عندما وقعت في حب مقهى بشارع سانتافيه!

خلال إقامتى فى بيونس آيرس عشت فترة غير قصيرة فى شقة بعمارة فخمة على طريق ليبرتادور. هنأنى كثير من أصدقائى فى هذه المدينة الصاخبة والفاتنة على اختيارى مسكنا فى هذا الموقع. كانت الشقة بالطابق الرابع وتطل نوافذها على محطة الريتيرو التى تبدأ عندها وتنتهى فيها جميع القطارات التى تربط محافظات الأرجنتين وداخلها الشاسع بالعاصمة الأم، مركز الثروة والطموح وقاعدة الفن والثقافة والسياسة. تبعد العمارة أمتارا عن حى الفنادق والسفارات وأهم شوارع المشى للتبضع وعن فرص مخالطة الميسورين من أهل الأرجنتين.
كنا أيضا فى هذه العمارة على مرمى حجر من شارع هو الأهم على الإطلاق بين شوارع المدينة وربما الدولة، هو الأطول لأنه يقطع المدينة من عند أول معالمها ويستمر مستقيما لا ينحنى ولا يعرج ولا تهدأ فيه الحركة حتى يصل بعد ساعة سفر بالقطار أو السيارة إلى مشارف ريف المدينة المترامى عبر الأنهار بعيدا عن كل مظاهر العمران. إنه شارع سنتافيه، الاسم الأكثر شيوعا فى أمريكا اللاتينية، تتسمى به مئات المدن والقرى والمؤسسات والمدارس، ففى الاسم، سانتافيه أى الإيمان المقدس، بركة وتيمن لمن يريد، وما أكثر المريدين فى تلك البلاد والجهات!.
***
ما إن استقر بى المقام فى عمارتنا بشارع ليبرتادور الموازى لشاعر سانتافيه حتى انطلقت قدماى تعوضان غياب سيارة لم تكن وصلت من ألمانيا. جبت الحى مرات. وفى أعقاب كل مرة كنت أشكر حظى الذى سمح باختيار هذا الموقع لسكنى. تعلقت بأشياء وأشخاص. كنت صغيرا ولكن أكبر من مراهق وإن أصغر من مجرب. من شباك غرفة مكتبى بالبيت تعلقت بمحطة السكك الحديدية، محطة الريتيرو، وللدقة تعلقت أشد تعلق بالرمز. قرأت قبل ان تطأ قدمى تراب الأرجنتين عن ايفا بيرون، الحكاية التى هزتنى إلى الأعماق. أقول لنفسى أحيانا، أما وقد كبرت يا رجل وجبت الأرجنتين شمالا وجنوبا وخالطت نساء ورجالا فى عديد دول القارة وقارات أخرى وقرأت عديد الروايات المذهلة عاطفيا وقابلت من أهل السياسة من رفعه طموحه إلى القمة ومن خسف به فانتهوا أو انتهين أبطالا فى مأساة ترويها الأجيال، أقول لو أنك قرأت حكايات ايفا بيرون وأنت الآن فى هذا العمر ووراءك تجارب السنين، أراهن أنك ما كنت تأثرت بحكايات قرأتها أو سمعتها وأنت بالكاد فى عمر صرت فيه متأرجحا بين كونك مراهقا أو رجلا، غير واثق تماما لأى النوعين تنتمى. زميلتى الأقرب إلى عقلى سمعت ما أقول فسارعت بالإجابة قبل أن أجيب. همست فى أذنى، يا صديقى الأعز، ثق أنك وفى عمرك هذا لا تزال بعيدا عن هدف تحديد انتمائك.
صديقتى قد تكون على حق. أعترف وإن كنت لا أحب مسايرتها فى هذا الأمر ولا فى مثله. فعشقى لمحطة الريتيرو وانبهارى بحقيقة أن فتاة ريفية فى مقتبل العمر شوهدت تنزل من إحدى عربات الدرجة الثالثة ترتدى فستانا يبدو أنها اشترته مستعملا وتحمل حقيبة ملابس تكاد تتفسخ من كثرة ما حملت، تنزل وهى تحلم بأنها لن تنكسر؛ كان لهما ما يبررهما. نعلم الآن أن الحقيبة حملت كل ما ملكت فتاتنا التى نزلت للتو من القطار تتلفت حولها فى رهبة وانبهار، الانبهار الذى جربه ملايين قبلها لحظة وطأت أقدامهم لأول مرة أرض المدينة، وبعضهم ربما داعبت خيالاتهم معانى من عبارة سبق أن نطق بها طامح عابر، حين قال عشت.. وجئت.. وانتصرت.
