صحيح أن حلف شمال الاطلسي (الناتو) متموضع بشكل أو بآخر على تخوم حدود روسيا الإتحادية؛ إما بصورة رسمية كحال بولندا ودول البلطيق الثلاث، أو بدون مسوغ قانوني في أوكرانيا وجورجيا؛ لكن الدول المذكورة لا تعيش حالة خشية دائمة من الجارة الكبرى وحسب، إنما تتقاسم الأخيرة أراضيها، حيث هناك تهديد دائم من داخل تلك الدول يستدعي الخارج (روسيا) متى لزُم الأمر.
لو استمر مدّ أوكرانيا بأحدث انواع الأسلحة للانتصار على روسيا وإضعافها، والعمل على ضمّ دول أوروبية جديدة إلى حلف “الناتو”، لا سيما المحايدة منها (مثل فنلندا والسويد)، سوف تلجأ روسيا ليس إلى مناطق نفوذها في دول شرق أوروبا لتهديد أمن تلك البلدان وأمن القارة الأوروبية برمتها، بل إلى نشر ترسانتها النووية على كامل حدودها مع الدول الأوروبية ولا سيما دول البلطيق.
وقد عبّر أكثر من مسؤول سويدي وفنلندي عن تخوفهم من التقدم بطلب الإنضمام إلى “الناتو”، حتى لا يصبحوا هدفاً لحرب روسية تُشَنّ عليهم، وقد سارعت الولايات المتحدة إلى تقديم ضمانات أمنية لحماية هاتين الدولتين، وهذا ما يشير إلى أن الإدارة الأميركية ماضية في خطة خلق خط تماس فاصل بين الدول الأوروبية وبين روسيا، أشبه بحائط برلين، وصولاً إلى زرع مناخ من اللاثقة بين روسيا وكل جيرانها الأوروبيين.
ويبدو ان فنلندا على الأقل، لم تتعلم شيئاً من “حرب الشتاء”؛ والمقصود بها الحرب الروسية- الفنلندية الأولى عام 1939، عندما غزَّت روسيا فنلندا بعد مرور ثلاثة أشهر على إندلاع الحرب العالمية الثانية. ولم تُعر فنلندا أهمية للمتحدثين من شعبها باللغة الروسية، وهي اللغة الثالثة بعد الفنلندية والسويدية، ولا لتشاركها مع روسيا في 1300 كلم من الحدود، وهي بذلك معزولة نسبياً عن جغرافيا “الناتو”.
في النهاية، حسمت فنلندا خيارها بالإنضمام إلى “الناتو”، وقررت أن تتحدّى منطق التاريخ والجغرافيا، وعدم الاستجابة لدروسهما. والسويد هي الأخرى طلبت الانضمام إلى “الناتو”، وقررت بخطوتها الإنخراط في الصراع القائم على الساحة الدولية. هذا ما يؤشر إلى حجم التحشيد الغربي ضد روسيا. وفي المقابل، لا يُستبعد بأي حال من الأحوال أن تلجأ الأخيرة لأي وسيلة توفر لها الصمود في أقل تقدير، وصولاً إلى محاولة تعديل موازين القوى، كما يجري حالياً في الشرق الأوكراني، من دون إستبعاد أن يكون السلاح النووي واحداً من تلك الوسائل الرادعة. لكن ماذا عن خارطة النفوذ الروسية داخل دول شرق أوروبا؟
أوكرانيا.. ساحة لأكبر الحروب
قبل ثماني سنوات من احتجاجات عارمة عمّت كافة المدن الأوكرانية، وأدت إلى الإطاحة بحكم الرئيس فيكتور يانوكوفيتش الموالي لموسكو، عمدت روسيا إلى ضم جزيرة القُرم إلى أراضيها عام 2014، بناء على استفتاء لأبناء الجزيرة التي يشكل الروس أكثر من نصفهم. أتت نتائج الإستفتاء لمصلحة الانفصال عن أوكرانيا، ما شجّع أبناء إقليم دونباس؛ الذي ينحدر منه يانوكوفيتش (شغل منصب رئيس مقاطعة دونتيسك بين عامي 1997-2002)؛ على إعلان استقلال جمهوريتي لوغانسك ودونيتسك. هذه الخطوات أسسّت لصراعٍ، ومهّدت الميدان لحرب تشهد الأراضي الأوكرانية أعنف فصولها منذ شباط/فبراير الماضي حتى الآن.
