فلسطين ليست مجرد قصيدة رثائية ولا رواية تراجيدية ولا معزوفة حزينة ولا صورة بالفحم الأسود، على أهمية ذلك كله. هي قصة موت يومي متمادٍ.. تقابلها قصة حياة لشعب يعرف كيف يفاجىء نفسه والآخرين بقدرته على التضحية والعطاء.. والثورة.
يتحدث الكاتب ابراهيم نصرالله في رواية “سيرة عين” (ثلاثية الأجراس) عن مقارنته بين المصور الصهيوني موشيه الذي يريد محو فلسطين بالكاميرا او بالرصاص وبين كريمة عبود اول مصورة عربية فلسطينية. في روايته، يقول نصرالله:
“بسط ليفي (المصور الشبح الذي تبادل وموشيه الكاميرا والبندقية) الجريدة أمام عيني موشيه، وقال: لقد هزمتني مصورة عربية، أعني هزمتك أعني هزمتنا”.
كل ما فعلته كريمة أنها صوّرت حياة الفلسطينيين في بيوتهم والأحياء والأزقة تعج بأناسها وأهلها الفلسطينيين الحقيقيين.
كريمة عبود في الرواية تشبه شيرين أبو عاقلة في الواقع. كريمة عبود في الرواية تشبه أيضاً المصور الفرنسي شارل إندرلان الذي إلتقط شريط إختباء جمال الدرة ونجله الطفل الشهيد محمد في الثلاثين من أيلول/سبتمبر 2000.
شيرين أبو عاقلة مراسلة قناة “الجزيرة” الصحافية المقدسية التي تسكن في رام الله كانت في مخيم جنين صباح اليوم تغطي أنباء وردتها عن إقتحامه من قبل قوات الإحتلال. أرسلت إلى محطة “الجزيرة” الخبر ووعدت بموافاتهم بكل جديد. إلتقط لها زميلها آخر صورها وهي ترتدي الدرع الواقي والخوذة الحديدية. وكعادة هذه الصحافية المحترفة الهادئة لم تنقل الخبر فحسب بل قررت هذه المرة أن تصنع من قصتها خبراً ولو بحبر الدم. الموت امام العدسة. سبقها الطفل محمد الدرة. كان محمد يسأل والده جمال لحظة علقا في شارع صلاح الدين المؤدي إلى منزل العائلة في غزة: لماذا يطلقون النار علينا يا بابا؟
عجز جمال عن الإجابة. أراد حماية إبنه الموعود بسيارة جديدة للعائلة. رفع جمال كم قميصه لعله يخفي جسم طفله الصغير والنحيل عن البارودة والبارود، إلا أنهم أصابوا محمد وأصابوه. سقط محمد مقتولاً في حضن والده. شاهده العالم كفيلم ومضى. كأن شيئاً لم يكن سوى إستعادة اللقطات كما حصل بعد عشرين سنة على “المناسبة”!.
بالأمس، وبعد إصابة علي السمودي المنتج في فريق الجزيرة، برصاصة قنص متعمدة في كتفه عند أطراف مخيم جنين في الضفة الغربية المحتلة، قررت شيرين أبو عاقلة ورفيقتها الصحافية شذا الحمايشة المضي في مهمتهما في شارع أمسك به جنود الإحتلال ببنادق القنص بينما كان العديد من شباب المخيم على مقربة من شيرين ورفيقتها بلا أي قطعة سلاح.
من يراقب الشريط الذي أبرز سقوط شيرين لا يستطيع أن يتصور حالة العجز التي أصابت رفيقتها وصديقتها شذا الحمايشة. سقطت شيرين وكان يفصل بينها وبين زميلتها جذع شجرة. شذا تسند ظهرها إلى الجدار. تصرخ وتبكي. تمد يدها لتلتقط شيئا من نبض شيرين فينهمر الرصاص. صار الخوف والموت والدم هو الفاصل بين زميلتين وصديقتين: واحدة ممدة أرضاً تسبح بدمائها والثانية مشدوهة تنتظر دورها الأسود. صرخ الشباب وهم ينادون سيارة الإسعاف ويحاولون الإقتراب ولكن.. إلى أن وصل أحد الشبان، على وقع رشقات القنص المسموعة، ليتمكن من إبعاد شذا أولاً وإنتشال شيرين إلى سيارة الإسعاف ثانياً.
