سعد محيو15/08/2022
أول ما يتبادر إلى الذهن حين طرح مشروع ميثاق الهوية الوطنية اللبنانية، الذي بدأت تتداوله بعض الجهات في المجتمع المدني، هو أنه مشروع فكري أو ثقافي أو حضاري بعيد المدى أو ربما أكثر: مجرد حلم ينتمي إلى عالم المستقبليات وبالأخص منها المثاليات، لكن الصورة ليست على هذا النحو.
صحيح أن المبادرة تنطلق من قاعدة شعورية – عاطفية تقول: لكي تحب وطنك عن حق، عليك أن تحب كل مواطنيه بكل الحق الممكن في التاريخ. تحب أرض وطنك؟ عليك أن تحب كل شعب هذا الوطن بكل تعدديتهم وتلاوينهم. وصحيح أيضاًَ أنها تطرح إنطلاقاً من مسألة الهوية الوطنية فكرة الدولة الوطنية الأخلاقية (لا المدنية ولا العلمانية) التي تبدو هي الاخرى نفحة شعورية عاطفية، لكن كل تجارب التاريخ القديم منه والحديث، تثبت أن الولادات التاريخية الحقة عند الشعوب تبدأ، كما كان يُلح الفيلسوف سبينوزا، من المشاعر قبل العقل.
سويسرا لم يبنها، كما كان يقول لنا الدستوري الكبير إدمون رباط، القبائل القومية والطائفية المتناحرة، بل نخبة وطنية عابرة للطوائف والقوميات، رفعت شعار حب الوطن ومددته إلى حب كل المواطنين، فساهمت إلى حد كبير في خلق المعجزة السويسرية التي نأمل أن تواصل الاستمرار الآن.
فرنسا، لم تصبح شهيرة بحسها الوطني المشبوب، إلا بعد أن رفعت نخبتها الوطنية في القرن التاسع عشر شعار الدولة الأخلاقية الوطنية كمصدر رئيس للقيم السياسية والاجتماعية والثقافية في البلاد. أي مجدداً: من المشاعر إلى العقل. والقديس فرنسيس الذي اخترق جدار الحروب الصليبية المرعبة في الشرق الأوسط العام 1219 وكاد يحوّل ملك مصر الكامل، شقيق صلاح الدين الأيوبي، إلى المسيحية عبر صلوات الحب لأختي الشمس وأخي القمر وإخوتي البشر وكل المخلوقات والكائنات، لم يتفاوض مع الملك عبر العقلانية وموازين القوى بل من خلال المشاعر والحب النقي والصادق.
في لبنان، حيث يكاد المهاجرون يتساوون ديموغرافياً مع اللبنانيين، سيكون توجّه أي طائفة إلى الانعزال أو التقسيم بمثابة ترسيخ أو حتى تسريع لهذه الانقلابات التي قد تغيّر لوحة تاريخية عمرها مئات السنين
تغيير النفوس قبل النصوص شعار شهير طُرح طيلة الحرب الأهلية العام (1975- 1989)، وكان يعني في مضامينه الحقيقية ألا حلول سياسية حقيقية مع بقاء مشاعر الخوف والحقد والكراهية بين الطوائف. لكن هذا الشعار الصحيح افتقد إلى النبض الصحيح، لأنه لم يدع إلى تجاوز الخوف عبر الحب: حب الوطن المتمدد إلى كل المواطنين. كما افتقد إلى الاستراتيجية القادرة على نقل هذا الشعار الصحيح إلى أرض الواقع والمستندة إلى تحويل هذا الحب إلى مشروع سياسي محدد، يدعو إلى التعاون والتضامن بين كل المواطنين لبناء الدولة الأخلاقية، العادلة، القانونية، التنموية التي تحمي الجميع وتنشر الحق بالعدالة والحياة والتطور لكل المواطنين.
الأقلية الصينية في ماليزيا، التي كانت تسيطر على جل الاقتصاد، رفعت شعار أولوية الوطن ومصالح المواطنين العام 1957 قبيل انسحاب القوات البريطانية وقدّمت تنازلات اقتصادية ضخمة لصالح الأغلبية الملوية كي تقلّص الفوارق بين الجاليتين، فكانت النتيجة أن ماليزيا لم تتجنّب وحسب الحروب الإثنية – الطائفية بل أصبحت أيضاً أو تكاد في مصاف دول العالم الأول.
