إنضمام فنلندا والسويد لـ”الناتو” يضمن أمنهما أم يهزه؟

منى فرحمنى فرح22/05/2022
قدمت حكومتا السويد وفنلندا طلبين رسميين للإنضمام إلى منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو). واعتباراً من الآن، من المتوقع على نطاق واسع أن يصبح البلدان العضوين الـ31 والـ32 في التحالف العسكري الغربي. ومع ذلك، هناك شكوك تتعلق بما إذا كان البلدان سيكونان أكثر أماناً واستقراراً داخل "الناتو". وهناك أيضاً سؤال مفصلي وهو كيف سيتأمن ذلك إذا لم يتم الإجماع، وهو شرط أساسي لقبول عضو جديد، بالنظر إلى موقف تركيا التي تهدد باستخدام حق النقض؟

في السويد، كما في فنلندا، ترتبط الهويات الوطنية بالسياسة الخارجية للبلاد: فالسويديون معروفون بحيادهم التقليدي منذ قرون من الزمن، بينما يتباهى الفنلنديون بإتقانهم السياسة الواقعية، وبقدرتهم على الإستفادة قدر المستطاع من جغرافيتهم المتقلبة. الآن، وبعد أن طلب البلدان رسمياً الإنضمام إلى “الناتو”، فإن كلاً منهما سيتخلى عن تميزه عن القاعدة الأوروبية. ويبدو أن فنلندا؛ على وجه الخصوص؛ تستعد الآن لتبني سياسة خارجية بمعايير مختلفة. لكن، ماذا سيكون الثمن؟

تحول مذهل

يُعتبر قرار السويد وفنلندا التقدم بطلب العضوية إلى “الناتو” بمثابة تحول مذهل للبلدين اللذين تمكنا حتى الآن من الإستفادة بشكل مفيد من وضعهما المحايد كقوى للتوفيق والتسوية على المسرح العالمي.

فلطالما نجحت النُخب السياسية في فنلندا؛ ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية؛ بالتعامل مع القوتين؛ الروسية والغربية؛ بطريقة ذكية ومتوازنة. الفنلنديون؛ على وجه الخصوص؛ يتمتعون بمهارات إستثنائية في إدارتهم للمواقف الصعبة والحرجة. فخلال العقود التي تلت الحرب، انتقلت فنلندا من كونها أفقر دولة في أوروبا في عام 1945 إلى دولة ذات اقتصاد يوازي مستوى اقتصادات بقية دول أوروبا الغربية. وفي الوقت نفسه، تفوقت على غيرها في تحقيق المساواة بين مختلف شرائح المجتمع.

الآن، تتخلى فنلندا عن هذه الإستراتيجية الدقيقة المتمثلة في التعامل بين القطبين (الروسي والغرب) وتختار الإرتماء في أحضان الغرب بشكل كامل. ويعتقد البعض أن ذلك قد يثير عدواناً روسياً على الحدود (800 ميل)، لأنه يمثل رفضاً قوياً وعلنياً لبنود معاهدة الصداقة لعام 1992 بين هلسنكي وموسكو.

لطالما اعتمد الفنلنديون على السياسة الواقعية والسويديون على الحياد. لكن اليوم يمكن أن يتغير كل شيء، بعد أن قدما رسمياً طلبيهما الإنضمام إلى “الناتو”

وإذا بدا أن السويد وفنلندا لم تأخذا رد الفعل العدواني المُحتمل لروسيا في الاعتبار، فيبدو أن “الحلف”، ولا سيما الألمان والأميركيون الذين يبدو أنهم من بين أعلى المشجعين لجولة أخرى من التوسع، غير مدركين أن هذا من المحتمل أن يعطي روسيا فرصة لفضح كعب أُخيل “الناتو”، حيث تتعهد المادة 5 بأن “الهجوم على أي طرف هو هجوم على الجميع”، على حقيقته.

