“البونتياك” رقم 28.. “صامدة” مثل “حكيمها” (6)

جاءت نتائج انتخابات العام 1968 قاسية على ألبير مخيبر. خسر بالنقاط ولم يسقط بالضربة القاضية. غداة المعركة كان كلّ من حوله منهكين بعد نهاراتها الأخيرة الموصولة بلياليها. وحده الحكيم نام متأخّرًا في أحد الانتخابات ليستأنف نشاطه صباح الإثنين استعدادًا للانتخابات المقبلة.

أربعة أعوام أمضاها ألبير مخيبر بعيدًا عن ساحة النجمة لم يشعر في خلالها أنه خارج الحلبة. لا هو شعر بذلك ولا الناس، فغيابه كان بحسب تعبيره Maldonne، وفي ألعاب الورق تعني الصفة هذه سوء توزيع الأوراق. وهو اعتبر أن اجتماع أركان الحلف في تلك المرحلة (1968) “كان غريبًا، هم لم يسيروا بحسب ما اتّفقوا عليه. والعميد الصديق ريمون إدّه سار معهم غصبًا عنه. النغمة الطائفية جرّت كثيرين معها لكن ما لبثت أن سقطت الأوهام وكان انتصاري قويًا في العام 1972 على رغم تجمّع كلّ الأحزاب ضدي فضلًا عن الأرمن».

عاد مخيبر إلى البرلمان بإرادة ناخبيه الذين أعطوه 22011 صوتًا بالتمام والكمال على الرغم من جبروت اللائحة المنافسة فأقصى ميشال المرّ مرّةً ثالثة (الأولى في انتخابات العام 1960 والثانية في العام 1964) وتقدّم عليه بحوالى الألف صوت، عاد مخيبر في انتخابات العام 1972 إلى التحالف الطبيعي مع الدكتور إميل سلهب، وضمّت لائحة «التحالف اللبناني» غير المكتملة أسد الأشقر عن القوميين وجوزف خوري (مستقلّ) “فاخترق وحده لائحة الكتائب والأحرار والأحزاب الأرمنية. في تلك الدورة شاط ألبير مخيبر. عاد الناس وأعطوه، وحتى أصوات برج حمّود التي ترجّح الكفّة لم تؤثّر عليه. ألبير زمط الوالد سقط»، يقول سليم سلهب.

“عندما خرجت في الثالثة فجر الإثنين (1 أيار/مايو 1972) من سرايا الجديدة فور إعلان فوزي في تلك الانتخابات وقابلتني الجماهير الملتفّة حولي بحماسة، كان شعوري العميق أن انتصاري هو انتصار شعبي بكلّ ما للكلمة من معنى».([1])

بالفعل كان انتصار «الحكيم» في انتخابات 1972 حدثًا سياسيًا كشف عن مدى تعلّق الناخبين به ووفائهم لشخصه، ذلك أنه كان الوحيد بين المرشّحين الذي استطاع أن يكسر جدار التحالفات في منطقة المتن ويفوز على خصومٍ كبار، ومن لا يذكر عنوان صحيفة “النهار”: «مخيبر وحنين خرقا المتنَين» وكلام النائب الكتلوي إدوار حنين في مهرجان حاشد في جبيل الذي وصف فيه نواب اللائحة المنافسة (في المتن الشمالي) بأنهم “نواب برج حمّود”، في إشارةٍ إلى ثقل الصوت الأرمني في دائرة المتن الشمالي وترجيحه كفّة على كفّة. وتوجّه إلى مخيبر بالقول، «الصديق ألبير، وحدك نائب المتن الشمالي».

لا «استشهاد» الشيخ بشير وما خلّفه في الوجدان اللبناني دفع مخيبر لتليين تصلّبه والقبول بـ«أمين» مرشّح إجماع. ولا استشهاد رينيه معوّض أول رئيس بعد الطائف دفعه لتغيير رأيه بالطائف والسير بترئيس الياس الهراوي. قاطع صاحب الرأي القاطع انتخابات معلّبة من دون أن يقطع الصلات مع زملائه في مجلس الـ72

