ليست هذه السطور توطئةً للحديث عن شعر خليل حاوي. ولا عن رحيله، غداة اجتياح 1982. بل، عن العشرين كلمة التي اختارها الفنّان مارسيل خليفة من تلك القصيدة. ليغنّيها بعد حوالى السنتيْن على انتحار حاوي على شرفة منزله. لقد تمزَّق كبرياء شاعرنا، عندما شاهد الدبّابات الإسرائيليّة “تتبختر” في شوارع بيروت. “مَن يرفع عنّي ذلك الذلّ؟”، سمعه البعض يتمتم قبل ساعاتٍ من تصويبه البندقيّة إلى رأسه. لذا، يسمع الناس في قصيدة “الجسر”، غالباً، روح خليل حاوي وهي تئنّ وجعاً. فصارت تشبه “النشيد”. لكن، لماذا قفزت “الجسر” من ذاكرتي إلى هذه المقالة؟
ليس السبب، ذكرى تحرير الجنوب من الاحتلال الإسرائيلي المصادفة بداية الأسبوع. بل لأنّ لنا حكاية، نحن أهل الجبل، مع هذه القصيدة. حكاية تعود إلى الثمانينيّات الماضية. تذكّرتها اليوم، مع ما يشبه عودةً وشيكة، كما يبدو، إلى الزمن الميليشياوي. ففي ساعةٍ سمّاعة، كما يُقال، قرّر “الزعيم الدرزي” تكريس أغنية “الجسر” نشيداً للحزب التقّدمي الاشتراكي. أراده بديلاً، عن نشيد “الإنعزاليّة المسيحيّة اللبنانيّة”. ومن دون نقاش، كان له ما قرّر. فصارت “الجسر” “نشيدنا الوطني” في مناطق الحُكم الذاتي في جبل لبنان (الدرزي).
وطوال سنوات، مُنِع علينا منعاً باتّاً أن نُشهِر “تفانينا” للوطن والعُلا والعلم. لا في احتفال. ولا في مهرجان. ولا في أيّ مناسبةٍ كانت. ومع أنّني من جيلٍ تربّى على احتقار “النشيد الوطني” هذا، إلاّ أنّ “اغتياله”، جنبلاطيّاً، أثار حفيظتي. فصرتُ أتعمّد أن أبقى جالسةً، كلّما انطلقت موسيقى “الجسر” الساكسوفونيّة. وكان المشهد، للأمانة، كاريكاتوريّاً. إذْ إنّ رؤية الجبليّين، وهم يهبّون واقفين مع تسلّل أولى نغمات الأغنية، كان مضحكاً ومذلّاً في آن. لكنّ المهمّ، أنّ “قطوع” حُكمنا الذاتي، بأُمرة ميليشيا “جيش التحرير الشعبي”، انتهى. وانتهت معه، لسعادتنا، سائر القطوعات في مناطق الجنوب والشمال وبيروت و…أينما كان. ما الذي يدعو لنفض الغبار عن حقبة الحُكم الذاتي؟
زحْف القيادات، على أنواعها، والمسؤولين، على اختلاف مشاربهم، إلى خيمة السفير السعودي لتقديم فعل الندامة عن تصريحات وزير خارجيّتنا الفذّ. سحْل محامٍ، على مرأى من الناس، بعد تعليق يافطاتٍ تسأل عن مصير ملفّات الفساد. اقتحام قاضٍ مع بلطات لتكسير أقفال مكاتب صيرفة..إلخ. نعم. معيبة أخبارنا، وبعضها مقلق