هناك شبه إجماع على هذه الخطوة داخل فنلندا. فاليمين يرى أن فنلندا انتزعت أخيراً هويتها كدولة “غربية”. والليبراليون يعتقدون أن قرار بلدهم إلى جانب السويد، سيمنح فرصة للتحسين والإصلاح داخل “الحلف” ما يجعله أقل تشدداً. ويختصر المفكر والمنظر القانوني الفنلندي مارتي كوسكينيمي المواقف بالقول: “نحن نعرف هؤلاء الناس (الروس)، وهم يعرفوننا، لكن لا يمكنك التفاوض مع قوة لم تعد تعرف أين تكمن مصالحها. وإذا كانت هذه القوة أقوى منك؛ وأصبحت مجنونة إلى حد ما؛ فإن العضوية في الناتو تصبح معقولة”.

ولا يختلف الموقف السويدي أبداً. ففي بيان صدر في 16 أيار/مايو، قالت الحكومة السويدية “إن عضوية “الناتو” هي أفضل طريقة لحماية أمن السويد في ضوء البيئة الأمنية المتغيرة بشكل أساسي في أعقاب الغزو الروسي لأوكرانيا”.

ضمان الأمن!

السؤال هو هل فنلندا والسويد ستكونان أكثر أماناً بإنضمامهما إلى “الناتو”؟

إحدى النقاط الحسَّاسة في مسألة فنلندا وحلف “الناتو” هي أن الروس يشكلون أكبر أقلية في البلاد. وقد أوضحت منظمتهم التمثيلية الرئيسية أنها تستطيع حل أي من قضاياها السياسية من خلال إجراءات السياسة الفنلندية. لكن بعض المسؤولين الفنلنديين يخشون من أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لا يزال بإمكانه استخدام المظالم الروسية كذريعة لشن أعمال عدائية. ولعل الذريعة الأكثر بروزاً هي أن هلنسكي يمكن اعتبارها عضواً مشاركاً في “الناتو”. فمنذ عام 1996، شاركت قوات فنلندية في مناورات أجراها “الناتو” مع دول البلطيق، وكذلك شاركت في بعثات “الناتو” في العراق وكوسوفو وأفغانستان. ويعتقد بعض السياسيين الفنلنديين أنهم إذا كانوا الآن أعضاء في “الحلف” بحكم الأمر الواقع، فمن الأجدى أن يصبحوا أعضاء رسميين قبل فوات الأوان، حتى لا يستغل بوتين وضع “شبه العضوية” كسبب لعرقلة العضوية الفعلية الرسمية.

حتى الآن لم تحظ التصريحات الصادرة عن البلدين إلَّا بتوبيخ خفيف من الكرملين، الذي اكتفى بالتحذّير من حشد قوات عسكرية لـ”الناتو” في البلدين. كما أن بوتين لم يُشر قط إلى احتمال شنّ أعمال عدائية ضد أي من البلدين، اللذين لطالما كان يتمتع بعلاقات ودّية معهما.

“الفنلندية”

بإنضمامها إلى “الناتو”، يبدو أن فنلندا؛ المتوازنة؛ تتخلى عن سياستها الواقعية. فلطالما انتهجت هذه الدولة الإسكندنافية سياسة خارجية خاصة جداً مع روسيا وأوروبا الغربية، كانت توصف بـ”الحساسة جداً”، ويُطلق عليها اسم “الفنلندية”(*). كما أنه من الناحية العملية، يمكن القول إن البلاد استفادت من علاقاتها الجيدة مع الكرملين وأوروبا. والمعروف أن موسكو ذهبت إلى حد جعل فنلندا نموذجاً لما يمكن أن تحققه العلاقات الودّية مع الاتحاد السوفياتي. ففي الخمسينيات من القرن الماضي، حرصت موسكو على إرسال النفط إلى مصفاة فنلندية وإعادة شراء المنتج النهائي.

قد تنضم فنلندا والسويد إلى “الناتو”، ولكنما لا يستطيعان ضمان أن ذلك سيجعلهما أكثر أماناً

ومع ذلك، يبدو أن قلَّة فقط من النُخب الفنلندية تعتقد أنها ستكون أكثر أماناً بعد الإنضمام إلى “الناتو“، ويبدو أن قدسية المادة (5) من النظام الداخلي للحلف، والتي تنص على أن “دفاع الناتو عن أعضائه هو عملية تفاوض مفتوحة”، غير قادرة على تطمين الجميع.