***
صديقتى كانت على حق. فهناك على الجانب الخلفى من عمارتنا، وعلى شارع سانتافيه، عاش رمز آخر استطاع نيل احترامى وانبهارى، وربما كسب أيضا نوعا مختلفا من عشقى. فالعشق أنواع، عبارة نطقت بها وأنا مراهق وسجلتها كتابة وأنا ناضج بعض الشىء وحاضرت فيها وأنا أشد خبرة وأكثر نضجا. وقعت فى حب مقهى يطل على شارع سانتافيه. هنا أيضا أتوقع أسئلة يغلب عليها فضول أصحابها أكثر من مجرد الرغبة العابرة فى زيادة المعرفة. الاسم إنجليزى والديكور إنجليزى وصاحبته إنجليزية وأكثر ما يقدمه من مرطبات مع القهوة إنجليزى الأصل والمذاق والشكل. لا شىء من كل هذا احتل فى أى يوم مكانة متقدمة فى أولوياتى أو تقلبات أمزجتى. ومع ذلك اجتمعت كل هذه المعانى فشكلت رمزا فريدا أظن أنه دفع زبائن، أنا منهم، لا يتغيرون إلا نادرا. وإن تغيروا فإلى استقرار ودوام.
ومع ذلك، بقى فى سريرتى ما خفى وعشت سنوات أحترم قدسية هذا الوضع ورغبة أكثر من طرف فى إطالة أمد الاستمتاع به. لم تكن هذه الرغبة بعيدة عن أخص رغباتى ولا كانت المحافظة على احترامها غريبة عنى أو صعبة التحقيق. عرفنى أصدقاء فى الأرجنتين شابا أو صديقا حريصا على الكتمان، ربما إلى حد تبنى الغموض قيمة من أهم وأغلى قيم حياتى. اطمأنوا على البعد، إذ لم نكن كشلة أو مجموعة، نجتمع خارج المقهى، حتى بيوتنا لم يدخلها أعضاء هذه الشلة أو المجموعة. بدأت مجموعتنا بى وبسيدة انتقت مائدة تقع فى أحد الأركان الأقل إضاءة فى مقهى فى أصل فكرته خفوت أضوائه. لاحظت فى بداية الأمر أن شابا يصغرها، أو لعله كان من نفس فصيلتها العمرية، يأتى إلى المقهى متأخرا عن موعد قدومها وينضم إلى المائدة التى لا تغيرها وينشغلان بالحديث الهادئ لساعة أو أكثر تنصرف بعدها ويلحق بها بعد مرور وقت غير قصير.
راقبت تصرفاتهما لفضول لا أكثر ولا لشىء آخر، ورغم حرصى يبدو أن السيدة انتبهت إلى انتباهى؛ إذ حدث ذات صباح باكر أن انحنت نادلة المقهى المبتسمة دائما على عكس طبيعة من عرفت من بنات الإنجليز لتهمس فى أذنى بأن سيدة الركن الأقل إضاءة تريد التحدث معى بعد أن أبلغتها النادلة أننى غريب عن الأرجنتين ومقيم فيها لمدة مؤقتة وأننى لا أستقبل فى المقهى ضيوفا من أى عمر أو جنس. ابتسمت فى اتجاهها مرحبا بدعوة التحدث معها. ما هى سوى دقائق إلا ورأيتها قادمة نحوى تحمل ابتسامة ودودة كانت كافية لتجعل مظاهر ترحيبى بمجيئها أدفأ وأقل تكلفا.
