24 نيسان: يوم تقاطرت الوفود العاملية الى وادي الحجير

"الحُجيْر" مؤتمر عاملي فريد بنوعه شمولا: دوافعَ ووقائع وتنظيما واهدافا ومكانا ومقررات! مفخرة عاملية عروبية وحدوية سورية!

عُقد “مؤتمر الحجير” في 24 نيسان/أبريل 1920، بدعوة من زعيم البلاد كامل بك الاسعد (الجدّ)، في اعقاب لقاء صاخب مع المبعوثيْن العربيين (احمد مْريْود واسعد العاص) اللذين حملا اليه تخييرا – تهديدا من قادة الثورة العربية في دمشق، بالقول:”لقد انقضى دور الأقوال وأتى دور الاعمال”، ويدعونه {وجبل عامل عامة} الى خوض غمار الثورة معهم على الفرنسيين، والا “يكون غرضا لحربهم قبل فرنسا”؟ ولم يكن بمقدور البيك الاسعد، على علو زعامته، ان يتحمل منفردا مسؤولية هكذا قرار، دون العودة الى أولي الشأن من الزعماء والعلماء؛ فاستمهل الثوار ريثما يتم  التشاور مع الملك فيصل شخصيا، او يدعو الى اجتماع عام “يبحث هذه القضية على ضوء التفكير والتأمل – كما يقول السيد عبد الحسين شرف الدين – في مؤتمر الحجير التاريخي”؟

وجهت الدعوات الاسعدية الى مختلف الزعامات والوجاهات واهل الفكر والمشورة من الشيعة في جبل عامل، لشمولية النقاش والقرار وحمْل المسؤولية، فكان الحضور نحو 600 ذات من أصحاب الشأن، فضلا عن العامة والمتطفلين والأولاد من العامليين (كالسيد حسن محسن الأمين وكان ابن 12 سنة).

عقد هذا المؤتمر، للمرة الأولى في التاريخ العاملي، خارج قصور البكوات بمن فيهم البيك الاسعد، فكان أن إلتأم في مكان متوسط في البلاد العاملية، بين المقامات الاجتماعية وزعاماتها والتضاريس الجغرافية وتحصيناتها، في الطبيعة البرية الوعرة، وادي الحجير الحصين بالجبال والغابات، الواقع تحت سيطرة الثوار بعيدا عن متناول الفرنسيين، ما يناسب ويضمن حضور جماعات  المقاومة العاملية المسلحة (صادق الحمزة وادهم خنجر ومحمود الأحمد بزي ومرافقيهم).

وخلافاً للشائع بان المؤتمر كان طائفيا شيعيا، بناء على عدم دعوة الطوائف الأخرى، فإن هذه الواقعة من حيث المبدأ النظري المطلق مثلبة للمؤتمر، وقصور في الفكر السياسي العاملي الحديث؛ لكن الواقع أنه كان مؤتمرا مناطقيا اكثر منه شيعيا، حيث لم يُدعَ اليه شيعة البقاع وبعلبك وغيرهم. اما عدم دعوة السنة العامليين، فهم قلة ديمغرافيا، مسالمون غير ثائرين، وهم عُرفا موافقون على الاتحاد مع سوريا الكبرى. اما تغييب المسيحيين ففيه قصور إجرائي، باعتبارهم موالين لفرنسا، ومن المستحيل عموما دعوتهم الى الثورة عليها. وقد يُخشى منهم نقل الوقائع والاسرار(في حال وجودها) للفرنسيين. ولكن والحال ان البحث تفرع الى العلاقات مع النصارى، وتقررت حمايتهم، فإن غيابهم اصبح خطيئة قاتلة، فلو شهدوا عيانيا مباحثات المؤتمر، وانتهاءها الى المؤاخاة الوطنية بحماية النصارى، لكانت قناعتهم أرسخ، وموقفهم أسلم مهما كانت المستجدات العملية، خصوصا وأن بعضهم (أهالي عين ابل) كانوا يخشون الانضمام الى المشروع الصهيوني في المنطقة، ويعيدون عموما أمر مصيرهم الى البطريركية المارونية في بيروت.