خبراء يشككون 

على الجانب الآخر، ثمة من يعرب عن شكوكه بشأن ما إذا كان قرار البلدين الإسكندنافيين ضرورياً أو حتى حكيماً، بالنظر إلى تصرفات روسيا في جورجيا في عام 2008 وأوكرانيا على مدار الـ 12 أسبوعاً الماضية.

يرى مدير المبادرة الأميركية الجديدة في المجلس الأطلسي، كريستوفر بريبل، أن “إضافة أعضاء جُدد لا يؤدي بالضرورة إلى تحسين فعَّالية الناتو. إذا لم يوافق بلد واحد، على سبيل المثال، حول طبيعة تهديد معين، أو أفضل وسيلة لمواجهة هذا التهديد، فقد يؤدي ذلك إلى إعاقة أو تأخير الاستجابة في الوقت المناسب. وينطبق هذا على إضافة أي عضو جديد إلى الحلف؛ أو أي ناد أو مجموعة أخرى، في هذا الشأن”.

إقرأ على موقع 180  روسيا مهتمة بـ"الإقامة" في البحر الأحمر وباب المندب.. ولكن

ويشير بريبل إلى أن انضمام فنلندا سيفرض مطالب إضافية على القوات الأميركية التقليدية في أوروبا الشرقية، وربما حتى حدود روسيا. وعلى الأميركيين أن يدركوا جيداً ما هو مطلوب لتنفيذ مثل هذه المهمة ذات النهاية المفتوحة”.

تؤيد سوماطرا مايترا، من مركز المصلحة الوطنية التابع للأمن القومي الأميركي، شكوك بريبل. وهي ترفض بقوة فكرة أن الغزو الروسي لأوكرانيا يجعل من الضروري أن تنضم السويد وفنلندا إلى “الناتو”. وترى أن أوروبا “قادرة تماماً على تحقيق التوازن مع روسيا، وأنها فرصة ذهبية للولايات المتحدة لتحمل بعض العبء الأمني للقارة بدلاً من إضافة المزيد من الإلتزام، وفرصة للحصول على صفقة كبيرة لتحييد روسيا بشكل دائم، وتحقيق توازن قوى في أوروبا، والتركيز على الصين”.

إبتزازات أردوغان

ثم هناك مسألة الإجماع المطلوبة في المادة 10 من معاهدة “الناتو” لضم أعضاء جُدد. فكيف سيتأمن ذلك بينما تعبر كل من تركيا وهنغاريا عن ترددهما.

وفقاً لمايترا، فإن الأمر بالنسبة للمعترضين أو المترددين “يتعلق بالسعر المناسب.. وهم يعرفون أنه بالإمكان شراؤهم. لقد تم اتخاذ قرار قبول فنلندا والسويد بالفعل، وسيخبرنا التاريخ أن إضافة الإلتزامات في أوروبا عندما يتعين علينا التخلص منها، لا سيما مع منافس صاعد في آسيا (الصين)”.

وكان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قد ضاعف سقف مطالبه؛ يوم الأربعاء؛ من مطلبين (حددهما يوم الإثنين) إلى عشرة مطالب، ما أدى إلى مزاعم بأنه يستخدم الإبتزاز. وأتبع أردوغان مضاعفة مطالبه بتهديده باستخدام حق النقض، قائلاً إنه لا جدوى من إرسال أي من البلدين وفوداً إلى أنقرة لإقناعه بخلاف ذلك.

تتلخص مطالب أردوغان بأن تُنهي فنلندا والسويد دعمهما المُفترض لحزب العمال الكردستاني؛ الذي تعتبره تركيا منظمة إرهابية؛ وأن يرفعا الحظر المفروض على صادرات الأسلحة إلى تركيا منذ تشرين الأول/أكتوبر 2019، على أثر توغل القوات التركية في شمال سوريا. وتطالب أنقرة بتسلم ستة أعضاء مزعومين في “الكردستاني” من فنلندا و11 من السويد. كما حدَّدت أسماء أشخاص متهمين بدعم رجل الدين المقيم في الولايات المتحدة فتح الله غولن، الذي تتهمه أنقرة بتدبير محاولة الإنقلاب عام 2016. وتريد تركيا أيضاً إستعادة 12 شخصاً من فنلندا و21 من السويد.