معيبة الصور المنقولة من لبنان إلى العالم. المصارعات الحرّة، للفوز بعلبة حليب أو غالون زيت أو ليتر بنزين. شحنات المخدّرات التي تفنّنت العبقريّة اللبنانيّة في إخفائها. زحْف القيادات، على أنواعها، والمسؤولين، على اختلاف مشاربهم، إلى خيمة السفير السعودي لتقديم فعل الندامة عن تصريحات وزير خارجيّتنا الفذّ. سحْل محامٍ، على مرأى من الناس، بعد تعليق يافطاتٍ تسأل عن مصير ملفّات الفساد. اقتحام قاضٍ مع بلطات لتكسير أقفال مكاتب صيرفة..إلخ. نعم. معيبة أخبارنا، وبعضها مقلق. وجديدها “إنزالٌ ميليشياوي” لحزب “القوّات اللبنانيّة”، على طريق الشمال. أراد الكوماندوس من خلاله ترهيب نازحين سوريّين، كيلا يذهبوا وينتخبوا بشار الأسد في سفارتهم في اليرزة. استعاد المهاجمون “أبهى” الصور، ليذكِّروا اللبنانيّين بماضٍ ليس ببعيد. حواجز وعصي وسكاكين وتكسير سيارات وركلات للركّاب مع زخّاتٍ من الشتائم. ولم ينسوا ارتداء القمصان السود. فهذه القمصان باتت، عندنا في لبنان، ماركة مسجّلة “للقمع”. مشهدٌ آخر اقتحم المشهديّة الوطنيّة، في اليوم التالي. ثلاث ساعات، وشارع الحمرا في بيروت مغلقٌ أمام المارّة. فـ”الحزب السوري القومي الاجتماعي”، قرّر أن يشاركنا فرحته بقوّته وقوّاته، في استعراضٍ ضخم (شبه عسكري). استفزّ الاستعراض الكثيرين. فقد قرؤوا فيه تحدّياً سافراً لـ”هيبة” الدولة. ما الهدف من عراضة القوّتيْن، القوميّة والقوّاتيّة؟
كلّ ظهورٍ مسلّح “غير نظامي”، له غايته الخاصّة. قد تكون لتقوية أو تثبيت أو حجز موقع له في السلطة. وقد تكون لإرسال الرسائل إلى “مَن يعنيهم الأمر”. ومهما كانت الدوافع، فهي تلتقي، جميعها، على احتقارٍ موصوف للدولة واستقواءٍ موصوف، أيضاً، عليها. وإذا ما استثنينا الاستعراضات العضليّة لموتوسيكلات شبّان “حركة أمل” و”تيّار المستقبل” (على طريقة “شوفيني يا منيرة” اللبنانيّة)، فإنّ لباقي الاستعراضات والتدريبات والمناورات التي تنفّذها الأجنحة العسكريّة لأحزاب السلطة، مُراداً أكثر خطورة. وحتّى مَن عرّج على السلطة بلمح البصر، استخدم البريد ذاته. فهل ننسى استعراض 2016 لسرايا التوحيد التابعة لحزب الوزير السابق وئام وهاب؟ أعوذ بالله!