ربما تبيّن الآن أن مسألة الهوية الوطنية لها مضامين استراتيجية وتاريخية كبرى تتضمن، ولكن تتجاوز، الابعاد الفكرية والثقافية لتمسك بخناق الحلول الواقعية وتضعها على سكة السلامة. هنا التاريخ لا يصنع التاريخ، كما اعتقد طويلاً ماركسيو القرنين التاسع عشر والعشرين، بل الناس هم الذين يصنعونه. وهم لا يفعلون ذلك فقط عبر الوعي (على رغم دوره الحاسم) بل أيضاً من خلال مشاعر التعاون والتضامن والرغبة في الانتقال من الخوف المشترك إلى الحب المشترك.
فلنقارب معاً سريعاً الأزمات الكبرى التي يتعّرض إليها وطننا الآن في ضوء هذه الفرضية:
أولاً؛ هل ثمة من يعتقد حقاً أن في الإمكان التصدي للكارثة البيئية المخيفة في لبنان، من دون بروز تيار وطني إيكولوجي- سياسي شامل، يُجبر النخبة السياسية اللاوطنية الحاكمة على منح الأولوية القصوى لمتطلبات أمّّنا الطبيعة؟
الهوية الوطنية هنا تعني تجسيد روح أمّنا الأرض بل وتقديسها وشن الحرب المقدسة من أجلها. أما الهويات الفرعية الأخرى فلن تستطيع أن تفعل شيئاً فيما الهواء والماء والتربة والبحر والأنهار لا لون طائفياً لها ولا حدود مذهبية تقف عند تخوم محافظاتها.
ثانياً؛ هل هناك من يشك بعد بأنه في المستطاع الخروج من نفق الكارثة الاقتصادية والاختناق السياسي الراهنين، من دون بروز تيار وطني سياسي شامل يعيد البهاء والفعالية إلى مشروع الدولة الأخلاقية الشهابية (وهذا التيار الداعم هو ما افتقدته الشهابية)، وينقل الوطن من جحيم النهب والسرقات والانهيار الخلقي إلى جنّة القيم الحق والعدالة والتطور؟
الهوية الوطنية هي الطريق الوحيد للخروج من الكابوس واستعادة حلم لبنان.
ثالثاً؛ المنطقة، وخاصة إقليم الهلال الخصيب، مقبلان على تغييرات ديموغرافية هائلة، حيث الملايين لا تزال تتنقل من بلد إلى آخر بشكل عشوائي ومطرد (والعد سيستمر على الأرجح)، هذه التغييرات لن تستطيع سوى الهوية الوطنية المتماسكة الصمود في وجهها. وفي لبنان، حيث يكاد المهاجرون يتساوون ديموغرافياً مع اللبنانيين، سيكون توجّه أي طائفة إلى الانعزال أو التقسيم بمثابة ترسيخ أو حتى تسريع لهذه الانقلابات التي قد تغيّر لوحة تاريخية عمرها مئات السنين.
الديموغرافيا تغيّر التاريخ، لكن التنقلات الديموغرافية هي محركّه الرئيس. وبالتالي، لن يكون هناك حاجة قصوى وملحة وسريعة لوضع متطلبات الهوية الوطنية قيد التنفيذ في وطننا الآن أكثر من هذه المرحلة التي ستكون فيها التغيرات الديموغرافية أشبه باضطرابات جيولوجية عنيفة. وهذا يتأكد أكثر حين نتذكر أن كل إقليم شرق المتوسط مقبل على حريق ضخم (جديد) بفعل التنافسات الدولية والإقليمية على موارد الطاقة فيه، الأمر الذي سيكون بمثابة وقود جديد يشعل نيران التغيرات الديموغرافية.
الذاكرة الجماعية السلبية لكل الجماعات الطائفية والمذهبية اللبنانية، يجب إعادة تصويبها نحو وجهتها الصائبة، وهي التذكير بأن المشرق المتوسطي الذي ينتمي إليه اللبنانيون بكل تصنيفاتهم كان واقعاً وفعلاً، وعلى رغم كل نزاعاته، منطلق جل الحضارة البشرية في كل ربوع الأرض
رابعاً؛ العالم يمر في مرحلة انتقالية قد تكون الأخطر في التاريخ البشري منذ 10 آلاف سنة، بفعل كل من العولمة والثورة التكنولوجية الرابعة اللتين لن تغيرا فقط الطريقة التي اعتاد البشر عيشها وحسب (بما في ذلك نهاية العمل البشري وسيطرة الروبوطات بشكل كامل على العمليات الاقتصادية) بل أيضاً تغيير طبيعة الإنسان نفسه عبر تقاطع ثورة الجينات مع تطويرات الذكاء الاصطناعي والبيوتكنولوجيا.
