يلومني كثيرون، لأني أنتقي كلاماً يوغل في اليأس. تهمة صحيحة لا أنكرها. سبب يأسي أن عينيَّ مفتوحتان، واكتب ما أرى. المنكرون عليّ يأسي، فضّلوا أن يكونوا عميانا. صمٌ، بكمٌ. لا يرون أنهم أموات، يسيرون على أقدامهم، ورؤوسهم كرة تتقاذفها الأقدام وهي زينة السياسيين والزعماء والطوائف والقضاء والمصارف. أتساءل، كيف لا تيأس، وهو أصيل ومقيم ومستدام؟ كيف لا تغضب، وانت تلوك الخسارات المؤلمة والموجعة؟ ولا أعرف ابداً كيف يفكر الذين يراهنون على مستقبل لقي حتفه من زمان! وأتساءل عن “المعجزة اللبنانية” المثالية، كيف تصوّت جحافل المقترعين غداً، لأصحاب السيادات الناهبة ومناصب النصب والكذب والارتكاب؟ كيف يتهيجون، لدعم قرصانهم الطائفي، وهو يئن من ألم الفاقة؟
إن لبنان، بني بسواعد طائفية، داشرة، فائضة، قاتلة، متهتكة، مستعبدة، لعبيد مطواعين، يتلهفون تأييداً، لقاء فوز جليل، تكون فيه الحصة كلها، لصاحب اليدين الملوثتين بالدم والسرقة والارتهان. إن فينا من الهبل والغش والاحقاد، ما يدمر اوطاناً، وليس وطناً واحداً.
أسأل فقط: أيها الزاحفون على جباهكم غداً، لملء صناديق الاقتراع بأسماء زعماء أردياء. إنكم تنتخبون بفرح، من تدرَب على ركوبكم وإخضاعكم وجرّكم إلى معلفه الفارغ، إلا من غش وأكاذيب.. لعل الطائفية، مورفين فتاك، تنزع عن الانسان عقله وضميره وأخلاقه. لم أجد مثل الطائفية مرضاً يُفرِح اصحابه.
لقد حفروا خنادق متقابلة: هنا “السيادة” ومعنا اميركا والسعودية والخليج وفرنسا، وأطراف “عربية”، وهناك جبهة “الممانعة” وهي تتكئ على إيران ومن معها، من اليمن الى.. كل تشيع سياسي، ولو كان مارونياً. فلا حَبَل من دون دنس
بودي أن ألفق مشهداً مستحيلاً ـ مشهداً حقيقياً وعادياً. لم اسمع او اقرأ من شرائح المنتخبين طرَاً، بيانا متواضعاً، يحمل اسئلة، تريد اجوبة على معاناة، بل على مأساة متمادية، بحيث ان التفكير بالخبز والدواء والرواتب والتعليم والاستشفاء وانحطاط الليرة التي طارت وباتت هباء.. ولا سؤال ابداً. لقد مسخت الطائفية الشاملة، هؤلاء. جعلتهم ببغاوات، ويدبكون، ومن يكون على “الحاشية”، يعلي صوته ويدق برجله وجه الأرض، ويطالب بالسيادة والاستقلال. ويلحن مواويل الحرية ويلعن التبعية، ثم تنتقل المباراة الفنية الى زجل، ومخمْس مردود، يصار فيه الى اعتداء لفظي، يرد عليه باعتداء خياني.. لم اعرف شعباً يخون بعضه، ومع ذلك، يلتقي هؤلاء، في لائحة واحدة. وهكذا تجتمع الشياطين و”الملائكة” في لائحة تواجه لائحة من الملائكة والشياطين.
لقد حفروا خنادق متقابلة: هنا “السيادة” ومعنا اميركا والسعودية والخليج وفرنسا، وأطراف “عربية”، وهناك جبهة “الممانعة” وهي تتكئ على إيران ومن معها، من اليمن الى.. كل تشيع سياسي، ولو كان مارونياً. فلا حَبَل من دون دنس.
