شاركا في اختطافها)، ففي خلال فترة وجيزة تم استبدال معظم قادة الجهاز بجيل من الشباب الذين كانوا بحاجة الى وقت كي يصلوا الى مرحلة النضوج المهني”، وينقل بيرغمان عن ضباط كانوا مسؤولين عن قضايا تتعلق بالاسلاميين حينها انهم في تلك الفترة حذروا مسؤوليهم من خطر التطرف الاسلامي ولكن الجهاز كان عاجزاً عن التعامل مع الموضوع.
قام الشين بيت بحملة اعتقالات شملت حوالي 180 فلسطينياً واخضعهم لاستجواب مكثف ولكن كانوا كلهم جاهزين لهذا الاستجواب ولم يكشفوا اية معلومات ذات قيمة واهم معلومة لم تكشفها التحقيقات حينها ان صلاح شحادة ارفع مسؤول في التنظيم بين المعتقلين كان قد انشأ جناحاً عسكرياً سرياً بإمرته
ومع انطلاقة الانتفاضة الفلسطينية الاولى عام 1987، يتابع بيرغمان، “كان الشيخ ياسين قد اصبح اهم شخصية دينية سياسية في قطاع غزة والضفة الغربية ويقود تنظيماً يضم المئات من المنضوين تحت لوائه وعشرات الآلاف من المناصرين، وفي ديسمبر/كانون الاول من ذلك العام، اعلن الشيخ ياسين ان الجهاد (بالمعنى العسكري) قد بدأ واطلق على تنظيمه اسم “حركة المقاومة الاسلامية” التي تختصر باللغة العربية بـ”حماس”. وخلال الاشهر التي تلت بدأت تتوالي الى جهاز الشين بيت التقارير عن الحركة الجديدة. قام الجهاز بحملة اعتقالات شملت حوالي 180 شخصا واخضعهم لاستجواب مكثف ولكن كانوا كلهم جاهزين لهذا الاستجواب ولم يكشفوا اية معلومات ذات قيمة واهم معلومة لم تكشفها التحقيقات حينها ان صلاح شحادة ارفع مسؤول في التنظيم بين المعتقلين كان قد انشأ جناحاً عسكرياً سرياً بإمرته. في البداية، اطلق هو والشيخ ياسين على الجناح اسم الوحدة 101 في سخرية منهما من الوحدة الاسطورية التي كان يقودها ارييل شارون ولكن لاحقا غيرا اسم الجناح واطلقا عليه اسم “كتائب عز الدين القسام” تيمناً بالقائد الفلسطيني الذي قاد الكثير من الهجمات ضد المستعمرين الانكليز والمستوطنين اليهود في ثلاثينيات القرن الماضي”.
خطف إيلان سعدون
ويقول بيرغمان ان شحادة واصل قيادة هذا التنظيم العسكري من داخل سجنه عبر رسائل مشفرة يتم تهريبها الى الخارج. وفي العام 1989 قام هو والشيخ ياسين بارسال عنصرين من الوحدة (101) هما محمود المبحوح ومحمد نصر لخطف جنديين “إسرائيليين” تمهيداً لقتلهما. انتظر الفلسطينيان لتنفيذ عمليتهما في داخل سيارة تحمل لوحة “إسرائيلية” عند تقاطع كانا يعرفان ان الجنود اعتادوا التوقف عنده حتى يجدوا من يقلهم مجاناً، وهي عادة كانت منتشرة بشكل واسع في “إسرائيل” حيث ان الكثير من سائقي السيارات كانوا يشعرون بالسعادة لمساعدة جندي بالانتقال الى منزله او العودة به الى قاعدته العسكرية.
بعد عقدين من الحادثة، اخبر المبحوح شبكة تلفزيون “الجزيرة” تفاصيل عملية اختطاف الجندي إيلان سعدون (الصورة أعلاه) قائلاً “تنكرنا بزي يهود متدينين مع قلنسوة الرأس مثل الحاخامات، دخلت سيارة الى التقاطع وانزلت ركابها وكنا قد وضعنا بضعة صناديق في سيارتنا لتضييق المساحة التي يمكن ان يجلس فيها الركاب بحيث لا تتسع سوى لراكب واحد، وكنت انا اقود السيارة وكانت الصناديق خلفي وكان الباب الخلفي معطلا فقلت للجندي سعدون ان يذهب الى الجهة الثانية ففعل ذلك وجلس على المقعد الخلفي وكنت انا وابو صاحب (محمد نصر) قد اتفقنا على اشارة معينة بيدي للبدء بالتنفيذ لاني من موقعي كسائق كنت استطيع ان ارى الطريق امامي وخلفي، وبعد حوالي ثلاثة كيلومترات من المنعطف اعطيت ابو صاحب الاشارة فاطلق النار من مسدس بيريتا كان يحمله فسمعت سعدون يتنفس بصعوبة بعد ان اصيب برصاصتين في وجهه وثالثة في صدره، فشهق وانتهى. بعد ذلك القيناه على المقعد واخذناه الى مكان كنا قد اعددناه مسبقا”. وحسب رواية بيرغمان، كان المبحوح يريد إطلاق النار على سعدون ولكنه “حزن” بشدة لأن شريكه هو من حظي بهذا الامتياز (لم يشر الكاتب الى كيفية خطف الجندي الثاني وقتله). ويتابع بيرغمان انه في عمليتي الخطف قام المبحوح ونصر بتصوير نفسيهما يدوسان على جثتي الجنديين احتفالاً بانتصارهما.
