في ذاك الخطاب، حدّد قائد القوّات اللبنانية الشاب ما ينطبق عليه حصرًا، وما كانت مسألة الرئاسة عنده وليدة ساعتها، ففي العام 1980 جمع بشير الجميّل فريق عمله في منزل وزير البريد والبرق والهاتف ميشال المرّ في النقّاش، وفاجأ الحاضرين بسؤال عن نسبة حظوظه بالوصول إلى رئاسة الجمهورية، فأجابه مدير المخابرات في الجيش اللبناني العقيد جوني عبدو: «واحد بالمائة» علّق بشير بالقول، «لا بأس، الأسبوع المقبل، وفي هذا التوقيت بالذات، سنجتمع مجدّدًا وتقولون لي ما يجب فعله حتى ترتفع حظوظي بالرئاسة إلى 2%». وكان عليه أن يخوض بعد عامَين معركة رئاسة الجمهورية والبلد أمام تحوّلات كبرى؛ الجيش الإسرائيلي على أبواب بيروت يحاصر أبو عمار وأسراه أهل المدينة، الجيش السوري في لبنان موجود بعدما اُبطلت فاعليته برّا وجوّا، الولايات المتّحدة في أعلى درجات الاستنفار الديبلوماسي.
بين الخطاب الرئاسي المبكر، واقتراب موقع الاستحقاق خطّط بشير الجميّل، وعمل لأشهر مع فريق عمله الموزّع على غير محور، متّن الجسور مع «العهد»، مدّ الخطوط في كلّ الاتجاهات حتى مع النظام السوري وأفاد أخيرًا من اللحظة الإقليمية «الآتية» و«المؤاتية»، فكان أول من أعلن ترشيحه إلى رئاسة الجمهورية من بيت أخيه (أمين الجميل)، بيت المستقبل.
مخيبر: «زارني بشير في بيتي، في بيت مري، سمعت دعسة ورائي فنظرت ورأيته. أتى من دون موعد. أخذته إلى البلكون قال لي: سمعت أنك لن تنتخبني وأنك تعمل دعاية (حملة معارضة لانتخاب الجميّل). أجبته إنني أحترم آراء الجميع لكن هناك أشياء عدّة تقوم بها و«مش عاجبتني»، خصوصًا وإنك محامي. كما سألته: «ألا تقرأ الدستور؟ ألا يحق للنائب ألا يحضر الجلسة كي لا يؤمّن النصاب»؟
اِختار بشير الجميّل «الثوري»، خوض معركته الرئاسية كما خاضها أسلافه، بالوسائل الديمقراطية التقليدية المنسجمة مع الدستور، آخذًا في الاعتبار المناخ الإقليمي والدولي المساعِد وظروف الاجتياح الإسرائيلي، ومتّكلًا على نواب مجلس العام 1972 الذين كانوا تحت مرمى نيرانه السياسية لسنوات خلت، وفي صفوفهم غير المتراصّة أقلية داعمة، ومتحفّظون حتى بين المنتمين إلى خطّ «الجبهة اللبنانية»، أما الأكثرية النيابية فرافضة لترشيحه.. ولكلّ نائب غير متحمّس لأداء واجبه الدستوري مفتاح وأسلوب وطريقة لإقناعه أو إغرائه.
«تركنا كامل الأسعد إلى الآخر”، يقول كريم بقرادوني، “التقيتُ رئيس المجلس وطرحتُ عليه سؤالًا، من القادر على إخراج إسرائيل من الجنوب؟» وأجاب بنفسه «ليس بالمعلومات إنما بالتحليل. بشير الجميّل، كرئيس الجمهورية هو الوحيد القادر أن يقول للإسرائيليين أخرجوا وأنا أتكفّل بضمانة حدودكم ويجب أن تثقوا بي”. قال لي الأسعد، “فهمت عليك”. حصل أخذٌ وردٌ كون كتلة الرئيس الأسعد هي الأكبر. وعلى خطّ الأسعد، وله في المجلس كتلة وازنة، تحرّك ميشال المرّ وأفلح. في المحصّلة وجد العاملون على خطّ «ترئيس» بشير الجميّل لكلّ نائب متردّد أو رافض أو متحفّظ، الدواء الناجع لاجتذابه ما عدا ألبير مخيبر «ما إلو دوا»!
