عن شيوخٍ في الخامسة والعشرين!

اليوم عيد الأضحى. لا زالت الأعياد في دياركم زاهرة. أمّا نحن اللبنانيّين، خواريف الأضاحي، فلا مكان للعيد بيننا. هجرتنا الأعياد، منذ زمنٍ بعيد. مذْ حلّت نكبة الـ 2020 في بلدنا. فتحوّل إلى بلدٍ منكوب. وتحوّلنا معه إلى جماعاتٍ منكوبة. وهل يحتفل المنكوبون؟

لا أوراق للأعياد، إذاً، في روزنامة حياتنا. لقد مزّقناها ورميناها في نهر النسيان. فنحن في فترة حِداد على قتلانا. نحن الذين لا نمتّ بصِلة للشعوب المتخندقة في متاريس مافيات السلطة. ولن “نفكّ” حِدادنا قبل أن نأخذ بالثأر. الثأر ممّن هدروا حياة الأحباب. في البحر والجوّ والبرّ. أمّا أنا، شخصيّاً، فلقد دخلتُ في نفق حزنٍ مستدام. مذْ تشظّى جسد رفيقة طفولتي ديما عبد الصمد. مع عشرات الأجساد التي تشظّت، في ذاك اليوم المشؤوم من آب. فمذّاك، هجرنا الفرح وكلّ مشتقّاته. أخذ معه الأعياد والاحتفالات. وترك أرواحنا فريسة خوفٍ من نوعٍ خاصّ.

خوف مرتبط، عضويّاً، بالوحوش التي تتوارث التحكّم بقدرنا. والتحكّم في خياراتنا واختياراتنا. وشتّان بين المصطلحيْن. ولأنّنا لا ندرك الفرق بينهما، حلّت علينا اللعنة. نعم. فنحن ملعونون بأنماط بشر لا يشبهون البشر. كأنّهم مسوّدة أخيرة للخليقة. نقتات على فُتات خياراتهم واختياراتهم. نصّبتهم شعوب الطوائف أصناماً في معابدهم. بَنَتْهم من التمر. فصاروا آلهة لها. تعبدها وتتبارك بها وتمجّدها. هل ستأكلها يوماً مثلما أكلت حنيفة ربّها؟ على الأرجح.

لم يعرف العالم حُكّاماً ومسؤولين وقادة، يؤدّون مهامّهم بالشكل الذي يؤدّيه حُكّامنا ومسؤولونا وقادتنا. هم يلتزمون، حرفيّاً، بالطُرق الأربع التي حدّدها الكاتب والفيلسوف الفرنسي فولتير لإضاعة الوقت: الفراغ والإهمال وإساءة العمل والعمل في غير وقته. لكنّهم ابتكروا طريقاً خامساً: قتل الوقت. فهذا النوع من القتل، بات ميزة الحياة السياسيّة اللبنانيّة. بخاصّة، خلال عهد الرئيس ميشال عون الذي وُلِد من رحم تعطيل البلاد لمدّة سنتيْن ونصف. ومَن ينسى إقفال رئيس السلطة التشريعيّة أبواب البرلمان لأشهرٍ طويلة؟ أو الشهور الضائعة في بازارات تشكيل الحكومات وتأليفها؟

“قتل الوقت”، الجملة التي تثير أعصابي. عندما أسمعها من شخصٍ يدعو صديقاً أو رفيقاً للقائه، كي يقتلا الوقت معاً. أي، كي يقتلا الفراغ بالتحايل على قتل الوقت بالسلوى. والتحايل، هو الآليّة الأساسيّة للكذب. والكذب، هو الآليّة الأساسيّة للمراوغة. والمراوغة، هي الآليّة الأساسيّة للعمل السياسي لحُكّام لبنان

يعشق زعماء لبنان هدر الوقت بالمهاترات. ومن عوارض هدرهم السياسي عندنا، هو انتصار القول ضدّاً على الفعل. وتنامي ردود الأفعال، بدل الانخراط في مقارباتٍ جدّيّة لأزمات البلد وانهياراته. وتأبيد حرب التصريحات والبلاغات الصحفيّة والتراشق بالكلام. أدخلوا لبنان في مرحلةٍ عقيمة من تاريخه السياسي. إنّها مرحلة العبث السياسي بامتياز. أمّا ما يثير القلق، فهي المسارات التي باتت تأخذها الأمور. فجميع المسارات تفضي إلى الفشل. فشل إتمام كلّ الاستحقاقات. إعتاد اللبنانيّون، في الحقيقة، على الفراغ السلطوي. وشتّى أنواع الفراغات. بمعنى أوضح، صاروا يشعرون أنْ لا فرق إذا تشكّلت حكومة أو لم تتشكّل. إذا انتُخب رئيس للجمهوريّة أو لم يُنتخَب. إذا حصلت انتخابات نيابيّة أو لم تحصل.