كان مؤتمر الحجير مؤتمرا مناطقيا اكثر منه شيعيا، حيث لم يُدعَ اليه شيعة البقاع وبعلبك وغيرهم. اما عدم دعوة السنة العامليين، فهم قلة ديمغرافيا، مسالمون غير ثائرين، وهم عُرفا موافقون على الاتحاد مع سوريا الكبرى. اما تغييب المسيحيين ففيه قصور إجرائي، باعتبارهم موالين لفرنسا، ومن المستحيل عموما دعوتهم الى الثورة عليها

وتقاطرت الوفود العاملية الى وادي الحجير الحصين، وافتتح المؤتمر السيد عبد الحسين شرف الدين بخطاب بليغ جامع، يمكن وصفه بشمولية أفكاره ومواضيعه بانه خطاب في مؤتمر او مؤتمر في خطاب! فقد مكّن السيد دعائم المؤتمر الفكرية والسياسية، من حيث أهميته التاريخية ومصيرية مجرياته وقراراته، ومما قال: “إن لهذا المؤتمر ما بعده، وسيطبق نبؤه الآفاق السورية.. ويتجاوزها الى عصبة الأمم.. يرفض الحماية والوصاية ويأبى الا الاستقلال التام الناجز المعتمر تاج فيصل العرب”.

وعن العلاقات الداخلية قال السيد شرف الدين: “ألا وإن النصارى اخوانكم في الله والوطن والمصير”، فلا تتمادوا في اذيتهم، وبذلك “تخمدون الفتنة الطائفية”، وليكن جهادهم “جهادا ضد العدو المستعمر الفرنسي” حصراً.

قرارات المؤتمر

وفي الساعة المحددة اكتمل جمع الملأ، وانتقل كبار القوم الى السرادق الخاص للاجتماع، وافتتح صاحب الدعوة كامل بك الاسعد الكلام عن مناسبة وظروف ودواعي المؤتمر، في اعقاب لقائه مع مبعوثي الثورة العربية؛ واستمهالهم بالجواب ريثما يتشاور عموم العامليين بالرأي والرد في مؤتمر عام! وهكذا كان. فاستصوب الحاضرون رأي البيك. وامتد الحوار والمداولات، فكان بمنتهى الواقعية والمسؤولية المصيرية، وكانت القرارات بمنتهى الحكمة والحنكة، ومن الآخر:

(1) الانضمام السياسي لجبل عامل الى “المملكة العربية السورية” المعلنة في 8 آذار/مارس 1920 برئاسة الملك فيصل، وهوغاية طلب الثوار!

(2) إحالة القرار بالثورة العسكرية العاملية الى رؤية الملك فيصل، العارف بالأمور بدل التورط العاملي بما هو اكبر من معارفهم. واختير وفد من علية القوم (الشيخ حسين مغنية وكامل بك الاسعد اللذين اعتذرا لأسبابهما) فقر الرأي على بدائل رديفة: السيد عبد الحسين شرف الدين (صور) والسيد عبد الحسين نور الدين (النبطية)، وينضم اليهما مفتي شيعة دمشق السيد محسن الأمين المقيم في الشام، (إضافة الى بعض المرافقين المرموقين)، لإعادة القرار والمشورة الى الملك فيصل بما يوازي الخطوة المصيرية.

إقرأ على موقع 180  أعتذر من كلِّ يائسٍ.. لُبنانك الجميل قد توارى!

(3) على هامش المؤتمر، التفت العامليون الى العلاقات المتوترة مع اخوانهم المسيحيين، وبعض الأذى اللاحق بهم تبعاً للظروف، من بعض الجماعات المسلحة، فارتؤي (بغيابهم الخاطئ) مبدأ احتضان النصارى وحمايتهم من قبل العامليين: زعماء وعامة وثوارا، وأُخذت الأيمان المغلظة على الحاضرين، واستُدعي صادق الحمزة ليحلف اليمين باسم الثوار، فحلف بألّا يلحق الأذى بأحد “إلا مَن كان إلبا للفرنسيين على الوطن  واستقلاله.. من أي مذهب كان، لان جهادنا سياسي لا ديني”.

ما بعد المؤتمر

ومع إنتهاء المؤتمر، عاد الزعماء والوجهاء (الاسعد، الخليل، الأمين، بزي وغيرهم) الى بلداتهم يطمئنون مواطنيهم النصارى على حياتهم واملاكهم؛ ويذكر ان الحاج محمد سعيد بزي (رئيس بلدية بنت جبيل) كلف مناديا ليعلن في سوق الخميس الشعبي (بنت جبيل) في 29 نيسان/ابريل 1920 قرار مؤتمرالحجير بحماية النصارى العامليين.