كنت اتوقع من الزاحفين على جباههم، كي يبصموا بالعشرة، على لوائح غريبة عجيبة، تضم احياناً “الأخوة الاعداء”، كـ”كأمل ” و”التيار” و”حزب الله”، أو تضم اثنين من مرتكبي المجازر المضادة في الزمن الثمانيني غير البعيد.. يعني “ما بتعرف إيد مين بقفا مين”. كنت أتوقع، ببراءة بلهاء، ان يسألوا، لا ان يطالبوا، لأن الجرأة مرتعها رخيم. أن يسألوا: عن رواتبهم التي ذابت، عن ارصدتهم الضئيلة التي سرقت، عن المصارف التي أثرت اصحابها بالمليارات، ونهبت عوائد الفاقة والتعب والعمل. او أن يسألوا عن لقمتهم، وكتاب اولادهم، وجامعة وطنهم، ومدارس مدنهم وقراهم. لأن هذه المطالب تدل فقط، على حجم الافقار وذل مد اليد والانتظار بالطوابير لحفنة من الخبز والـ.. والبنين؟ او أن يسألوا عن الكهرباء والدفء. عن الطرقات والزبالة. عن فرص العمل، عن افراغ المؤسسات والمعامل، عن كل شيء. عن كل شيء. لأن الانهيار، الذي تسببوا به، صنف لبنان، كدولة تحتل اولوية البؤس والفقر والمهانة.
ثم، لم يسأل أحد عن المحاسبة ابدا ابداً. لقد نحروا القضاء برمته. القلة القليلة، لا تبني قضاء. فأين المحاسبة؟ كيف يُحاسَب المرتكب سياسياً وطائفياً ومالياً؟ لن يسمح بقضاء يقضي عليه. “خيطوا بغير هالمسلة”.
ولم يسأل أحد، في بيان او في لقاء، المرشحين، كل المرشحين، عن جرائم افلاس البلد وإفقار شعبه، واذلال ابنائه، وجرائم التدخل في القضاء، وصار المطالبون بمعرفة الحقيقة في قضية انفجار العصر في المرفأ ـ المغارة المحتل من كل القوى الطائفية هم المتهمون. غريب كيف ينسى اللبنانيون ان الاتهام أخرس والتحقيق معطل؟
لبنان ضرب الرقم القياسي في العفو عن القتلة. القتلى اللبنانيون، بحروب الطوائف، وصراعات الاحزاب، فاقوا المئة وخمسين الفا.. بيضوا صفحتهم، ثم بوّأوهم على السلطة، من فوق الى تحت، وبدعم مرموق، من قوى خارجية تدعي الطهر والغيرية وتحتضن فريقاً تابعاً، ويسير هذا على هواها.. عدد الذين اغتيلوا من السياسيين في فترة الأربعين عاما، لم يسجل فيها تحقيق واحد في لبنان. لبنان بلد مضاد للحقوق. هو ضد الحقوق. كفى بهورة ببيروت ام الشرائع، بيروت ليست ام الشرائع. اسألوا سوق المتنبي.
ثم، يلاحظ ان المتهمين الكبار، من وزن رياض سلامة، وزملائه في تبديد المال ومصادرته وسرقته، ومن جماعات المجالس والادارات بما فيها المؤسسات “ذات الطابع الاجتماعي والانساني”. (شؤون اجتماعية وسواها). كما يلاحظ ان هناك تناس متعمد للفرز السكاني الطائفي والمذهبي، بحيث تصبح الفيدرالية او التقسيم، موضوعاً للنقاش. (بلد قد عش العقربي، مرشح ضمني ليكون 4 كانتونات على الأقل، اذا فرط السلم الاهلي الكاذب.. ) ثم، الا يلاحظ ان هناك معركة حامية، افتتحت انتخابات هذه المرة، على وقع صراع ايراني، سعودي، اميركي، تأسيساً، بالاشتراك مع الكومبارس الدبلوماسي والقنصلي؟ اننا “في كل وادٍ يهيمون”، والى جهنم ذاهبون.
لقد كذبوا عليكم وصدقتم، ان المعركة ايرانية – سعودية – اميركية. لا ننفي هذا الصراع ابداً. ولكنه ليس سببا من اسباب الانهيار. ويلاحظ ايضاً، ان الهائجين اعلانيا وخطابيا، يروجون لحرب ضد إيران، وحرب ضد اميركا.. وأن العقوبات هي بسبب هذه الحروب.. يا اذكياء. لبنان لم يسقط بالضربات السياسية. اسقطته عصابات السرقة.. لبنان بلد غني، ولكنه مسروق ومنهوب. والسارق لبناني والناصب لبناني، ومعه شركاء لحمايته. قوى الخارج تحمي لصوص الداخل.
أتمنى، لو كانت “قوى التغيير” تغييرية، وتقول لنا، ماذا ستُغيّر، وكيف ستُغيّر، وبأي قوى ستُغير؟ التغيير، “طويله على رقبتنا”. التغيير لا يبدأ من فوق. لغة “التغييريين” تشبه لغة الوعود. ولا يصير فول الا بالمكيول. ليس عند “التغييريين” الا المكيول. لا نصدقهم وتحديداً، لأسباب غير سياسية، وانما لأسباب بنيوية.
