وداعاً مظفر النواب.. “أخطر شاعر عربي”!

"(...) رحل عن عالمنا فارس الكلمة والموقف  الشاعر مظفر النواب. لقد أغمض عينيه في مستشفى الجامعة بالشارقة بعد صراع مرير مع المرض (باركنسون)". هكذا نُعي الشاعر العراقي على صفحته الفيسبوكية. نعم؛ مات أخطر شاعر في العالم العربي. ومن واجب كل مثقف وشاعر تشكيل الخطر إياه على كل الأنظمة والمنظومات حتى تتهدم وتنهار.

“مُتعبٌ منّي، ولا أقوى على حملي”.. أربع كلماتٍ نُشرت على صفحته بموقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك” كانت كافية ليختزل بها أحد أشهر شعراء العراق في العصر الحديث مظفر النَّواب معاناته مع المرض، مُراوغاً إياه دون أن يملّ منه، وهو على أعتاب التسعين من عمره في عزلته الأخيرة ببيته الصغير بإحدى ضواحي العاصمة السورية دمشق.

هكذا كانت سنواته الأخيرة مثقلة بالتعب والوجع في الغربة التي إنتمى إليها كغيره من آلاف الشعراء والمثقفين والمبدعين العراقيين الذين هربوا من جور حكامهم. صارت غربة مظفر هويته. صارت المنافي حكايته من بيروت إلى دمشق إلى رحلاته المرضية الأخيرة هنا وهناك.

واجهته في آخر سنواته أيام صعبة للغاية. كنت أسال عنه، فأعلم أنه يعيش عزلة تامة عن الناس. لا يلتقي أحداً. إستنجد الرجل بدفتر صداقاته لتأمين سرير في مستشفى وحبة دواء. تصوّروا كاد أن يموت شاعر بقامة مظفر على قارعة العوز.

“القدس عروس عروبتكم فلماذا أدخلتم كل زناة الليل إلى حجرتها ووقفتم تسترقون السمع وراء الأبواب لصرخات بكارتها/ وسحبتم كل خناجركم وتنافختم شرفاً وصرختم فيها أن تسكت صوناً للعرض/ فما أشرفكم/ أولاد القحبة، هل تسكت مُغتَصبة”. 

أبيات حفظناها مذ كنا على مقاعد الدراسة. رحنا نسترق السمع إلى قصائده من على منبر مسرح “قاعة المهرجانات” في جامعة بيروت العربية في الطريق الجديدة في أواخر ثمانينيات القرن الماضي. كنا صغارا وكانت كلماته كبيرة ورنانة. كنا صغارا وكان أصغر منا ببكائه وندبه وغزله وهو يرتل القصائد بلغة كربلائية شجية. رحل الصوت الذي لا صوت إلاه. الصوت الذي لن يتكرر. الشاعر الذي لا يشبه إلا نفسه. القصيدة المظفرية العراقية الثائرة الحزينة.

لم ينج شاعر ومثقف وإنسان حر من السجن والتعذيب في العراق ايام الطاغية صدام حسين، وللعراقيين مع شجنهم ومواويل حزنهم الطويل حكايات وحكايات. غير أن عذابات بغداد لم تجعل شاعرنا الكبير يتسامح مع القضايا الكبرى، واولها فلسطين.

القدس عروس عروبتكم“، كانت هذه أول الكلمات التي جعلتني أحب الشعر وألحق بالمعنى كما تتبع النملة خط السكر، وكما تتبع الطيور فتافيت الخبز وحبوب القمح.

وشاعري المفضل هذا لم يكن مؤدب اللسان ممن يرتدون البزات الرسمية ويختارون العبارات المنمقة. كان معروفا بقصائد تشتم الحكام بما يليق بهم، ويكيل لهم أفظع العبارات التي يتناولها من أفواه الناس الناقمين، من دون أن ينسى الفقراء والحبيبة والثورة والأرض التي ينتمي إليها.

هو نفسه كتب أعذب القصائد الغزلية وخط أجمل السطور وأكثرها رقة وشجنا وحبا وغزلا وإباحية.

“من تشتريني بقليل من زوايا عينيها/ تعرف تنويني وشداتي وضمي وجموعي”.

أليس الشعر مخزن الحياة بكل فرحها وسقمها؟

وداعاً أبا عادل،

ها هو اليوم يفارقنا،

الأب والقديس العظيم،

الشاعر: مظفر النواب

يترجل إلى مملكة الخلود.

“أصابحُ الليلَ مصلوباً على أملٍ/ أنْ لا أموتَ غريباً ميتةَ الشبحِ”.

لا معنى وجوديا إذا لم تشكل خطرا ما على حاكم ديكتاتوري فاشي. هذه فلسفة شاعرنا الكبير، ولولا مرضه ربما ما قبل أن يجلس في أماكن كثيرة. بهذا المعنى، قُتل مظفر النواب مرات عديدة.

“مو حزن لكن حزين/ مثل ما تنقطع جوّا المطر/ شدّة ياسمي/ مو حزن لكن حزين/ مثل صندوق العرس ينباع خردة عشق من تمضي السنين!
مو حزن لكن حزين/ مثل بلبل قعد متاخر/ لقى البستان كلها بلاي تين/ مو حزن..لا مو حزن
لكن احبك من كنت يا اسمر جنين”!