لم تمانع فى أن أستقبلها واقفا وأن أسحب لها مقعدا من مائدة مجاورة وأساعدها فى الجلوس عليه، ولكنها اعتذرت عن عدم قبول عرض تقديم شراب لها من أى نوع بحجة أن قهوتها تنتظرها وأن زميلها على وشك الحضور والانضمام لها. نظرت إلى وجهى بتمعن قبل أن تقول «راقبتك لأسابيع كما راقبتنى وربما أكثر لأنك كما تبينت وتحققت أثناء مراقبتى لك شاب خجول. خمنت من أين أتيت. ساعدنى على التخمين المطبوعات التى تحملها. أعرف أى اللغات تفضل وإلى أى الموسيقى تستمع وإلى أى النساء ترتاح وإلى أى الناس تطمئن. أعرف أنك حديث العهد ببلدنا، لا تعرف الكثير عن عاداتنا، تخشى أن يساء فهمك. أنت تراقب لتتعلم قبل أن تتصرف».
انتظرت حتى انتهت. قلت «صحيح معظم ما نطقت به. نعم راقبتك كما كنت تراقبيننى. أنت سيدة تزن نظراتها وكلماتها بميزان ذهب. لهجتك وتصرفاتك أوحت بطبيعة أرستقراطية على غير طبيعة صديقك، وهو بالمناسبة يبدو من على البعد طيب القلب قوى المراس صادق النوايا. كثيرا ما غلبنى إحساس أننا تقابلنا هو وأنا فى مكان ما من قبل أو أن بيننا ما يقربنا الواحد إلى الآخر. صدقينى إن قلت، وأنا الحديث الخبرة بعلاقات البشر، أن بينكما علاقة هى الأقوى وهى العميقة والمتينة ولن أسألك عن ماهيتها، ولكنها علاقة محببة وأستطيع القول إنها حذرة وربما لحرصكما الشديد على المحافظة عليها بعيدا عن أعين الفضوليين والغرباء».
***
تقاربنا ثلاثتنا لسنوات ثم ابتعدنا أو قل تباعدنا وإن بقى «كوين بيس» فى ذاكرتنا حيا المقهى الإنجليزى الذى صنع علاقة كانت رائعة. رحلت ولم أعد إلا بعد عقد أو ما يزيد قليلا. مشيت فى سانتافيه وجدته أقل جاذبية ورخاء. عثرت على «كوين بيس» فوجدته متنكرا تحت اسم «الملائكة الصغار». تشجعت ودخلت. لم يتغير الديكور إلا قليلا. تغيرت قائمة الطعام كثيرا. استقبلتنى النادلة الإنجليزية وأظنها صارت جدة لأحفاد دون أن تمر بالسنوات الضرورية لتحقيق هذه النقلة. ذكرتها بنفسى وبزبائن المائدة عند الركن. قالت إنهما اعتقلا، السيدة والشاب، لانتمائهما إلى مجموعة يسارية متطرفة. عذبوا الشاب وكان بالمناسبة «ايخو دى ارابى» أى أرجنتينى من أصل عربى واختفت أخبار زميلته؛ إذ تبين أنها من عائلة غنية معروفة وكانت تمول أنشطة المجموعة ومتزوجة من عقيد بالجيش.
***
رحت أسأل عن آخر أخبار معشوقتنا «ايفيتا». سافرت من بيونس آيرس قبل أن أحصل على إجابة قاطعة عما فعلوه بجثمانها، هل حقا ألقى به فى النهر الأعظم المعروف بمار ديل بلاتا أم أذابوه فى الأسيد، أم وجدوه سليما ومحنطا بعناية فأودعوه فى غرفة نوم الرئيس خوان بيرون خلال بدء ولايته الثالثة، أم أقاموا لها صرحا تحت اسم القديسة إيفا.
***
غادرت بيونس آيرس حزينا، حتى ذكرياتى تلاعبوا بها.
(*) بالتزامن مع “الشروق
Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  الأرجنتين تبكي من جديد: مارادونا كظاهرة
جميل مطر

كاتب ومفكر مصري مهتم بقضايا الإصلاح والتحول الديمقراطي

Free Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  من المكسيك إلى تشيلي.. مدٌ يساريٌ متعدد الألوان!