لو عدنا إلى شريط الفيديو. شاهدنا شذا تخاطب الجميع بعيونها الحائرة. يدها ترتفع ولا تصل إلى شيرين. تفصل بينهما عوالم ومحيطات. أي لحظة عاشتها شذا وأي صورة إلتقطتها عينا شيرين قبل أن تسقط أرضاً. كيف تمكن القناص من إصابة هذا الفاصل ـ المقتل بين قبة سترتها المدرعة وأطراف خوذتها. سنتيمترات وربما مليمترات قليلة كانت كافية لأن يُنفّذ قرار إعدام شيرين بالقتل المتعمد. لكأن إسمها وضع على “اللائحة الحمراء” التي تحتاج عادة إلى توقيع رئيس وزراء العدو. صارت شيرين تشكل خطرا على الأمن القومي لدولة الإحتلال. لا بد من التخلص منها. القتل المتعمد سياسة يريد العدو من خلالها ان يرى العالم كله ذلك بوضوح. حتى حين يذري جنود الإحتلال رصاصهم الطائش ـ وهذه المرة لم يكن كذلك ـ فإنه يتعمد ممارسة القتل بوحشية زائدة. عقل يدرك خطورة الإعلام الميداني. الصورة ابلغ من آلاف الخطابات.
شيرين الصوت والصورة. الكلمة والعيون. الفكرة والمشهدية. العفوية التي تصطاد لقطة. الإرادوية بجعل المقاومة أكثر من رصاصة وحجر. فعل المقاومة وعي وشجاعة وإرادة. إقتربت شيرين من الموت مراراً وكانت تتجاهل حضوره بالقرب منها. مرت من أمام منزلها وأفراد عائلتها وتجاهلتهم كلهم. كانت تسبح في بحر أكبر. بدت أكثر إنشداداً للموضوع. للقصة. لفلسطين. للقدس. لحي الشيخ جرّاح. هذه هي سيرة شيرين أبو عاقلة.
(تصميم الفنان السعيد عبد الغني)
من أين أتت كل هذه الجرأة إلى هذه المراسلة “الحربية”. أتحتاج ميداناً أكثر تعبيراً من كل مدن وقرى فلسطين التي تحولت ساحات حرب متواصلة بفعل إحتلال يحاول منذ ثمانين عاماً تدجين شعب على الإستسلام والخنوع والخضوع، ولكنه يزداد إصراراً على المقاومة والتشبث بالأرض؟
هذه ليست المرة الأولى ولا الأخيرة التي يعتدي فيها جنود الإحتلال على الجسم الصحافي. حصل ذلك في فلسطين ولبنان ودول عربية أخرى. إغتال الإسرائيليون كتابا وصحافيين فلسطينيين في عواصم أوروبية وعربية، أبرزها بيروت، وتم تقديم عشرات لا بل مئات الشكاوى حول الإستهداف المنظم للصحافيين وبعضها بلغ عتبة المحكمة الجنائية الدولية، ولكن النتيجة هي التقاعس عن إجراء أي تحقيق في أعمال ترقى لأن تكون جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
يقول لنا التاريخ القريب والبعيد أنه لا يمكن التعويل على المجتمع الدولي ومؤسساته فسياسة الكيل بمكيالين هي السائدة، ولعل أكثر ما يمكننا المطالبة به هو ان تعمد المؤسسة التي تعمل فيها الشهيدة شيرين أبو عاقلة ـ المنخرطة في تطبيع كامل مع العدو ـ إلى عدم إهدار دم شيرين مرة ثانية وبالتالي أخذ الدروس والعبر.. أما الباقي، فسيتولاه شعب فلسطين، بلحمه العاري من كل شيء إلا من كرامة هي سلاحنا وذخيرتنا للأيام الصعبة الآتية.