ويواصل الكاتب ان المبحوح ونصر “تمكنا من الفرار الى مصر قبل ان يتمكن جهاز الشين بيت من اعتقالهما واصبح المبحوح احد ابرز شخصيات التنظيم في الخارج اما العناصر الاخرى في كتائب عزالدين القسام ممن قدموا الدعم اللوجستي لهما ققد اعتقلوا وخضعوا لتعذيب قاس تضمن عمليات اعدام وهمية والحقن بمحلول سوديوم البينتوثال، فاعترفوا جميعهم كما البس احدهم ثياب جندي “إسرائيلي” واقتيد في قطاع غزة ليشير الى المكان الذي تم فيه تخبئة بندقية سعدون والسلسلة المعدنية التي تحدد هويته العسكرية الى جانب الاسلحة التي تم استخدامها في العملية. وحكم على الشيخ ياسين بالسجن مدى الحياة لدوره في هذه العملية.
وفي صبيحة 13 ديسمبر/كانون الاول عام 1992، دخل شخصان مقنعان مكتب الصليب الاحمر في بلدة البيرة في الضفة الغربية وسلما عاملة الاستقبال رسالة وانذراها بالا تفتحها الا بعد نصف ساعة من رحيلهما وفرا مسرعين. وجاء في الرسالة “يصادف اليوم 13/12/1992 الذكرى الخامسة لتأسيس حماس، لقد تم اختطاف ضابط من جيش الاحتلال وهو معتقل في مكان امن.. لذلك فاننا نفيد سلطات الاحتلال ونطالبها الى جانب القيادة الإسرائيلية ان تطلق سراح الشيخ احمد ياسين مقابل اطلاق سراح الضابط المعتقل لدينا”. وتم توقيع الرسالة باسم “الوحدة الخاصة في كتائب عز الدين القسام، الجناح العسكري لحركة حماس” وأرفقت الرسالة بصورة للبطاقة العسكرية “الإسرائيلية” للرقيب اول نسيم توليدانو من شرطة الحدود. على الفور قرر كل رئيس الوزراء ووزير الدفاع حينها اسحاق رابين عدم الاستجابة لمطالب الخاطفين وعلى العكس من ذلك فقد اطلق اوسع حملة اعتقالات. في غضون ذلك، حاول جهاز الشين بيت شراء الوقت فقام احد كبار ضباطه باراك بنزور بزيارة الشيخ ياسين في معتقله ليطلب منه الموافقة على اجراء مقابلة عبر وسائل الاعلام يعطي فيها تعليماته لجماعته بان لا يتسببوا باي اذى للضابط المخطوف. استقبل الشيخ ياسين بنزور وهو على كرسيه المدولب ملتفاً ببطانية مع “ابتسامة من اعماق قلبه” واعطى العديد من المقابلات الاعلامية وكان في كل منها يردد العبارات التي طلب منه ان يقولها. لم يعرف جهاز الشين بيت لماذا كان الشيخ ياسين مطواعاً الى ذاك الحد الا لاحقاً. اذ قبل تنفيذ عملية الخطف كان ياسين يعرف مسبقاً ما سيتعرض له فاعطى تعليماته المسبقة لرجاله بانه مهما قال في اي مقابلة له يجب الا يصغوا اليه ولا ينفذوا ما يقوله لهم لان كل ما سيقوله على الارجح هو خلافا ارادته.
داني ياتوم: “لقد جرّبنا طرقا عدة في التعامل مع “حماس” ولسبب ما بدا لنا حينها ان الابعاد الى لبنان سيتسبب بضرر بالغ للحوافز الموجودة عند الارهابيين الذين نبعدهم ولأولئك الذين يفكرون بأعمال إرهابية في المستقبل”
إلى مرج الزهور
يتابع بيرغمان ان السجن لم يخفف من تأثير الشيخ ياسين ولا كسر ارادته فقد قال لبنزور بعد الانتهاء من تصوير المقابلات معه “لن يكون هناك ابداً اي سلام، سنأخذ كل ما تعطونا اياه ولكننا لن نوقف الكفاح المسلح، وطالما انا الشيخ احمد ياسين على قيد الحياة سأعمل جاهداً الا يكون هناك اي مفاوضات سلام مع إسرائيل، ليس لدي مشكلة مع عامل الوقت والزمن، بعد عشر سنوات او حتى بعد مئة سنة، في النهاية سيتم محوكم عن وجه هذه الارض”.