 لحن تركي مألوف

لا أحد يشك في أن موقف أردوغان قد يُربك حلف “الناتو” لعدة أشهر مقبلة. والآن تقع على عاتق دبلوماسيي “الحلف” مهمة إثبات مدى جدّية أردوغان والثمن الذي يجب دفعه لإجباره على التراجع، وبالتالي منع حدوث أزمة داخل “الناتو”.

وبحسب المدير المساعد لمركز “روسي” للأبحاث، جوناثان إيال، فإن أردوغان “يعيش على حافة الهاوية، ويعمل من خلال سياسة حافة الهاوية”.

ويقول إيال: “العديد من مطالب اردوغان، بشأن “الكردستاني”، هي جزء من لحن تركي مألوف. ولكن لديه أسباب داخلية تجعله يقف في وجه الولايات المتحدة. فالاقتصاد التركي في حالة يُرثى لها، وكذلك شعبيته في أدنى مستوياتها على الإطلاق. وإذا أضفنا أرقام التضخم في البلاد (66.9٪)، والإستعدادات لانتخابات الصيف المقبل، فلا ضرر من تحفيز أصوات القوميين. لكن هذا لا يعني أن شكاوى أردوغان مصطنعة بالكامل”.

والجدير ذكره أن الطبقة السياسية في الدول الإسكندنافية بدت متشككة تجاه جدّية أردوغان. فقد قال رئيس فنلندا، سولي نينيستو، إنه تحدث مع نظيره التركي قبل شهر ولم يتم التعبير عن أي من مخاوفه الحالية. وقيل أيضاً إن سفير تركيا لدى “الناتو”، باسات أوزتورك، لم يُرسل أي إشارات إنذار مبكرة.

وكانت وزيرة الخارجية السويدية، آن ليندي، تأمل في البداية أن يضيع شيء ما في الترجمة، بعد أن نقلت عنها الصحافة التركية قولها إن الأتراك يعتبرون جميع الأكراد إرهابيين. ونفت ليندي، يوم الأحد، أن تكون قد أدلت بتلك التصريحات، مؤكدة أنها لم تلتق مع حزب العمال الكردستاني قط، ولن تفعل ذلك. كانت ليندي متفائلة بحذر بإمكانية إزالة أي سوء تفاهم. ولكن بحلول يوم الأربعاء كان من الواضح أن تطميناتها كانت أقل بكثير مما يطالب به أردوغان.

وبرأي إيال فإن هدف أردوغان من المرجح أن يكون الولايات المتحدة وليس فقط فنلندا والسويد. إن قرار تركيا شراء نظام الدفاع الصاروخي الروسيS-400 عام 2017، حوَّلها إلى دولة منبوذة بنظر واشنطن وأدى إلى طرد أنقرة من برنامج الطائرات الشبح المقاتلة F-35.

وربما كانت الشائعات الأخيرة، التي نفتها موسكو، بأن فلاديمير بوتين قد يزور أنقرة في المستقبل القريب إشارة أخرى على أن أردوغان لديه أوراق كثيرة ليلعبها. لكن هذه اللعبة المزدوجة على وجه التحديد هي التي تترك العديد من دول “الناتو” محبطة من سياسة “حافة الهاوية” التي يتبعها أردوغان.

المصادر: (توماس ميني، من جمعية “ماكس بلانك”- صحيفة “الغارديان“)، (جيمس واردان، مستشار دبلومسي أميركي – موقع “آسيا تايمز“)، و(باتريك وينتور، المحرر الدبلوماسي في جريدة “الغارديان“).

(*) مصطلح “الفنلندية” صاغه والتر هالشتاين وريتشارد لوينثال (من ألمانيا الغربية)، على أنها هجمة مفاهيمية ضد سياسة المستشار الألماني ويلي برانت ونظريته “Ostpolitik” في ستينيات القرن الماضي، سعياً لعدم جعل ألمانيا الغربية منطقة نفوذ سوفياتي. 

 

 

 

Print Friendly, PDF & Email
منى فرح

صحافية لبنانية

Download Premium WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Nulled WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
online free course
إقرأ على موقع 180  ساحات سليماني.. ما قبله ليست كما بعده