عادةً، لا يمكن لأحزاب السلطة (الميليشيات سابقاً) إلاّ إدّعاء “الغايات الشريفة” لاستعراضاتها (ذكرى تحرير، تخليد شهداء،..). ويُستثنى من هذه “الغايات الشريفة”، طبعاً، المسيرات الحزبيّة المتناحرة في ما بينها (بخاصّة بين “القوّات اللبنانيّة” و”التيّار الوطني الحرّ”). “من أين لكم السلاح؟”، يسأل المقدّم التلفزيوني المسؤول القومي. “مين ما معو سلاح بلبنان اليوم؟”، يجيبه المسؤول متعجِّباً بسؤالٍ آخر. وقبله سُئِل القوّاتي والعوني والإشتراكي والأمْلاوي و.. كلّهم أجابوا الإجابة عينها. سبحان الله الذي أعطاهم كلّ هذه الصفاقة! ماذا تعني تلك العودة العلنيّة إلى السلاح؟
تعني الكثير. بخاصّة، عندما يكون شعار حُكّامنا، في هذه الأيّام، التالي: “خرِّب أكثر تحكم أطول”. لنتفّق، يا أصدقاء، على أنّ اتفاق الطائف دفن الحرب، لكنّه لم يدفن معها “أبطالها وحراميّيها”. فهؤلاء، ظلّوا حاضرين مع ملائكتهم، في الحياة السياسيّة اللبنانيّة. وفي حياتنا. استمرّت سلوكيّاتهم في أحزابهم وميليشياتهم، على حالها. بقيت ميليشيات متصلّبة، تحمي مصالح الطائفة والطائفيّين. ومَن لم يكن ميليشياويّاً أصيلاً، استلحق دوراً له. وأكثر. زايد على المزايدين في التحريض المقنَّع على العنف. لا داعي لذكر أسماء تعرفونها. عدا أنّني، في الحقيقة، أخاف منهم. فالدولة اللبنانيّة (أو بقاياها) واقعة تحت سطوة الميليشيات، بالكامل. دخول الميليشياويّين إليها، طمس نفوذها بالمطلق. فبات المواطن اللبناني، وأيّاً كان موقعه، يخشى إهانة الميليشيا وتعدّيات زعرانها. بينما شتيمة الدولة، متعة. مثل “رديّة زجل شروقي”.. حزينة. ما العمل؟
انقلبت المعادلة القديمة. فالخوّات التي كانت تفرضها الميليشيات بأعقاب البنادق (أثناء الحرب)، تحوّلت إلى رشوات (في السلم). يرشون بالمال الانتخابي. بالمنح الدراسيّة. بالمساعدات المرضيّة. بكرتونات الإعاشة. بالتعاونيّات. بالقروض. باللقاحات ضدّ كورونا. وأخيراً، بحبّة الكرز على قالب الحلوى
ربّما تبديد خرافة روّجت لها الطغمة الحاكمة في لبنان. طغمة صارت، عمليّاً، أشبه بمغتصِبٍ للسلطة! وهذه الخرافة تقول، إنّ ما يحدث في البلد اليوم هو في جوهره ردّ فعلٍ على “تفجير الأزمة” في ثورة 17 تشرين! أيّ أنّ حُكّامنا، هم في حالة دفاعٍ مشروع عن النفس. يتطلّب، أحياناً، قمعاً استباقيّاً للشعب. لكنّ هذا القمع الاستباقي لا يطال عناصر ميليشيات أحزاب السلطة. وقوّات أمننا المعروفة “حلّة ونَسَباً”، كما نقول في لبنان، تتغاضى عن كلّ التجاوزات الميليشياويّة التي تتخلّل الاستعراضات العسكريّة، إيّاها. وأفدح. لا تراها. ولا تصل إليها أخبار الخطف والسطو المسلّح. ولا فيديوهات التدريبات والمناورات. ولا صور الحواجز الطيّارة. لا تسمع دولتنا الساقطة، كلّ الحناجر الداعية جهاراً للتسلّح. لاعتماد الأمن الذاتي في بعض المناطق. وهذه الدعوات، للإشارة، لا يطلقها مواطنون عاديّون أو فوق العادة، فحسب، بل مرشّحون لرئاسة الحكومة. ونوّاب ينتمون إلى كتلٍ تعاني كبْتاً تاريخيّاً. وبعد؟
