

العدوان على بلادنا، هو عدوان إمبريالي بالأساس، بدأ قبل سايكس بيكو، وتبلور مع وعد بلفور، ليصبح عدواناً إمبريالياً صهيونياً، كون الخيار الصهيوني كان أداة سيطرة بيد الإمبريالية القديمة (بريطانيا وفرنسا تحديداً). وبذلك يمكن مراجعة كتابات المؤرخين والمفكرين اللبنانيين، أمثال ميشال شيحا وشارل مالك وعادل اسماعيل سابقاً، وعصام خليفة اليوم. ولا أحيلكم إلى مهدي عامل ومسعود ضاهر وفواز طرابلسي ومحمد دكروب وجورج قرم وغيرهم.
إذاً، الترجمة العصرية لمفهوم المشروع الامبريالي الصهيوني، هو “المشروع الأميركي الصهيوني” مع تبدّل قيادة الإمبريالية العالمية، وما التأكيد على هذا المفهوم، في يومنا هذا، إلّا للرد على من يرّوج بخبث أو بحسن نية، لمقولة العدوان “الإسرائيلي” حصراً، أو “الإسرائيلي” المدعوم أميركياً بعض الأحيان. وفي ذلك محاولة خبيثة لتبرئة الأميركي من مسؤولية عدوانه، وتبرئة العرب المروّجين والمموّلين له، واللبنانيين الملتحقين به، من تهمة التآمر والتبعية.
على قاعدة هذا الفهم، يُصبح المشروع الأميركي “الإسرائيلي” الذي حمله توم برّاك قائمة شروط للاستسلام، تفرضه الدولة المنتصرة (أميركا) على الدولة المهزومة (لبنان) ولذلك فإن حصر الحكومة اللبنانية بحثها بهذه الورقة، وتجاهل ورقة الرؤساء اللبنانيين أنفسهم، ما هو إلا توقيع واضح على “صك الاستسلام” ما يُكرّر واقعة توقيع الجنرال العميل بيتان وحكومة فيشي في فرنسا على صك الاستسلام الذي حمله ضابط الاحتلال الألماني. وبهذا تكون الحكومة اللبنانية قد قاربت حدود الخيانة الوطنية، إن لم تكن قد تجاوزته، وهنا لا أقصد فقط موضوع السلاح، بل كل الشروط المتضمنة في هذه الورقة وعملية اقتصار البحث فيها حصراً بالأساس.
السلاح والمقاومة.. من يُحدّد من؟
في مجال “مفهومي” آخر، عودة إلى ثنائية الانتصار والهزيمة. يحاول البعض، وبخاصة بين اللبنانيين، الاستقواء بالعصا الأميركية الصهيونية، لتكريس منطق “هزيمة عدوه” الذي هو المقاومة بالنسبة لهؤلاء، وبالتالي أخذهم حصة من “جبنة الانتصار” ورعاية المنتصر!
هنا أسارع للقول: لقد حقّق ميزان القوى العسكري للمشروع الأميركي “الإسرائيلي” أهدافاً كبيرة في لبنان والمنطقة، وأية مكابرة في هذا المجال، لا تفيد في الخروج من هذه الأزمة.
ولكن لنكن واضحين؛ ميزان القوى يستطيع إنهاء مرحلة من الحرب والمواجهة لصالح أحد طرفي القتال. ولكن حتماً، هذا لا يعني انتهاء الحرب ولا المقاومة.
عام 1982، أنهى ميزان القوى نوعاً من القتال، هو المواجهة لمنع الاحتلال، واحتلت العاصمة بيروت، وذهب معها سلاح المواجهة المباشر، الدبابات والراجمات التي كانت بحوزة القوات المشتركة اللبنانية الفلسطينية، وانسحب الجيش السوري مع ما تبقى من سلاحه نحو البقاع ودمشق، لكن قرار المقاومة استمر قبيل ومع إعلان جبهة المقاومة الوطنية، وبعدها الإسلامية، بسلاحٍ متواضع، وحوّل المعركة من معركة منع الاحتلال إلى معركة تحرير الأرض في العام 2000.
بالاستنتاج، ليس السلاح من يُحدّد وجود ولا نوع المقاومة، بل طبيعة المقاومة هي التي تُحدّد نوع السلاح وآليات المعركة.
هنالك رأيان: الأول، وهو رأي أتفهمه ولا أوافق عليه، هو الذي يعتبر البنية المذهبية للمقاومة عامل قوّة أساسي، والثاني، الذي أحمله، بأن البنية لها دور إيجابي، ولكنها تحمّل وظيفة المقاومة أعباءً تعيقها وتغرقها بمشاكل ثانوية، في ظل الانقسامات المذهبية والطائفية في لبنان وفي الإقليم بشكل عام
الحصرية والدولة المقاومة
المفهوم الثالث الذي يحتاج إلى نقاش، هو مفهوم العلاقة بين الدولة والمقاومة؛ ذلك أن البعض يُصرُ على علاقة سطحية وخطية بين المفهومين، وصولاً إلى الحكم أن وجود المقاومة يلغي الدولة أو العكس، وهذا خطأ موجّه ومقصود، هدفه نفي ضرورة المقاومة.
