سقوط التهريج والمهرج.. على غلاف “الإيكونوميست”

توقفت طويلاً أمام غلاف عدد الأسبوع الماضي من مجلة "الإيكونوميست" البريطانية. لا أذكر أنني توقفت أمام غلاف مجلة وقورة وواسعة الانتشار لمدة طويلة مثل المدة التي قضيتها ثابت النظرة مثار بالإعجاب أمام هذا الغلاف. 

تذكرت أيام بدء انبهاري بالسياسة والصحافة السياسية. كانت لي وقفاتي المطولة أمام “فرشات” الصحف الأشهر في ذلك الحين. إن نسيت لن أنسى فرشة ميدان لاظوغلي، الفرشة التي كانت تخرج منها صحف الصباح ومجلات الأسبوع لتصطف على دواسة بيتنا. هناك كنت أجمع بعض ما فات على صاحب الفرشة جمعه وإرساله من مجلات ومطبوعات أحمله معي لقراءته في الطريق إلى جامعة القاهرة أو إلى جاردن سيتي حيث مقر عملي المؤقت في المكتبة الأجنبية. وبطبيعة الحال لن أنسى الفرشات الثلاث للصحف في شارع فؤاد الأول بالزمالك عند تقاطعه بشارع البرازيل، ولم نكن تعودنا على النطق بالأسماء الجديدة لشوارع القاهرة. كانت هناك أيضا في وسط البلد فرشة الصحف الشهيرة في ميدان سليمان باشا على ناصية شارع قصر النيل وأخرى على ناصية شارع سليمان باشا للقادمين من ميدان الإسماعيلية، أي التحرير في التسمية الجديدة.

***

عن غير قصد تجاوزت هذه المقدمة الحد الذي قدرته لها قبل أن أشرع في الكتابة عن تطورات تسبق نهاية أزمة دولية. أزمة بدأت محاطة بشكوك في صدقية ونوايا كل أطرافها وتدهورت نحو أوضاع هزلية. كادت هذه الأوضاع تشمل العالم بأسره بما فيه شرقنا الأوسط أو الأدنى أو الأبعد حسب مسمياته المستجدة باستمرار، حتى صار الشرق الأوسط مضغة في كل الأفواه ولازمة لكل قلم يكتب في السياسة.

نحن أيضاً كتبنا ولم يكن في حسباننا أن ما نكتبه سيتحقق، أو لا بد أن يتحقق. أصدقاء وزملاء كثيرون كتبوا ويكتبون لأن أمراً ما في مجال اهتمامهم ينذر بتطور وخيم إن صدقت توقعاتهم وتحليلاتهم. أو كتبوا ويكتبون لأن أمراً ما في مجال اهتمامهم يبشر بتطور طيب إن توافقت التوقعات والتحليلات مع ما تيسر لهم من معلومات حقيقية عادة ما تكون نادرة.

***

في مطلع الأزمة العالمية الراهنة، أزمة أوكرانيا، كتبت وكتب آخرون  يحذرون من أن العالم ينجر جراً نحو كارثة إذا لم يبطل فوراً مفعولها. خرجت الكارثة من رحم فكرة سيئة أو نبتة شيطانية أو اجتهاد محفوف بالشر. كان الاحتمال كبيراً أن تتفاقم الفكرة فتصير مشروعاً خبيثاً للتدمير ويصير الاجتهاد استراتيجية وأحلافاً وحلفاء وخصوماً وأعداء وأسلحة تتدفق بدون حساب وأموال معونات، بعضها في انتظار بيوت آمنة يستقر فيها إلى حين غير معلوم.

نخلص الآن من آخر مراحل التجربة الأوكرانية إلى أن أمريكا ليست في أحسن حالاتها، بل وأن فرصها لاستعادة وضعها ليست عديدة أو مبشرة، على عكس ما تردده من أنها والغرب حققا إنجازات هامة

قبل انطلاق الأزمة شهد العالم أوضاعا عالمية كثيرة تتحرك في اتجاه الفشل أو خيبات الأمل وبعضها انتهى بالسقوط، وفي حالات بعينها كان السقوط مدوياً. العولمة التي كانت أساطيرها على كل لسان وإنجازاتها على كل قلم  كنا شهوداً على انطلاقاتها. رأيناها تنحسر. عشنا لنراها تتعرض لحملات شرسة ومنها الاتهام بأنها وراء نهضة الصين الاقتصادية ومحرك صعودها على طريق القمة الدولية.