الإدارة الأميركية ماضية في خطة خلق خط تماس فاصل بين أوروبا وَروسيا، أشبه بحائط برلين، وصولاً إلى زرع مناخ من اللاثقة بين الطرفين
وبصرف النظر عمَّا ستؤول إليه هذه الحرب، فإن أوكرانيا حُكم عليها بأن لا تنعم بالإستقرار بعد الآن، سواء انضمت إلى حلف “الناتو” أو طبّقت نموذج الحياد الفنلندي السابق، ناهيك عن كلفة إعمارها التي ستكون مكلفة لها ولباقي أوروبا.. وللولايات المتحدة.
في الخلاصة الأوكرانية، أدَّى تهديد الأمن القومي الروسي من الخاصرة الشرقية إلى جعل أوكرانيا حالياً ساحة لإحدى أكبر الحروب في شرق أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية.
عين روسيا على جورجيا
إثر تحرك القوات الجورجية ليل السابع ـ الثامن من أغسطس/آب 2008 لفرض سيطرتها على مقاطعة أوسيتيا الجنوبية وإلغاء الحكم الذاتي الذي تتمتع به منذ زمن الاتحاد السوفياتي، واحتلالها عاصمة الإقليم (تسخينفالي)، تدخل الجيش الروسي على عجل وحرّر الإقليم من القوات الجورجية التي لم يتسنَ لها المكوث فيه أكثر من 24 ساعة.
استغلت روسيا أوضاع إقليم اوسيتيا الجنوبية لطرد القوات الجورجية من أبخازيا، الإقليم الجورجي الآخر ذات الحكم الذاتي، بصورة نهائية، برغم التدريبات والأسلحة التي تلقاها من الولايات المتحدة في السنوات الأربع التي سبقت هذه الحرب.
وعليه، بات لروسيا نفوذها على هاتين المنطقتين ولم تتجرأ جورجيا على مواجهتهما، حتى لا تلقى مصير عام 2008 أو على غرار ما يجري في أوكرانيا اليوم إذا ما انتقلت إليها عدوى التحدي والصمود، لأنها لن تتوقع أي تدخل لـ”الناتو” كونها ليست واحدة من أعضائه، كما هو حال أوكرانيا اليوم.
مالدوفيا.. حالة حرب
لا حدود مشتركة لمالدوفيا مع روسيا الاتحادية، لكن للأخيرة نفوذ واضح في إقليم ترانسنيستريا المطل على البحر الأسود، والذي يُرفع فيه العلم الروسي إلى جانب رفع علم الإقليم على المباني الحكومية. ويتواجد فيه قرابة 1500 جندي من القوات الروسية المشاركة في حفظ السلام مع قوات من مولدوفيا وترانسنيستريا، وتتولى تلك القوات أيضا حماية أحد أكبر مستودعات الذخيرة السوفياتية في أوروبا، على بعد كيلومترين من الحدود الأوكرانية. ولا يُستبعد أن تستعين القوات الروسية به، وهي التي تسعى إلى إحكام السيطرة على طول الحدود الأوكرانية لجهة الجنوب مع بحري آزوف والأسود. وهذا ما يزيد من خطورة امتداد الحرب إلى مالدوفيا إذا ما حاولت قوات الأخيرة اعتراض القوات الروسية. وتعيش مالدوفيا حالة اضطراب هذه الأيام حتى لا نقول ان الحرب قد وصلت إليها بالفعل.
لا واشنطن بوارد تفويت فرصة التخلص من تمرد الدب الروسي ومحاولة إضعافه وصولاً إلى تفكيكه.. ولا بوتين بوارد الإستسلام والقبول بأقل من انتصار في أوكرانيا
وملدوفيا لم تسلم من الصراعات الداخلية، وقد شهدت حرباً في شهر آذار/مارس قبل ثلاثة عقود، ضد الانفصاليين في ترانسنيستريا، بعدما أعلنت استقلالها عن الاتحاد السوفياتي عام 1991، في ظل مخاوف ترانسنيستريا من انضمامها إلى رومانيا (القريبة منها لغوياً وثقافياً). وقد ذهب ضحية تلك الحرب ما يزيد عن ألف شخص من الجانبين، التي بدأت إثر مهاجمة قوات مولدوفيا “المتمردين”، ونالت منهم في المرحلة الأولى من الصراع، لكن سرعان ما تدخلت روسيا، ما أدى إلى تغيير الأوضاع وقلبها رأساً على عقب، وإلحاق هزيمة بالجيش المولدوفي، لتفرض موسكو بعد ذلك اتفاق وقف إطلاق النار في 21 تموز/يوليو 1992.