في خلال التحضير لمعركته الرئاسية، قام الجميّل بزيارات سياسية شملت مسؤولين مؤثّرين ومجموعة من النواب القاطنين في الشرقية وبقي ألبير مخيبر الذي كان يعلن صراحة أنه ضد انتخاب بشير الجميّل، وهو معروف بتأييده ريمون إدّه لرئاسة الجمهورية بشكل علني وبـ«نص دين» المتن خارج دائرة الاتّصالات. أخذ بشير وقته في التعاطي مع الموضوع وطرح سؤالًا علينا هل نذهب إليه أو لا؟ وتمّ الاتفاق على أن يزوره الجميّل وليقرّر مخيبر ما يراه مناسبًا. وكانت نصيحة بقرادوني لبشير «اذهب إليه وقلّ له من بداية الطريق أنا لست آتيًا لأخذ صوتك. أنت أعلنت موقفك. أنا آتٍ إليك لأتمنّى عليك المشاركة فقط». طلب المرشّح الرئاسي موعدًا من الدكتور مخيبر الذي أخذ وقته لتحديده، وفي آخر الأمر قرّر ألّا يستقبله. تراجع. قلت لبشير: «لقد قمنا بواجباتنا. شو بدنا نعمل أكتر»؟
لكن واقع الأمر أن بشيرًا قام بمحاولة أخيرة، ويروي الدكتور ألبير مخيبر أنه فوجئ بحضور بشير الجميّل إلى دارته في بيت مري، فماذا قال له، كما روى للزميلة جيزال خوري في «حوار العمر» (لم تُبثّ الحلقة لأن ما ورد فيها تجاوز السقوف التي وضعها نظام الوصاية) «زارني بشير في بيتي، في بيت مري، سمعت دعسة ورائي فنظرت ورأيته. أتى من دون موعد. أخذته إلى البلكون قال لي: سمعت أنك لن تنتخبني وأنك تعمل دعاية (حملة معارضة لانتخاب الجميّل). أجبته إنني أحترم آراء الجميع لكن هناك أشياء عدّة تقوم بها و«مش عاجبتني»، خصوصًا وإنك محامي. كما سألته: «ألا تقرأ الدستور؟ ألا يحق للنائب ألا يحضر الجلسة كي لا يؤمّن النصاب»؟
وأعطيته مثلًا أنه إبان تولّي حبيب أبو شهلا رئاسة مجلس النواب (من تشرين الأول/أكتوبر 1946 إلى نيسان/أبريل 1947) وفي أثناء انعقاد إحدى الجلسات حاول النائب إميل لحّود إقفال باب القاعة العامة لمجلس النواب فتصدّى له أبو شهلا ومنعه بقوله: «خلّي الباب مفتوح، اللّي بدو يفل يفل واللي بدو يبقى يبقى». كما قلت لبشير إن سياسة والده بيار لا تعجبني ولا يمكنني أن أسير بها. فغادر بعده».
لم أرد تأمين النصاب لأن تصرّفات بشير الجميّل لم تكن تعجبني. ولم أذهب الى الجلسة على الرغم أنّ البعض حاول أن يأخذني بالقوّة وتبييض الوج مع بشير، لكنني رفضتُ» ولم يفصح مخيبر أكثر، لكنه تحسّبًا لما قد يحدث، ارتأى أن يبتعد قليلًا عن دارته كي يمرّ يوم الانتخاب وبعده لكلّ حادث حديث.