ربما كانوا على حق، ولكن لم تكن نهضة الصين الاقتصادية سوى السبب غير المباشر في انحدار المكانة الأمريكية. كانت عنصراً كاشفاً بين عناصر كثيرة. بالتأكيد كانت بعيدة عن الأسباب المباشرة للأزمة المالية الأمريكية والعالمية في عام 2008. وبالتأكيد أيضاً كانت في قلب الأسئلة الباحثة عن تفسير مقنع لسرعة انحدار أمريكا وهي ما تزال تحتل وضع القطب الأعظم في نظام دولي أحادي القطبية. فشلت في صنع سلام إقليمي في الشرق الأوسط وتصرفت تصرف الدول الخارجة عن القانون وعن النضج بتمردها المعلن على قواعد نظام دولي هي التي تقوده وبتدخلها المخزي في العراق وفشلها المتكرر، أو المتعمد، في تحريك قضية فلسطين في اتجاه يناسب تطلعات أغلبية أهل الشرق الأوسط. لم نعد نحن أهل القضية نهتم بهوية ساكن البيت الأبيض، فكلهم في هذه القضية سواء في القيمة وفي الدور وفي النتيجة.

***

يستمر الانحدار الأمريكي المطلق كما وصفه الرئيس دونالد ترامب أو النسبي كما اعتبره بعض علماء العلاقات الدولية. الانحدار مطلق بمعنى أن الخلل مصدره أمريكي وأنه تجذر بالفعل. أما النسبي فبمعنى مقارنته بصعود الصين المتوالي والاسترداد المتدرج من جانب روسيا لبعض ما فقدت من مكانة القطب الدولي ومعظم نفوذه. خلصنا من تجارب عديدة إلى أن الانحدار مستمر ومنها قمة الأمريكيتين الفاشلة التي انعقدت في لوس أنجلوس الأمريكية، ونخلص الآن من آخر مراحل التجربة الأوكرانية إلى أن أمريكا ليست في أحسن حالاتها، بل وأن فرصها لاستعادة وضعها ليست عديدة أو مبشرة، على عكس ما تردده من أنها والغرب حققا إنجازات هامة ومنها ما يلي:

أولاً؛ أعادت للغرب وحدته، فالدول الأوروبية صارت تتنافس في ما بينها على تقديم السلاح لأوكرانيا لتستمر في الحرب. ثانياً؛ دفعت دولاً أكثر للانضمام لحلف الناتو بمحض اختيارها وليس تحت أي نوع من الابتزاز أو الاستفزاز. ثالثاً؛ برغم كل القلق المحيط بالعلاقات بين الصين والغرب لم تتدخل الصين في الأزمة عسكرياً بشكل يهدد الموقف الغربي في الأزمة. رابعاً؛ لم تعترض دولة غربية اعتراضاً حاداً على قسوة العقوبات التي فرضتها واشنطن على روسيا والمتعاملين معها.

إقرأ على موقع 180  73 عاماً على "النكبة".. إسرائيل وجهاً لوجه مع فلسطين

***

واقع الأمر يفرض إدراكاً آخر لنتائج الأزمة مختلفاً عن إدراك واشنطن ولندن  أو ما تحاولان الزعم بأنه حقيقة مطلقة. يعرض هذا الواقع خلاصات ونتائج مختلفة منها على سبيل المثال:

أولاً؛ الغرب ليس موحداً كما تود أمريكا أن تقنع  العالم. صحيح أن الفعل الروسي البشع في أوكرانيا أقنع الكثير من قيادات أوروبا بجدوى الاستعداد أمنياً لاحتمالات تكرار الفعل الروسي ضدها أو ضد دول ودويلات مجاورة، ولكن الصحيح أيضاً هو أن أغلب هذه القيادات صارت تفكر في أن أمن أوروبا وبخاصة الأمن الاقتصادي والعسكري لا يجوز أن يستمر معتمداً على أمريكا خاصة وحلف الناتو عامة.

ثانياً؛ لم تثمر الحملة الأمريكية السياسية والإعلامية المستمرة ضد الصين منذ عهد ترامب ما هدفت إليه وبخاصة إشعال موجات عداء أو خصومات جديدة بين أوروبا والصين. بقيت دول أوروبا مقتنعة أن الصين ما تزال في نظر المؤسسات الأوروبية منافساً اقتصادياً ولا تهدد بأي درجة كبيرة أو مباشرة أمن أوروبا.