كالينينغراد.. متراس روسي متقدم
لم تسلم بولندا من التهديد الجيوسياسي الروسي برغم عدم وجود حدود مشتركة بين الجانبين وانضمامها إلى “الناتو”. كذلك دول البلطيق (ليتوانيا ولاتفيا واستونيا) برغم انضوائها ضمن “الحلف” (حدود مشتركة مع روسيا)، إنما هناك بقعة جيوسياسية استراتيجية بامتياز تتبع روسيا وتطل على بحر البلطيق، عنيت بها مقاطعة كالينينغراد الروسية التي يُهدد الروس حالياً بالتدخل فيها في ضوء قرار ليتوانيا حظر وصول البضائع الروسية إليها بواسطة قطار السكك الحديدية. يُذكر أن كالينينغراد، هو جيب روسي منفصل عن أراضي ليتوانيا، ويبعد عن مدينة بسكوف وهي أقرب عاصمة لمحافظة روسية حوالي 800 كيلومتر. كما يبعد عن أقرب ميناء روسي بمسافة 100 كيلومتر عبر بحر البلطيق. وتبلغ مساحته 15.1 الف كيلومتر مربع (ما يوازي مرة ونصف مساحة لبنان)، وعدد سكانه يزيد عن مليون ومائتي ألف نسمة. وتحده بولندا من الجنوب وليتوانيا من الشمال والشرق. وتحيطه شمالاً مياه بحر البلطيق. وكانت عاصمة الإقليم تحمل اسم كونيغسبيرغ، عاصمة لمقاطعة بروسيا الشرقية الألمانية، قبل أن يجري تغيير اسمها إلى كالينينغراد عام 1946 بعد هزيمة المانيا النازية على يد الجيش الأحمر في الحرب العالمية الثانية، لتصبح أرضاً روسية إلى الأبد.
وتعتبر كالينينغراد؛ التي تعني الرئيس الروسي فلاديمير بوتين شخصياً، كونها المدينة التي نشأت فيها زوجته؛ منطقة تهديد جدّي للدول الأوروبية كافة، وأقرب نقطة روسية إلى قلب أوروبا. أو بالأحرى قائمة بين ظهرانيها، وهي بمثابة جبهة روسية متقدمة وتم تزويد القوات الروسية فيها بأحدث أنواع الأسلحة الروسية. وسوف تزداد أهمية هذا الجيب الروسي وتتوسع مهامه إذا ما انضمت كل من فنلندا والسويد إلى “الناتو”.
لا بد من روسيا!
يبدو أن البلدان المتاخمة لروسيا الاتحادية أو القريبة منها محكومة بواقع جيوسياسي يجعلها أسيرة الأمن القومي الروسي وبالتالي ذريعة التدخل الروسي، إذ يكفي أن تطلب الأقاليم المستقلة الموالية لموسكو الدعم حتى تكون روسيا في أقصى الجهوزية.. والجديد في الأمر، أن روسيا لن تكتفي في طالع الأيام عند الاعتراف بالمقاطعات أو المناطق التي تسيطر عليها كجمهوريات مستقلة، إنما محاولة ضم تلك الجمهوريات – المقاطعات إلى روسيا لتصبح جزءاً لا يتجزأ من أراضيها على غرار جزيرة القرم. فأوسيتيا الجنوبية مثلاً، بصدد التحضير لإجراء استفتاء على الانضمام إلى روسيا الاتحادية، ومحافظة خيرسون الأوكرانية التي استولت عليها القوات الروسية، كذلك تشهد مطالبة واسعة بضمّها إلى أراضي روسيا الاتحادية، حيث تعمل الأخيرة على ربطها بشبكات الهاتف والغاز وغيرها.. وقد ينسحب هذا الإجراء على كافة المناطق الأوكرانية المحاذية لبحري آزوف والأحمر ووصلها بإقليم ترانسنستيريا المالدوفي.
في نهاية المطاف، ما بعد حرب أوكرانيا ليس كما قبلها، لا الولايات المتحدة بوارد تفويت فرصة التخلص من تمرد الدب الروسي ومحاولة إضعافه وصولاً إلى تفكيكه إذا تسنى لها الأمر، ولا بوتين بوارد الإستسلام والقبول بأقل من انتصار على أوكرانيا.. ولو في الدونباس؛ خصوصاً وأنه يتكئ على جيش وصل به ستالين إلى برلين ودكَّ اسوارها إبان الحرب العالمية الثانية، ودفع برئيس الريخ الألماني أدولف هتلر إلى الانتحار وبجيشه إلى الاستسلام، ويتكئ أيضاً على ترسانة عسكرية بإمكانها أن تدمر العالم عشر مرات.