خلال هذه المرحلة، التي ستتوّج على الارجح ببروز امبراطورية رأسمالية خالصة ونقية (ما لم تقع الكارثة الإيكولوجية العالمية، أو تنشب ثورات عالمية)، ستمر كل البلدان في عملية تشظٍ وتمزيق لنسيج مجتمعاتها بهدف خلق الإنسان الاقتصادي الاستهلاكي ذي البعد الواحد. وحدها الهويات الوطنية المتماسكة والمتوازنة ستكون قادرة على التأقلم مع هذه المرحلة الانتقالية بأقل الخسائر الممكنة.
وهنا، هل هناك غير الهوية الوطنية اللبنانية قادرة ليس فقط على التعاطي مع هذا التسونامي، بل أيضاً (وربما أولاً) المساهمة مع شعوب وحضارات العالم الأخرى في إسباغ النزعة الأخلاقية على هذه الثورة التكنولوجية الهائلة، من خلال استنفار القيم المشرقية المتوسطية التي أسست معظم حضارات العالم وكانت أول من اخترع الضمير في التاريخ.
هناك إذاً، وبالفعل، عوامل موضوعية كاسحة تفرض وجود الهوية الوطنية ذات البرامج التنفيذية الدقيقة والواضحة التي تبدأ وتنتهي كما أسلفنا بتحويل حب الوطن إلى حب مواطنيه. كل مواطنيه، وبوضع المصلحة الوطنية العامة فوق كل/ وأي مصلحة خاصة أو فئوية.
لكن، هل هناك عوامل ذاتية في المجتمع اللبناني تسمح بتحقق هذه العوامل الموضوعية؟
التاريخ كما هو معروف عنيد وسيال كنهر هيراقليطس. إنه حركة دائبة وخلق دائم تولد فيه كل يوم نجوم ومجرات وتندثر فيه كل يوم أيضاً كواكب ونجوم، وهو لا يقبل البتة أن يجمّد في قوالب كلسية.
وخلال مائة عام من قيام لبنان الحديث، بزغ تاريخ جديد بالتدريج وببطء ولكن بثبات، ترعرع فيه نبض وطني لبناني حديث كان اللبنة الأولى في ولادة الهوية الوطنية اللبنانية، على رغم استمرار الصراعات المتراقصة دوماً على شفا الحروب الأهلية.
هنا، لنا في كيفية تعاطي الأجيال المُسلمة مع هذا المعطى نموذجاً مثيرا: من رفض هذا الكيان في البداية (1920) إلى القبول به لاحقاً لكن كأمر واقع فقط تمليه موازين القوى الإقليمية والدولية، وانتهاء في العقود الأخيرة (خاصة بعد الحرب الأهلية 1975- 1989) إلى تبلور إنتماء وطني حقيقي لديها يتغذى بقوة من الإيجابيات التي تراكمت طيلة قرن الولادة هذا، بخاصة منها (بل وعلى رأسها) شعلة حرية الفكر والتعبير والتنظيم التي كانت بقعة نور في منطقة سادها ظلام الديكتاتوريات على أنواعها، ومصادرة الحريات، والاعتداء على حقوق الإنسان، واضطهاد المرأة. كما تغذى هذا الانتماء من جملة معقّدة أخرى من المعطيات، بينها حماية الأقليات من الاضطهاد في غياب الديمقراطية في الإقليم، والتأثيرات الإيجابية لليبرالية الاجتماعية لدى اللبنانيين المسيحيين بتأثير الغرب الليبرالي، والنهوض الاقتصادي القصير الذي شهده لبنان بفعل عوامل إقليمية عديدة في الخمسينيات والستينيات الماضية.
وفي الوقت نفسه، وخاصة بعد حرب 1975 الأهلية، بدأت تبرز لدى الأجيال اللبنانية المسيحية نزعات وطنية ترفض إطلالة الأجيال المسيحية السابقة على الأقضية التي ضمّت إلى جبل لبنان على أنها مستعمرات زراعية مُلحقة بالجبل، وعلى سكان هذه الأقضية بأنهم رعايا لا مواطنين(في أحسن الأحوال)، وتتحرّك نحو مفهوم وطني جامع يقفز فوق التاريخ السلبي المتجمّد.