بعد “الانتخابات”، سيُعيّد المنتخبون كلهم، “عيد ميلاد موتنا الدائم”. سيموت كثيرون قهراً. القتل لن يكون بالرصاص، بل بالقصاص الذي يتم التصويت عليه. هنا وهناك وهنالك، وسيشارك المشاركون في مهنة تدريبنا على تقبل موتنا البطيء، بكذبة بلقاء، ان برنامج الانقاذ للبنان، لا بد له من تضحيات
قانون الانتخابات الطائفي مبرم. لا ترشيح لأحد، ولو كان نبياً أو ولياً أو قديساً أو رمزاً، إلا من خلال “المجرور” الطائفي. ان لم تكن طائفيا، فأنت لست لبنانياً. اللبنانيون، قانونا، هم الطائفيون. إذا كان القانون طائفيا، فمن واجب “التغييرين” ملء المقاعد الطائفية، حسب الإنسال الطائفي. ثم ان تشتتهم الفظيع، يدل على ان الفردية الزائدة هي الشقيق اللاأخلاقي للقوى الطائفية.
“بعد بكير عالتغيير”. التغيير يبدأ من تحت. من المجتمع. “المجتمع اللبناني” طائفي من الفه الى يائه. قوته في تكاثر التطيف. منذ نصف قرن، كان لبنان طائفيا، انما، كان هناك هامش واسع للوطنية الصافية للفكر العلماني، للمطلب الديموقراطي، لاقتصاد متوازن، لنقابات حقيقية تناضل لتحقيق بعض برامجها.. نعم كانت الطائفية شديدة الوطأة تناوئها احزاب، كان لها ذات عصر سالف، حضوراً قويا.. راهنا، لا احزاب ابداً. استقالت او أقيلت الشيوعية والقومية واليسارية والقوى الديموقراطية. هذه قوى صارت وزن الريشة. لا يعوَّل على قوتها. وهي متروكة لحالها. والله حرام. جنت على نفسها براقش، بدعم اقليمي منتقى بدقة.
نضع فاصلة بعد هذا الكلام لنقول: هذه ليست انتخابات ابداً. اننا نعرف من سيفوز وأين ومن معه ومن ضده. الانحيازات مكشوفة. هذه دورة تدريبية للتكالب الطائفي. ثم، ان من يفوز، يصير محمياً من المساءلة، وسيطلب اليه ان يكون خيمة الاجراءات المؤلمة، التي ستذبح عروق اللبنانيين الطائفيين وغيرهم وسواهم. يعني: حاميها حراميها. فالانتخابات هذه المرة، لتكريس الحرامي وتتفيه الآدمي.
كونوا واقعيين. لا تحلموا بالتغيير. اللوائح المتكاثرة، لا تدل على قوى تغيير، بل على قوى تبديل الوجوه بوجوه متهمة. مجلس النواب، على مدى عقود، أي من زمان، كان مقبوضاً عليه من قوى مالية، وتدخلات اجنبية وعربية واقليمية، فلكل دولة نوابها ووزراؤها وحكوماتها.. ألم تشاهدوا في الشهور الاخيرة، من سمى المرشح لرئاسة الوزارة؟ نحن؟ ام عواصم القرار الخارجية. الم تعرفوا بعد ان الوزراء، اتباع القيادات.. كفى تبحبحاً. الطائفية والديموقراطية ضدان.
أخيراً، هذه المرة فقط، لأن الكلام كثير عن هذه الحقبة الانحدارية، خاصة في ما يخص برنامج “افقار الفقراء واثراء الاثرياء”، سيتم تطبيقه ايا كانت النتائج.. “أيها الفقراء، موتوا. سنهتم بدفنكم”.
بعد “الانتخابات”، سيُعيّد المنتخبون كلهم، “عيد ميلاد موتنا الدائم”. سيموت كثيرون قهراً. القتل لن يكون بالرصاص، بل بالقصاص الذي يتم التصويت عليه. هنا وهناك وهنالك، وسيشارك المشاركون في مهنة تدريبنا على تقبل موتنا البطيء، بكذبة بلقاء، ان برنامج الانقاذ للبنان، لا بد له من تضحيات.. العجول السياسية المسمنة معفاة من ضريبة التعافي.. نحن، وأنتم الغلابى، سنكون شهداء على قيد الحياة.
عيب وعار ان تنتخب. وإذا كان لا بد من رهان، فإنني افوز به، لأن الرهان على النجاة والحياة، اختصاص الزعامات. حصة اللبناني ان يدفع الثمن حتى آخر رمق فيه.