وقد وثّق معاصرو المؤتمر وحضورُه من الكتاب العامليين (ننوه بكتابات الثلاثي العاملي: الشيخ احمد رضا والشيخ سليمان ظاهر والسيد محمد جابر ال صفا) وقائع المؤتمر ومجرياته، في مذكرات يومية شبه متطابقة، ومتكاملة في كافة الأساسيات من إجراءات المؤتمر (عدا بعض الاختلافات الطبيعية الجزئية الثانوية هنا او هناك). هذا باستثناء الاديب المرحوم السيد حسن محسن الأمين (من الملتحقين بحضور المؤتمر وكان عمره 12 سنة) الذي تميّز بكتابات اعتمدت على ما اتصل به، راشدا، من معلومات تأويلية تحليلية محلية عائلية لاحقة، فخفف من شأن هذا المؤتمر وجعله مجرد اجتماع لقلة من خاصةِ العامليين، بقرارت غير اجماعية وغير هامة، وهذا مجانب للحقيقة.

الغريب اننا شهدنا مؤخراً ما يشبه حملة شبه منظمة، غير بريئة او غير مسؤولة بكل المقاييس، تُشكّك ببعض أحداث تلك المرحلة من تاريخ جبل عامل، بذرائع واهية. وهذا امر كان مقبولا علميا، قبل عشرات السنين، يوم كان العامليون (والعرب عموماً) حديثي العهد والتجربة بعلم التاريخ، يتناولونه عبر المرويات غير المدققة، لا عبر المدونات المحققة بالمصادر والوثائق والمخطوطات، المفرج عنها حديثا من دور الأرشيف المحلي او الأجنبي، فيعالجونها وفقا لمنهجية البحث العلمي وآلياته الحديثة المتطورة. لكن اليوم، بعد امتلاكنا لعلم التاريخ وآلياته ومنهجياته ومصادره الارشيفية الوثائقية، أصبحت إعادة النظر في تاريخنا أوجب، لكن محاذيرها الموضوعية اكثر واصعب.

وقد إستفاض الباحثون اللاحقون في التاريخ العاملي في تناول هذا المؤتمر في عدد من رسائل الماجستير والكفاءة في التاريخ شبه متطابقة وقائعيا، واطروحة دكتوراه أكملت ما سبق، بجديد ما وثّقت عن المصادر الاصيلة: العربية والعاملية والأجنبية، فمن أين أتى الزاعمون بهذا الزعم المخرب، فالفساد والافساد ليس في السياسة والمال فقط، بل في الثقافة والفكر والاعلام أيضا، وفي التاريخ بخاصة، ابي العلوم الانسانية.. ودليلنا عدم اتفاق اللبنانيين على تاريخ موحَّد وموحّدِ للناشئة اللبنانية.

أقول أقوالي أعلاه مستندا الى ما اقتطفته من اطروحتي للدكتوراه، وأصدرته كتابا اكاديميا جامعا بابحاثه المحققة والموثقة عن احداث جبل عامل في تينك السنتين (1918- 1920). وقد امتد البحث معي على عقدين من الزمن، فجاء بنحو 620 صفحة (17×24)؛ واهم ابحاثه: الحكومات العربية المؤقتة في جبل عامل؛ الاستفتاء الدولي في جبل عامل؛  المقاومة العاملية السياسية والعسكرية للاحتلال الفرنسي، مجرياتها وتداعياتها؛ ومؤتمر الحجير العاملي التاريخي المصيري 24 نيسان/أبريل 1920؛ ومتفرعاته، وغالب حقائقي تعتمد على وثائق الخصم (الفرنسي اساسا) اكثر من مصادر الصديق.

أخيرا أود أن ألفت الإنتباه إلى إن الغرض المباشر لهذه المقالة هو تأكيد ما توصلنا اليه من حقائق من تاريخ جبل عامل الحديث. وللمناسبة، أشير إلى أنني بصدد استكمال تحقيق التاريخ العاملي الحديث  بنفس الروحية ونفس المنهجية العلمية، طوال عهد الانتداب الفرنسي وحتى الاستقلال (1920-1943).

Print Friendly, PDF & Email
محمد بسام

أستاذ جامعي، لبنان

Download Premium WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
online free course
إقرأ على موقع 180  تعرّفوا على "مسرح يحيى جابر".. و"تعارفوا"!