وفق سيرته التي تقدمها إلينا أكثر من موسوعة، فإن مظفر عبد المجيد النواب “من أسرة النواب الثرية المهتمة بالأدب والفن والمراسم الحسينية، قد هاجرت إلى العراق من الهند؛ إذ كانوا من أمراء الهند، وهم في الأساس عائلة عراقية تنتسب إلى الإمام موسى الكاظم، هربت للهند إبان ثورات العلويين، ومطاردتهم من قبل سلطات الخلافة العباسية”. إلتحق مظفر (مواليد 1934 في الكرخ قرب بغداد) بالحزب الشيوعي العراقي وهو ما يزال على مقاعد دراسة كلية الآداب في جامعة بغداد. تعرض للإعتقال والتعذيب على يد الحكومة الهاشمية بعد الثورة العراقية عام 1958 التي أطاحت بالنظام الملكي، تم تعيينه مفتشًا في وزارة التربية والتعليم. في العام 1963، اضطر لمغادرة العراق إلى إيران المجاورة (الأهواز بالتحديد وعن طريق البصرة)، بعد اشتداد المنافسة بين القوميين والشيوعيين الذين تعرضوا للملاحقة والمراقبة الصارمة من قبل النظام العراقي الحاكم. تم اعتقاله وتعذيبه من قبل السافاك الإيراني وهو جهاز مخابرات نظام الشاه محمد رضا بهلوي، وهو في طريقه إلى روسيا، قبل إعادته قسراً إلى العراق. أصدرت محكمة عراقية حكماً بالإعدام بحقه بسبب إحدى قصائده، وتم تخفيفه في ما بعد إلى السجن المؤبد. في سجنه الصحراوي (نقرة السلمان) قرب الحدود السعودية العراقية، أمضى وراء القضبان مدة من الزمن ثم نُقل إلى سجن الحلة في جنوب بغداد. استطاع مع سجناء سياسيين برفقته أن يحفروا نفقاً من زنزاناتهم يؤدي إلى خارج السجن، ولما نجحت الخطة، وهرب من السجن، توّجه للأحواز في الجنوب العراقي، ومكث سنة حتى أعفي عنهم رسمياً عام 1969.

إقرأ على موقع 180  فرنسا غاضبة من "رجال" مصارف لبنان: إنهم مجرمون!

كان شيوعيا حين كانت الشيوعية نيشانا على كتف الأنقياء المدافعين عن الإنسان في هذا العالم. قرر أن يدفع ثمن خياراته وأفكاره فكان لا بد أن ينتمي إلى نادي المنفيين بين أوروبا والشرق الأوسط طوال أربعة عقود من الزمن ولم يعد إلى العراق إلا في العام 2011، أي بعد ثماني سنوات من تاريخ سقوط نظام صدام حسين.

يقول في قصيدة جميلة:

“تسمي إحتلال البلاد ضيافه/ ولس قتيل نظام يكشف عن عورتيه/ فقط/ بل قتيل الجميع/ ولست أبرىء إلا الذي يحمل البندقية قلبا/ ويطوي عليها شغافه/ لقد قبضوا كلهم/ وأحقهم من يدافع عن قبضة المال/ مدعيا أنها الماركسية أم العرافه”.

هذا العالم البائس، لا بأس أن نخبره، بأن الكون ينكسر حين يموت الشعر ولكنه يفقد كواكبه وسماه واكتاف الفقراء ونهود النساء ولوعة الحب وثغاء اليمام حين يرحل شاعر من طراز مظفر. أما الموت العظيم في ذلك السكون فهو حين يسكت شاعر ويفقد جذوة الشعر وهو على قيد الحياة.

هو الذي قال:

“ماﺫﺍ ﺳﻴﺤﺼﻞ ﻟﻮ ﺗﺤﻮﻟﻨﺎ ﺇﻟﻰ ﺑﻼ‌ﺩ؟ ﺃﻧﺎ ﺑﻐﺪﺍﺩٌ ﻭﺃﻧﺖَ ﺍﻟﻘُﺪﺱ، ﻳﻤﻴﻞُ ﺭﺃﺳﻲ ﻋﻠﻰ ﻛﺘﻔﻚ ﻗﻠﻴﻼ ﻓﺘُﺰﻫﺮ ﺩِﻣﺸﻖ ﻭﻳﺴﺘﻘﻴﻢَ ﺍﻟﻌﺎﻟﻢ”.

ولكننا اليوم لا نجد شعراء يرثون هذه الروح، أكثر ما سنسمعه مرثيات تتجاوز المعنى ولا تصف كبد الحقيقة.

عالمنا المليء بالكذب سوف يفتقد شاعره سليط اللسان، ناقل الوجع، رسول الحقيقة.

بقي مظفر ينظم الشعر بالعامية والفصحى حتى لقب بـ”شاعر القصيدتين”.

“يا عالما بلا صديق/ يا عالما يختنق الإنسان فيه في الزفير مرة/ ومرتين في الشهيق/ مدينة يمنع فيها الشعر/ أو يحتكر الكلام كالشعير يا حبيبتي/ يقتلها النقيق”.

Print Friendly, PDF & Email
أغنار عواضة

كاتبة وشاعرة لبنانية

Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
online free course
إقرأ على موقع 180  الصدر من "شلع قلع" إلى التهديد بإسقاط علاوي