وحصل الانتخاب في ثكنة الفيّاضية في 23 آب/أغسطس 1982 بحضور 62 نائبًا فنال الرئيس المنتخب، في الدورة الثانية 57 صوتًا مقابل خمس أوراق بيض أما في الدورة الأولى التي لم يحصل فيها الجميّل على غالبية الثلثَين فنال الجميّل 58 صوتًا ووجدت في الصندوق ثلاث أوراق بيض وورقة واحدة حملت اسم ريمون إدّه قيل إنها لإميل روحانا صقر «وجود نائب جبيل الكتلوي كان مهمًّا لتأمين النصاب وهو بالسياسة قص التفّاحة تنين. ألبير مخيبر ما قص ولا تفاحة. قال لبشير ما معناه لا أحبّك ولا أخاف منك»، يقول النائب السابق فارس سعيد.
بعد أيام على انتخابه زار الرئيس المنتخب بشير الجميّل ألبير مخيبر في بيت مري مع وفدٍ كبير ضمّ نوابًا ومسؤولين كتائبيين. أثنى الجميّل على موقف مخيبر المعارض، الذي لاحظ تغييرًا ملموسًا في تفكير الرئيس الشاب، وتواعدا على اللقاء في بكفيا بعد أيام، فاشترط مخيبر أن يكون اللقاء بعيدًا عن زحمة المهنئين
قاطع هذه الجلسة ثلاثون نائبًا، معظمهم نواب «الغربية» والنواب المسافرين مثل عبد المجيد الرافعي وريمون إدّه وأحمد إسبر. وحده ألبير مخيبر، من المنطقة الشرقية، قاطع وكانت كلمته لبشير قاطعة. «وغداة انتخابه اتّصل الرئيس بشير الجميّل بي وطلب مني قراءة الصحف. وكان الجميّل اعتذر من النواب الذين لم يصوّتوا له خصوصًا وأنّ هذا حقّهم الدستوري. وبعد أيام زارني ومجموعة نواب. اِحترمتُ هذا الرجل وأنحني أمام كفاءته. كان بمطرح وصار بمطرح ثانٍ». قال لمحاورته في «حوار العمر» وعندما علّقت «لكن بشير جاء رئيس جمهورية في ظلّ الاجتياح الإسرائيلي» سألها مخيبر: «ليش إذا البلد محتلّ ما بيجي رئيس؟ نسي بشير الجميّل ماضي حزبه ووقف موقفًا شريفًا، موقف أمير.» وفي مكانٍ آخر اعتبر «أن الشيخ بشير كان ضحية حزبه أكثر مما كان ضحية موقفه».
بعد أيام على انتخابه زار الرئيس المنتخب بشير الجميّل ألبير مخيبر في بيت مري مع وفدٍ كبير ضمّ نوابًا ومسؤولين كتائبيين. أثنى الجميّل على موقف مخيبر المعارض، الذي لاحظ تغييرًا ملموسًا في تفكير الرئيس الشاب، وتواعدا على اللقاء في بكفيا بعد أيام، فاشترط مخيبر أن يكون اللقاء بعيدًا عن زحمة المهنئين فوعده الجميّل بذلك وهذا ما حصل.
في تلك الخلوة، عرض الجميّل مسودة حكومة العهد الأولى، وفيها اسم مخيبر، الذي رفض الدخول في الحكومة عارضًا أسبابه. وفي المقابل أسهم شيخ المعارضين، بحكم موقعه الوطني المنفتح، في مدّ جسر تواصل بين الزعيم السنّي الرئيس صائب سلام والرئيس المنتخب، وكان أحد عرّابي القمّة الثنائية في 11 أيلول/سبتمبر بين «صائب بك» والرئيس الماروني الشاب في القصر الجمهوري. إنعقاد اللقاء بحدّ ذاته أزهر أمالًا.. لم تعقد.
«بإيجابيته المعهودة، راهن ألبير مخيبر على بشير وحزن كثيرًا عند اغتياله. واعتبر أن الرئيس الشاب اِعتنق منطق الدولة مثلما اعتنق بولس المسيحية على طريق الشام»، كما ينقل عنه غسان مخيبر.
(*) كتاب “ألبير مخيبر” صادر عن دار سائر المشرق؛ 2022.