ثالثاً؛ تفاقمت إلى حدود قصوى أزمات الجوع بسبب النقص في واردات الحبوب والزيوت من أوكرانيا وروسيا وبسبب رداءة قرار العقوبات. كان صحيحاً ومنطقياً تحميل المسئولية لروسيا وكان ضرورياً في مرحلة تالية تحميل أمريكا جانباً منها خاصة بعد أن اتضح أنها لم تستعد بالدرجة المناسبة لاحتمالات تطور تداعيات اتساع دائرة القتال على حدود روسيا والحصار الاقتصادي  في البحر الأسود.

رابعاً؛ لست أشك للحظة واحدة في صحة الرأي السائد والقائل بأن أمريكا لم تحسب كعادتها النتائج غير المباشرة للحرب الاقتصادية التي فرضتها على الاتحاد الروسي والدول التي تتعاون معه. كثيرون يعتقدون، وأنا منهم، أن أمريكا نفسها وقد تولت قيادة فريق الناتو المناهض لروسيا لم تحسب حجم الأضرار التي ستعود عليها هي نفسها وعلى الدول ذات “الاقتصادات الحرجة” مثل ألمانيا ودول كثيرة في العالم النامي من جراء تطبيق هذه العقوبات. ظهر واضحاً، أو لعله انكشف كغيره من أمور تتعلق بهذه الحرب وتداعياتها المخططة سلفاً، أن عواراً شديداً في تشكيل وأداء مجموعة صنع القرار الخاص بالحرب تسبب في أخطاء جسيمة يدفع الحلفاء ثمنها باهظاً. لم يكن مفاجئاً صدور تعليقات من محللين غربيين كبار تنعي سوء أداء وقلة حرفية وتخبط بعض المسئولين الغربيين ومنهم بوريس جونسون وعدد من كبار مساعدي الرئيس بايدن. أضف مسئولية الرئيس الأمريكي شخصياً وغياب نائب للرئيس أقدر من النائب الحالي على تحمل مصاعب إدارة أزمة على هذه الدرجة من الحدة.

لم تثمر الحملة الأمريكية السياسية والإعلامية المستمرة ضد الصين منذ عهد ترامب ما هدفت إليه وبخاصة إشعال موجات عداء أو خصومات جديدة بين أوروبا والصين. بقيت دول أوروبا مقتنعة أن الصين ما تزال في نظر المؤسسات الأوروبية منافساً اقتصادياً ولا تهدد بأي درجة كبيرة أو مباشرة أمن أوروبا

خامساً؛ الآن وبعد كل ما تعرض له العالم من خسائر وهزات يقولون في دوائر الاتحاد الأوروبي أن الطريق لانضمام أوكرانيا للاتحاد الأوروبي ليست ممهدة بل شاقة وصعبة لسبب بسيط وخطير معاً، هو أن النظام الأوكراني فاسد إلى حدود رهيبة تكاد تستعصي على أي جهود سياسية تبذل في هذا الصدد، وليس غائباً عن ذاكرتنا ما كان يجهر به علناً وسراً الرئيس دونالد ترامب عن فساد قادة كييف والمتعاونين معهم من ذوي الصلة بقيادات بعينها في الحزب الديموقراطي الأمريكي.

سئلت في الأسابيع الأخيرة أكثر من مرة عن شعوري تجاه هذا الفشل المركب وتجاه أداء تنقصه الحكمة التي لا بد تراكمت في نخب السياسة الغربية. لم أجد إجابة شافية واحدة تعبر عن حجم الغضب في نفسي على قدر الكذب وأنواع التقافز والتهريج وهيمنة الهزل الذي تسرب إلى الخطاب السياسي الغربي خلال حملة الغزو الروسي لأوكرانيا، وعلى قصص بطولة جنود أوكرانيين مختلطة للأسف بقصص ميليشيات مدفوعة الأجر جاءت لتتحارب في ما بينها على هذه الأرض، أرض أوكرانيا.

***

في النهاية وعلى رصيف شارع من أهم شوارع القاهرة وقفت حزيناً أمام  غلاف آخر عدد من أعداد “الإيكونوميست”، غلاف تزينه أو تقبحه صورة بوريس جونسون يتقافز فرحاً مهللاً ومزداناً بعلم إمبراطورية بريطانيا العظمى وتحت عنوان رائع الصياغة، بالغ الدلالة؛ اختاره المحررون لا لعدد بذاته ولكن لحقبة كاملة من هيمنة الغرب.. اسمحوا لي باستعارته بتصرف، سقوط التهريج والمهرج، عنواناً لهذا المقال الذي شرفت بكتابته.

Print Friendly, PDF & Email
جميل مطر

كاتب ومفكر مصري مهتم بقضايا الإصلاح والتحول الديمقراطي

Premium WordPress Themes Download
Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  قاطع الرؤوس