كلّنا يعرف، أنّه لم يعد في لبنان شيء إسمه عمل سياسي. إسمه حزب سياسي. عقيدة حزبيّة. مشروع سياسي لحزبٍ ما. فمنذ زمنٍ طويل، وُوريت العقائد الحزبيّة الثرى. عظَّم الله أجركم، قرّائي الأعزّاء. ما تبقّى لنا، فقط، بضعة أحزاب مترهّلة. ومخلّفات ميليشيات منحلّة، تسعى بشكلٍ حثيث وخبيث لشراء المحسوبيّات. فلقد انقلبت المعادلة القديمة. فالخوّات التي كانت تفرضها الميليشيات بأعقاب البنادق (أثناء الحرب)، تحوّلت إلى رشوات (في السلم). يرشون بالمال الانتخابي. بالمنح الدراسيّة. بالمساعدات المرضيّة. بكرتونات الإعاشة. بالتعاونيّات. بالقروض. باللقاحات ضدّ كورونا. وأخيراً، بحبّة الكرز على قالب الحلوى. بماذا؟ بالبطاقة التمويليّة. فسلوك الميليشيات ليس عبثيّاً. كلّ ما يصدر عنها، يكون متماسكاً. يستنفر لتغليب عصبيّة الجماعة، على أيّ عصبيّةٍ أخرى. يتفوّق الولاء للجماعة وزعيمها الأوحد، على أيّ مضمونٍ أخلاقي. لماذا تخيف عودة الميليشيات في لبنان؟
سببان لهذا الخوف. أحدهما داخلي، والآخر خارجي. فنحن نعيش في عالمٍ، ينتقل من صراع الدول إلى حروب الميليشيات. ونحن محاطون بعالمٍ عربي، أمسى مصنعاً لإنتاج الميليشيات (في العراق وحده يوجد 32 ميليشيا). وسرعان ما تتحوّل إلى عصابات. إلى حكوماتٍ موازية مكوَّنة من هياكل سياسيّة وإداريّة، تتعامل بقانون الجريمة. أمّا داخليّاً، فإنّ تفاقم الذهنيّة الميليشياويّة يؤكّد لنا، وبالدليل الحسّي، أنّ سلطة الدولة والقانون انتهت. بمعنى أدقّ، لم تعد ناظماً للعلاقات الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة في البلاد. وذلك سيستدعي، حتماً، إمعاناً في تسريع “مهمّة” إسقاط الدولة اللبنانيّة.
فالميليشيات، بطبيعتها، مفترسة في أخلاقها. تهدف للربح السريع والمنافع الخاصّة. لذا ستوسِّع، شيئاً فشيئاً، تدمير القطاعات والمؤسّسات (المدمَّرة أصلاً). وستنشر حالات الفوضى والاضطراب، على أنواعهما. ستنكِّل، بلا رحمة، بعلاقة المواطن بالدولة. ستحصر انتباهه في طائفته. في ميليشيا طائفته. في معاقل منطقته الميليشياويّة. ولا ننسى أنّ الرابط عضوي، بين ديمومة الصراعات اللبنانيّة وعدم محاسبة أمراء الحرب (بل العفو عنهم). ما يعني، أنّ العنف سيصبح مباحاً ومتاحاً، ولغاياتٍ شتّى. سياسيّة. أمنيّة. دينيّة. اجتماعيّة. قضائيّة. أو حتّى ريعيّة بحتة. وسيكون لذلك العنف ضحاياه، بالتأكيد. وتبعاته، بالتأكيد أيضاً. فالقتلة يتلاعبون بكلّ شيء. بالسلطة. بالشعب. بالجيش. بالغذاء. بالدواء. بالهواء. وأخطر ما يتلاعبون به.. مصائرنا.
كلمة أخيرة. “يا وطني المعروض كنجمة صبحٍ في السوق”، نادى الشاعر مظفّر النوّاب عراقه، ذات يومٍ حزين. فكيف ترانا ننادي لبناننا؟ نُنهي كما بدأنا، مع الشاعر خليل حاوي: “ما له ينشقّ فينا البيتُ بيتيْنِ/ ويجري البحر ما بين جديدٍ وعتيقْ/ كيف نبقى تحت سقفٍ واحدٍ/ وبحارٌ بيننا.. وسورٌ.. وصحراءُ رمادٍ باردٍ وجليدْ/ ومتى نطفرُ من قبوٍ وسجنٍ/ ومتى ربَّاهُ نشتدّ ونبني، بيديْنا، بيتنا الحُرَّ الجديدْ”.
إقتضى الأمل.. بلبنانٍ جديد.