مع استخدام روسيا ببراعة سلاحى النفط والغاز، تلاشى التفاؤل الغربى المبكر بأن هزيمة روسيا فى أوكرانيا حتمية، وتلاشى اليقين فى تشكيل جبهة عالمية تعارض الخطوة الروسية تضم قوى غير غربية مثل الصين والهند والبرازيل.
ورغم ما يجمع روسيا والصين من إرث عدائى وتنافسى، إلا أن بكين اختارت الحياد الإيجابى تجاه روسيا مفضلة علاقاتها التجارية الواسعة معها على ضغوط الغرب، وهى نفس النتيجة التى حسمتها الهند والبرازيل والكثير من القوى الإقليمية حول العالم مثل جنوب أفريقيا ونيجيريا وإندونيسيا.
لم يدعم الموقف الأمريكى المتشدد تجاه روسيا سوى دول حلف الناتو ــ باستثناء تركيا والمجر ــ ومجموعة «G7» التى تضم معها كندا واليابان وبريطانيا، وألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا.
تمثل أزمة أوكرانيا فى أحد جوانبها تحديا وجوديا للنظام الدولى الذى دشنت له ودعمته وهيمنت عليه واشنطن منذ نهاية الحرب العالمية الثانية فى أربعينيات القرن الماضى.
تتفق روسيا والصين بالأساس، ومعهما إيران، على ضرورة مواجهة ما يعرفه العالم من هيمنة غربية تقودها الولايات المتحدة. وتؤمن هذه الدول أنه على الرغم من قوة مجموعة الدول السبع التى تمثل 45٪ من الناتج المحلى الإجمالى العالمى، و52٪ من حجم الإنفاق العسكرى العالمى، إلا أن هذا التكتل يمتلك فى الوقت ذاته نقاط ضعف هيكلية.
***
اعتبر المفكر الأمريكى والتر راسيل ميد أن هناك ثلاث نقاط ضعف فى النظام الغربى المُسيطر عليه أمريكيا تمنح الدول الرافضة له بعض الأمل فى سعيهم لتحدى بنية النظام العالمى، وإنهاء هيمنة واشنطن عليه.
أول هذه النقاط يتعلق بالجانب الاقتصادى الحمائى الذى تتجه إليه أمريكا وغرب أوروبا، وقد دشن لهذا الاتجاه بصورة واضحة الرئيس السابق دونالد ترامب.
تقلل سياسات التجارية الحمائية من الجاذبية الاقتصادية للنظام الغربى بالنسبة للكثير من دول العالم الثالث والاقتصاديات الصاعدة. ودعمت سياسات ترامب المعروفة باسم «أمريكا أولا» فى جانبها الاقتصادى ـ التجارى من جاذبية النموذج الصينى على النموذج الأمريكى فى العديد من أقاليم العالم.
كما تقود شركات أمريكية كبرى مثل وول مارت وآبل ومايكروسوفت لوبيات واشنطن من أجل التشبث بعلاقات تجارية مع الصين تتجاهل أى قيم تدعيها الولايات المتحدة أو الغرب وتسهم هذه الشركات بصورة غير مباشرة فى تغيير بنية النظام الدولى لنظام جديد، ستكون هى ذاتها على رأس ضحاياه
ثانى هذه النقاط يتعلق بالقيم والمبادئ التى ينادى بها الغرب ويدعى التمسك بها وعلى رأسها عالمية قضايا حقوق الإنسان والتغيرات البيئية. إلا أن نظرة سريعة على سجل الإدارات الأمريكية المتعاقبة، وإدارة جو بايدن على رأسها، يرى العالم تناقضا واضحا فى ادعاءات الغرب والولايات المتحدة. ومثل لقاء بايدن الأخير بقادة المملكة العربية السعودية وولى عهدها ليس إلا دليلا كافيا لإبراز الخواء الأخلاقى الذى تنادى به واشنطن وتطلب من العالم الالتزام بمعايير حقوق الإنسان لا تلتزم هى بداية بها كما يظهر فى سياساتها الخارجية.
وفي ما يتعلق بالقيم تنادى الولايات المتحدة والدول الغربية بالمساواة فى عالم اليوم، إلا أن نظرة سريعة على تشكيل عضوية الدول دائمة العضوية بمجلس الأمن نجد عدم وجود ممثل للملايين من الأفارقة أو الشعوب الآسيوية واللاتينية، فى حين يمثل أوروبا وحدها ثلاث دول هم فرنسا وبريطانيا إضافة لروسيا.
وثالث العقبات التى تمثل تهديدا كبيرا للنظام العالمى الغربى ما نراه بوضوح فى استعار «الحرب الثقافية» داخل المجتمعات الغربية وعلى رأسها المجتمع الأمريكى. وعليه ففاقد الشىء لا يعطيه، ومع استعار الصراع حول قضايا مثل الإجهاض وحق حمل السلاح والعنصرية وحقوق المثليين والمثليات والمختلفين والمختلفات جنسيا، ودور الدين فى المجتمع، يصبح من العسير على الولايات المتحدة أو الغرب التبشير بنموذج اجتماعى أو نسق أخلاقى عالمى حيث ترفض أغلبية دول العالم التوجه الغربى فيما يتعلق بالحقوق والحريات الجنسية لمواطنيها ومواطناتها. ويتساوى هنا المجتمعات الصينية والروسية مع نظرائها فى السعودية وإيران ونيجيريا وإندونيسيا، وأغلب دول الجنوب.
***
لا يدعم الانقسام السياسى الأمريكى الداخلى والمتزايد بين الجانبين الجمهورى والديمقراطى النظام العالم المهيمن عليه أمريكا، بل يسهل من مهمة روسيا والصين فى تحديه.
وعلى الرغم من الاتفاق العام فى ملفات السياسة الخارجية بين الحزبين على ضرورة مواجهة الصعود الصينى والتهديدات الروسية، يقف الحزبان عاجزين أمام نفوذ الشركات الأمريكية ورأس المال الساعى لمزيد من الاعتماد المتبادل اقتصاديا وتجاريا وماليا، وتجاهل الجوانب السياسية والأخلاقية فى علاقاتهم بالصين وحتى روسيا. وسمحت طبيعة العاصمة واشنطن وانفتاحها من خلال آلية اللوبيات القانونية وغير القانونية على وجود جيش من أصحاب المصالح، الكثير منهم أعضاء سابقون بالكونجرس، الذين يخدمون أجندات صينية دون اكتراث بالمصالح الأمريكية أو بالنظام الدولى الذى ترغب الصين فى تغييره لصالحها.
كما تقود شركات أمريكية كبرى مثل وول مارت وآبل ومايكروسوفت لوبيات واشنطن من أجل التشبث بعلاقات تجارية مع الصين تتجاهل أى قيم تدعيها الولايات المتحدة أو الغرب وتسهم هذه الشركات بصورة غير مباشرة فى تغيير بنية النظام الدولى لنظام جديد، ستكون هى ذاتها على رأس ضحاياه.
(*) بالتزامن مع “الشروق“