لم تعد حياتنا السياسيّة مثيرة لاهتمام أحد. لا لمتتبّعيها من بعيد. ولا لمتتبّعيها من قريب. تلاشت قدرة المواطن اللبناني على استيعاب ما يجري، من تبادلٍ للأدوار والأماكن والمناصب والحصص. بشكلٍ يدعو للسخرية والقرف. بخاصّة، عندما يشكو السياسيّون من نظريّة المؤامرة. فهي النظريّة المحبَّبة والمفضّلة عندهم. لماذا؟ لأنّها تُشعِرهم، أي أولئك الحمقى والتافهين وعديمي الجدوى، بأنّهم مهمّون. هكذا يتسرّب السمّ إلى السلطة. وهي أمّ الولائم.

وحالات التسمّم، يا أصدقاء، تعرفون عوارضها. ولا سيّما، الارتفاع في درجات الحرارة. تعلمون أيضاً، أنّ الحُمّى ينتج عنها الهذيان. لذا، حُكّام لبنان في حالة هذيان مستمرّة. لا يميّزون بين نجاحٍ وفشل. بين قوّةٍ وضعف. بين هزيمةٍ وانتصار. بين جدٍّ ومزاح. يا إلهي! لقد جعلونا أضحوكة في الشرق والغرب وفي إنطاكيا وسائر المشرق. نضحك على أنفسنا. ويضحك علينا العالم. في الواقع، لا يرى حُكّامنا إلى الحياة على أنّها مزحة. بل، يعتقدون أنّ العمل السياسي وإدارة شؤون الناس لا يستأهلان كلّ هذا العناء الذي يبذله نظراؤهم في سائر الدول.

فهكذا يفهمون فنّ السياسة والحُكم. ربّما لأنّهم دخلوا هذا المجال، من معابره غير الشرعيّة. أَوَليسوا عصابات مأمورة؟ بلى. ومأجورة؟ ألف بلى. وعليه، يمسي “عملهم السياسي” كالمراهنات في ميدان سباق الخيل (غير الأصيلة). كالمبارزة. والكباش. والاستعراض. والضرب تحت الزنار وفوقه. ومن ثمّ العودة، بعد كلّ هجمةٍ وغزوة، إلى نقطة الانطلاق. و..هكذا. يا دارة دُورِي فينا. وما حصيلة كلّ هذه الإبداعات؟ قتل الوقت، حصراً.

“قتل الوقت”، الجملة التي تثير أعصابي. عندما أسمعها من شخصٍ يدعو صديقاً أو رفيقاً للقائه، كي يقتلا الوقت معاً. أي، كي يقتلا الفراغ بالتحايل على قتل الوقت بالسلوى. والتحايل، هو الآليّة الأساسيّة للكذب. والكذب، هو الآليّة الأساسيّة للمراوغة. والمراوغة، هي الآليّة الأساسيّة للعمل السياسي لحُكّام لبنان. وبصفتهم متحايلين ومراوغين وكذّابين، فهُم يبدعون في قتل الوقت. وقتنا. فإذا سألتموهم عمّا آلت إليه المهامّ الموكلة إليهم؟ سيؤكّدون لكم أنّهم كادوا يُنهونها. ولكن، عند الاستحقاق، ستجدونهم يتملّصون. ويدّعون أنّهم يبذلون قصارى جهدهم. إنّما هناك مَن أعاق جهودهم. ومنع إمكانيّة إتمامهم لما كان يجب إتمامه. و..هكذا. إنّه التفوّق في قتل الوقت. وقتل الوقت في وطننا، صار وقتاً للقتل.

إقرأ على موقع 180  مستقبل تركيا غامض.. حتى لو فاز اردوغان!