مثل هذه النقلة ما انفكت تطل برأسها بقوة بين الفينة والأخرى منذ أوائل القرن الحادي والعشرين، وبدأت تترجم نفسها في حركات وطنية عابرة للطوائف.
كل هذه المعطيات تدفع إلى العمل المشترك لإعتبار مئوية تأسيس لبنان التاريخ الذي يجب أن تُبنى عليه الهوية الوطنية (تماماً كما فعل الأميركيون حين بنوا هوية لا يتجاوز عمرها عشرات السنين أيضاً وأداروا ظهرهم لحروب أوروبا الدينية والجيوسياسية). أما الذاكرة الجماعية السلبية لكل الجماعات الطائفية والمذهبية اللبنانية، فيجب إعادة تصويبها نحو وجهتها الصائبة، وهي التذكير بأن المشرق المتوسطي الذي ينتمي إليه اللبنانيون بكل تصنيفاتهم كان واقعاً وفعلاً، وعلى رغم كل نزاعاته، منطلق جل الحضارة البشرية في كل ربوع الأرض، كما كان الحاضنة التي وُلد من رحمها ليس فقط الحرف والرقم، والزراعة والصناعة، والإقدام على مغامرة اقتحام البحار، ومفهوم الحضارة نفسها، بل أولاً وأساساً ما أشرنا إليه عن خلق أو اكتشاف الضمير، الذي هو بحق أهم وأخطر من كل الاكتشافات العلمية والتكنولوجية والاجتماعية والثقافية، كما يقول عن حق المؤرخ بريستد.
الهوية الوطنية اللبنانية إذاً ليست ترفاً فكرياً ولا ثقافيا، إنها الخيار الوحيد بأن نكون أو لا نكون. قد لا ينجح مشروعنا هذا. قد تبيده الطبقة السياسية اللاوطنية التي أدمنت تدمير كل محاولات النهوض حفاظاً على مصالحها الضيقة ولو على رفاة وطنها
لولا المشرق المتوسطي، ولولا الضمير، لبقي البشر “لاوعين” كما يؤكد العديد من المؤرخين وعلماء الاجتماع. ولولا هذا المشرق المتوسطي لما وُّلد “المعنى” في الحياة البشرية، ولما وُلد الرقي الروحاني (بمعنى وحدة الوجود والكائنات) الذي زرع للمرة الأولى في التاريخ مفاهيم العدالة والحق، والتسامح والحرية والرحمة/ وحب الطبيعة، والتوازن بين المادة والروح وبين العقل والإيمان.
هذه هي الذاكرة الجماعية الحقيقية في العقل الجماعي لدى كل اللبنانيين والمشرقيين، التي طمسها أرباب المصالح الضيقة اللاوطنية وأحلوا مكانها مشاعر الخوف والكراهية وحولوها إلى استراتيجية ثابتة لديهم وحروب أهلية متواصلة.
إقرار هذا التاريخ الحديث، المستند إلى الماضي المُتجدد للحضارة المشرقية المتوسطية (الهلنتسية)، وإلى حب الوطن لدى الأجيال الجديدة المسيحية والمسلمة، يجعل من السهل الانتقال بالحالة الشعورية لدى اللبنانيين من الكراهية إلى الحب، ومن الاحقاد إلى التضامن، ومن العيش أو التعايش المشترك إلى متعة الحياة المشتركة المتعاونة في إطار المحبة لكل من الوطن والمواطنين.
ختاماً؛ الهوية الوطنية اللبنانية إذاً ليست ترفاً فكرياً ولا ثقافيا، إنها الخيار الوحيد بأن نكون أو لا نكون. قد لا ينجح مشروعنا هذا. قد تبيده الطبقة السياسية اللاوطنية التي أدمنت تدمير كل محاولات النهوض حفاظاً على مصالحها الضيقة ولو على رفاة وطنها، لكننا على الاقل برفعنا لواء هذه الهوية النبيلة، نكون قد أدينا بعض صلوات طلب السماح والغفران من أمنّا الارض المتجسدة في هذا الوطن الصغير جغرافياً لكن عظيم الأهمية استراتيجيا (على حد تعبير ميترنيخ)، بسبب الجرائم والموبقات التي ارتكبناها بحقه وبحق معجزة الحياة على أرضه.