ووفقاً للاوامر المسبقة تجاهل رجال “حماس” تعليمات ياسين التي وردت في مقابلاته بعدم ايذاء توليدانو. في تلك الليلة، لبس اربعة من الخاطفين زي النينجا مسلحين بالسكاكين واتوا الى الكهف الذي كانوا يخفون توليدانو فيه وقالوا له “لقد طلبنا من إسرائيل ان تطلق سراح الشيخ احمد ياسين مقابل اطلاق سراحك ولكن حكومتك رفضت وهذا برهان على ان حياة جنودها لا تهمها يؤسفنا ان نقول لك اننا يجب ان نقتلك”، اخذ توليدانو يبكي ويستجدي خاطفيه بعدم قتله واطلاق سراحه فسأله احد الخاطفين “ما هي اخر امنية لك؟” فاجاب “ان كان لا بد لك ان تقتلني ارجوك اقتلني وانا ارتدي زيي العسكري”. فقام رجال “حماس” بشنقه ومن ثم طعنوه بالسكاكين بعد ان تبين لهم انه بقي حياً بعد شنقه.
وجاءت عملية قتل توليدانو لرابين كالقشة التي قصمت ظهر البعير، كما يقول بيرغمان، فقبل ذلك باسبوع كان قد قُتل خمسة من “الإسرائيليين” في هجمات “ارهابية” معظمها كان من تخطيط “حماس”، عندها استشعرت حكومة رابين الخطر الذي تمثله الحركة فقررت ان ترد، فاقترح بعض ضباط الشين بيت ان يصار الى تسميم الشيخ ياسين وهو امر سهل للغاية فرفض رابين الاقتراح خوفاً منه ان يؤدي ذلك الى انطلاق اعمال شغب واسعة من المؤكد انها ستحصل ما ان يُعرف ان ياسين قتل وهو قيد الاعتقال. فاقترح رئيس الاركان ايهود باراك بديلا مختلفا وهو ابعاد اعداد كبيرة من نشطاء “حماس” الى لبنان. وينقل بيرغمان عن اللواء داني ياتوم رئيس المنطقة الوسطى في الجيش “الإسرائيلي” قوله عن هذا الاقتراح حينها “لقد جرّبنا طرقا عدة في التعامل مع “حماس” ولسبب ما بدا لنا حينها ان الابعاد الى لبنان سيتسبب بضرر بالغ للحوافز الموجودة عند الارهابيين الذين نبعدهم ولأولئك الذين يفكرون بأعمال إرهابية في المستقبل”.
كان قرار الابعاد مثيراً لعدة مسائل شائكة على المستوى الاخلاقي والقانوني والبراغماتي، يقول بيرغمان، فقد امل كل من الجيش “الإسرائيلي” وجهاز الشين بيت ان تتم عملية الابعاد وسط سرية مطلقة قبل معرفة العالم بها ولكن ذلك وضعهم تحت ضغط عامل السرعة في التنفيذ.
وبدءا من 16 ديسمبر/كانون الاول تم جمع حوالي 400 من الذين يشتبه بعلاقتهم بحركة “حماس” وليس بينهم اي احد على علاقة بالاعمال “الارهابية” التي حصلت مؤخرا وتم عصب اعينهم وتكبيل ايديهم وحملوا في حافلات اخذتهم الى الحدود اللبنانية. ولكن اخبار العملية سرعان ما تسربت، فقامت بعض المنظمات “الإسرائيلية” غير الحكومية وبعض عائلات المبعدين بارسال طلب طعن بالقرار الى المحكمة “الإسرائيلية” العليا التي اخّرت لبضعة ساعات تحرك الحافلات لاعتقادها ان عملية الابعاد تعتبر جريمة حرب فاضطر رئيس الأركان شخصياً الى الذهاب للمحكمة لتبرير القرار للقضاة. نجح رئيس الأركان ولكن في الوقت نفسه انطلقت فضيحة عالمية فقد تبين ان ربع المبعدين تم تحميلهم في الحافلات عن طريق الخطأ ولم يكونوا هم الاشخاص الذين كان جهاز الشين بيت يريد ابعادهم، في غضون ذلك، اقفل لبنان حدوده بوجه الحافلات التي علقت في المنطقة العازلة بين منطقة الحزام الامني الذي تحتله “إسرائيل” في جنوب لبنان والمناطق الجنوبية التي يسيطر عليها الجيش اللبناني وحزب الله الى الشمال. فقام رجال الشرطة العسكرية التابعة للجيش “الإسرائيلي” الذين كانوا يرافقون الحافلات بتسليم كل مبعد مبلغ خمسين دولاراً ومعطفاً وبطانيتين واجبروهم على مغادرة الحافلات بعد ان ازالوا العصبات عن أعينهم والقيود من ايديهم واعادوا الحافلات فارغة باتجاه “إسرائيل”. بطبيعة الحال اقام المبعدون مخيماً لهم في منطقة مرج الزهور قرب منطقة حاصبيا الدرزية. في البداية، منعت السلطات اللبنانية الصليب الاحمر من تقديم اية مساعدة لهم بهدف زيادة معاناتهم واحراج الحكومة “الإسرائيلية” اكثر فاكثر، كما يروي رونين بيرغمان.