نحن موجودون في لبنان فيزيائيّاً. لكنّنا لسنا موجودين في عالم الفعل. فلقد توقّف التاريخ عندنا. بجهود حُكّامنا. أي، أصنام “حنيفة” اللبنانيّة. كيف لا، وهم يعتبرون أنفسهم قادة سرمديّين! بهم ومعهم وعندهم ينتهي كلّ شيء. كلّ حركة. كلّ فعل. فالصنم لا يشعر بضغط الزمن. ولا بمرور الوقت. الوقت الذي تنتظم معه كلّ نشاطات الإنسان. وتتحدّد مكانته. وموقعه في خارطة الحياة. وبما أنّ حُكّام لبنان يكرهون العمل. ويعجزون عن الإنتاج. صار الوقت عدوّهم اللدود. لذا يريدون سحقه. صار هذا السحق طموحهم في هذه الحياة الدنيا. من هنا، تراهم ينشطون لتعميم ثقافة قتل الوقت. لتصير نمط عيش أهل لبنان. نجحوا. فها نحن نتنقّل، بفضلهم، بين العبثيّة والعدم. بين مجهولٍ ومجهول. ومَن يتمرّد على نمط العيش هذا فـ”يا ويله وسواد ليله..!”. ماذا بعد؟

إذا سألتموهم عمّا آلت إليه المهامّ الموكلة إليهم؟ سيؤكّدون لكم أنّهم كادوا يُنهونها. ولكن، عند الاستحقاق، ستجدونهم يتملّصون. ويدّعون أنّهم يبذلون قصارى جهدهم. إنّما هناك مَن أعاق جهودهم. ومنع إمكانيّة إتمامهم لما كان يجب إتمامه. و..هكذا. إنّه التفوّق في قتل الوقت. وقتل الوقت في وطننا، صار وقتاً للقتل

لحظة انفجار مرفأ بيروت، أيقن اللبنانيّون أنّهم تجاوزوا مرحلة الانهيار. وأنّهم ذاهبون إلى مرحلة السقوط الحرّ وصولاً إلى الارتطام الكبير. صار الكلّ يتوقّع هذه اللحظة. قالوا إنّها مسألة وقت، ليس إلاّ. وكرّروا أنّ العدّ العكسي لهذا الارتطام، لن يطول لأكثر من أسبوعيْن. كيف لا، وهو يدلّ على نفسه بنفسه؟ لكن، لم ينتبه هؤلاء المحلّلون إلى أنّنا ارتطمنا ولم يسمِّ علينا أحد. ما ضلّلهم، أنّنا لم نصرخ من ألم الارتطام بالحضيض! كوننا سقطنا على ما يشبه Trampoline الوقت الضائع. والزمن الصريع. لكن، أخطر ما في الارتطام الذي شظّانا إرباً، هي المؤشّرات المنبعثة من مقرّات الأصنام الحاكمة. تأكيد على أنّهم لن يساوموا. تشديد على أنّهم سيناورون. إصرار على أنّهم سيصمدون حتّى اللحظة الأخيرة. اللحظة التي سيخسرون فيها القدرة على المناورة.

كلمة أخيرة. في سنة 2011، عرضت الشاشات العالميّة فيلماً خياليّاً علميّاً بعنوان In Time (من كتابة وإخراج وإنتاج أندرو نيكول). تدور أحداث الفيلم في سنة 2169. في مجتمعٍ يتوقّف فيه عمر الناس عند الخامسة والعشرين. وبدلاً من استخدام النقود، يُفرَض على الناس نظام اقتصادي جديد. يستخدم الوقت كعملةٍ للبيع والشراء. وحينها، يجب على كلّ فرد توفير المزيد من الوقت لنفسه. من أجل حياةٍ أطول. ما يدفع الأغنياء إلى الإتجار بالوقت، والتمكّن من امتلاك مئات السنين التي تضمن لهم الخلود. بينما الفقراء لا يمتلكون سوى دقائق قليلة بعد وصولهم إلى عمر الـ25. يا ترى، كيف كانت مصارفنا ستتصرّف لتنهب “ودائع” هؤلاء الناس من السنين؟ إقتضى التساؤل.

Print Friendly, PDF & Email
وفاء أبو شقرا

أستاذة في كلية الإعلام في الجامعة اللبنانية

Download WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Download Best WordPress Themes Free Download
Free Download WordPress Themes
online free course
إقرأ على موقع 180  رياض سلامة بتعذر البديل: مجرمٌ أم بطل؟