الدول التي تحرّرت من الاحتلال، وحقّقت استقلالاً ناجزاً، هي التي قامت بعد ثورة أو على أساس المقاومة، أما الدول التي حققت ما يُسمى “الإستقلال الأبيض” فما زالت بمعظمها خاضعة وغير مستقلة إلا بالشكل والإسم، ومثال لبنان من أبرز الأمثلة، لأن المقاومة حقّقت تحرير الأرض، لكنها عجزت عن إعادة تكوين الدولة وتشكيل النظام، بما يتجاوز النظام الطائفي والدولة الطائفية، مما يجعل عودة الاحتلال ممكنة بل حتمية.
أما فيتنام كمثال، فقد تعايشت فيها الدولة المقاومة، مع الثورة والمقاومة حتى التحرير الكامل، وتكرّر المثال في الكثير من تجارب أميركا اللاتينية وإفريقيا، حيث عجزت الولايات المتحدة عن إخضاع دولٍ قامت على منطق المقاومة والثورة في الداخل والخارج، وتكامل مفهوم المقاومة فيها مع منطق التغيير الاجتماعي والسياسي.
في لبنان، لم تنشأ الدولة على أسس مقاوِمة، بل نشأت في كنف الانتداب نفسه، وهو الذي وضع لها نظامها، ما يضمن تبعيتها المستدامة للخارج على تنوّعه. ولم تكن في أي يومٍ من الأيام دولة مقاومة، وإن اضطرت أحياناً وبظروفٍ إقليمية “وطائفية أيضاً” على التعايش معها.
نشأت المقاومة خارج الدولة، بل وبتعارض معها، ولم تأخذ المقاومة ترخيصاً، وكان لها على الدوام طابعها الشعبي، وكان المقاومون شباباً ونساءاً وعمالاً وفلاحين وأساتذة وجنوداً، ولكن خارج مهنهم.
يحاولون جر النقاش والانقسام اليوم حول قضية مختلقة، هي حصر السلاح وحصر القرار بيد الدولة. لو كان المقصود حصر السلاح بيد الدولة المقاوِمة والمواجهة من أجل الدفاع عن شعبها ومن أجل التحرير لكان الموضوع مفهوماً، أما تكون الوجهة تحت شعار سحب السلاح لإلغاء منطق المقاومة فهذا يستدعي مواجهة من نوعٍ آخر ومقاومةُ من نوعٍ جديد.
“البيئة” ما لها وعليها!
وهنا ننتقل إلى مفهوم آخر، آن الاوان لنقاشه بشكلٍ واسعٍ وعلني، العلاقة بين البنية والوظيفة، في فهم فعل المقاومة تحديداً وارتباطاً بذلك مفهوم بيئة المقاومة.
العلاقة داخل هذه الثنائية كانت موضع نقاشٍ دائم بيني وبين كادرات أساسية تنتمي إلى ما يُسمى “الثنائي الشيعي” وخارجه من الأوساط الداعمة للمقاومة، وكان هنالك رأيان: الأول، وهو رأي أتفهمه ولا أوافق عليه، هو الذي يعتبر البنية المذهبية للمقاومة عامل قوّة أساسي، والثاني، الذي أحمله، بأن البنية لها دور إيجابي، ولكنها تحمّل وظيفة المقاومة أعباءً تعيقها وتغرقها بمشاكل ثانوية، في ظل الانقسامات المذهبية والطائفية في لبنان وفي الإقليم بشكل عام.
وهنالك عند البعض خلط بين حدود البيئة الحاضنة وطبيعة البنية المكونة للمقاومة بشكلها الراهن وبنيتها الرئيسية.
أين يُمكن وضع قرار الحكومة اللبنانية الأخير، والتزامه سقف المقررات الأميركية “الإسرائيلية” برغم وجود المكوّن المذهبي المدعى أنه يشكل “بيئة المقاومة” داخل هذه الحكومة؟
لا يُخفّف من مسؤولية المكون المذهبي إنسحاب عدد من الوزارء من الجلسة، لكن قرار الحكومة يُفسح المجال أمام نقاشٍ أكثر موضوعية في هذا الإطار، وهو نقاش ضروري في إطار المراجعة النقدية المطلوبة، بما يؤكد ضرورة استمرار المقاومة وتطوير بنيتها بما يتلاءم مع وظيفتها. لأن تطوير البنية لا يعني أبدأ تحجيم البيئة التي كانت وستبقى حاضناً رئيسياً للمقاومة في كل مراحلها، علماً أن هذه النقاط سأناقشها تفصيلاً في مجالٍ وموقعٍ آخر.
ختاماً؛ ما جرى وما ينتظرنا مستقبلاً يطرح مسؤوليات دفاعاً عن المقاومة والجنوب وأهله وجيش لبنان أيضاً، لعل أبرزها صياغة برنامجٍ وطني للمقاومة من أجل التحرير والتغيير الديموقراطي وبناء الدولة الوطنية الديموقراطية المقاومة، التي تستحق حينها حق القرار الوطني وحصريته.
وإذا ما اعتبرنا أن الهجمة الاميركية شاملة، وتستهدف المنطقة وإعادة تشكيلها، بما يتخطى سايكس بيكو، ويلغيه، فمن الضرورة أن تكون مواجهتها شاملة.
لقد دفع الشعبان اللبناني والفلسطيني ثمناً باهظا في هذه المواجهة، لذلك ينبغي تحقيق التكامل الجدي بين قوى المقاومة الديموقراطية في المنطقة، بأفق واضح؛ أفق إسقاط التبعية وأنظمتها.. وجوهر المشروع يبقى فلسطين.