يجمع من أرّخوا تاريخ المجالس النيابية من عشرينيات الانتداب إلى مجلس العام 2018، أن مجلس العام 1972 كان مختلفًا عن المجالس السابقة، «فللمرّة الأولى يدخل إلى المجلس 37 نائبًا جديدًا. شبابٌ مثقّفون ولديهم رغبة في التغيير، ورافقهم في العمل النيابي جهابذة البلد من السياسيين. من كميل شمعون إلى صائب سلام وكمال جنبلاط لرشيد كرامي (…) إذ جمع المجلس قادة البلد السياسيين ممن دخلوا التاريخ مع مجموعة شباب جديدة دخلت إلى مجلس النواب وحصل نوع من تزاوج الأفكار بين الأجيال الماضية والجديدة».([2]) ويذكر أن بعض النواب الجدد اخترقوا لوائح الكبار، علي الخليل في صور، وألبير منصور في بعلبك-الهرمل، وعبد المجيد الرافعي في طرابلس، ونجاح واكيم في دائرة بيروت الثالثة، “وعلى الرغم من كلّ ما جرى في البلد من أحداث، وعلى الرغم من كلّ التقسيمات على الأرض وفي النفوس وفي المؤسّسات بقي هذا المجلس ونوابه، تقريبًا بالإجماع، متمسّكين بوحدة المجلس وبوحدة المؤسّسات وبوحدة البلد وتعامل مع الأحداث بمسؤولية وجديّة، علمًا أنه، ولفترات طويلة استحال عليه الاجتماع كما أنه انتقل من مبناه الأساسي في ساحة النجمة، لتعذّر وصول النواب إليه، إلى قصر منصور لتأدية واجباتهم»([3]) كما انتقل في محطّاتٍ أخرى إلى شتورة والقليعات والفيّاضية لانتخاب خمسة رؤساء للجمهورية، قاطع «الحكيم» جلسات انتخابهم كلّها.

في آذار/مارس من العام 1976، جاء إلى بيت مري من يقنع مخيبر بالنزول إلى جلسة انتخاب المرشّح الرئاسي الأوحد الشهابي الياس سركيس، وكان مدعومًا من سوريا «كانت المعركة معركة نصاب. قالوا له، أنت ديمقراطي فانزِل إلى مجلس النوّاب وصوّت لريمون إدّه. فكان جوابه اللمّاح: زيارتكم عزيزة، سأبقى في البيت وأصوّت للياس سركيس».([4])

فكان مخيبر بين النواب الـ29 الذين قاطعوا وفي مقدّمهم الرئيس صائب سلام وكمال جنبلاط وريمون إدّه، وكانت المرّة الأولى التي ينتخب فيها رئيس الجمهورية قبل 6 أشهر من انتهاء ولاية سلفه.

لم يخطر في بال ألبير مخيبر أن الحرب اللبنانية، المتعدّدة الأوجه، آتية لتأكل الأخضر واليابس وتفرض تمديدًا أوّل لمجلس العام 1972 لمدة سنتَين و28 يومًا بعدما كان مشروع الحكومة بالتمديد لسنةٍ واحدة، وهكذا انتهت الولاية الممدّدة في 30 حزيران/يونيو 1978 أي قبل بداية حرب المائة يوم بيوم واحد، وبعد ثلاثة أشهر على الاجتياح الإسرائيلي الأول (1978). فأي انتخابات نيابية كانت ستجري؟ جرّ التمديد الأول وراءه أربعة فأطالت الظروف القاهرة بعمر مجلس النواب الثالث عشر 14 سنة إضافية شهدت اجتياحات وحروب تهجير وتحرير كما شهدت إلغاء اتّفاق القاهرة بعد سبعة عشر عامًا على إقراره في نهاية عهد شارل حلو. ويوم إلغائه في شهر أيار/مايو من العام 1987 قال مخيبر «إنه الخطوة الأولى لتحرير الجنوب». وكان العميد ريمون إدّه سبق وأبرق من باريس إلى مخيبر في كانون الأول/ديسمبر من العام 1983 داعيًا إياه للتقدّم من مجلس النواب باقتراح قانون يرمي إلى إلغاء اتّفاق القاهرة المعقود في 3 تشرين الثاني/نوفمبر 1969، لأنه لا يمكن اعتباره ملغى حكمًا أو مرّ عليه الزمن».

إقرأ على موقع 180  لبنان: نظام ضريبي يُحابي الرأسماليين.. ويَحدُل الفقراء

وفي السنوات الأربع عشرة انتخب المجلس الطويل العمر 4 رؤساء جمهورية لولايتَين رئاسيتَين. ففي بداية صيف العام 1982 «شغّل» المرشّح الأوحد بشير الجميّل كلّ محرّكاته السياسية والأمنية وكلّ صداقاته لتأمين انتخابه خلفًا للرئيس سركيس. ويروي الأباتي بولس نعمان في الجزء الأول من مذكّراته([5]) عن مرحلة العمل لتأمين النصاب القانوني لجلسة انتخاب بشير، «إزاء نجاحي بإقناع المير مجيد والنائب (العقيد) فؤاد لحّود بتأييد ترشيح قائد القوّات اللبنانية لم اُوفّق في إقناع النائبَين ألبير مخيبر وحسين الحسيني بانتخاب مرشّحنا وحسب، بل حتى بحضور جلسة الانتخاب لتأمين نصاب الجلسة. وفيما كان الأول، منذ بداية اجتماعي به، جازمًا برفض حضور جلسة الانتخاب، لأنه لا يطيق وصول كتائبي إلى سدّة الرئاسة، أبدى الثاني بعض الإشارات الإيجابية بما يوحي باحتمال مشاركته فيها، لكنه فضّل، قبل حلول موعد الجلسة (23 آب/أغسطس 1982) الانتقال إلى المنطقة الغربية».

مقاطعة «الحكيم» لانتخابات «بشير» انسحبت على انتخابات شقيقه أمين، فشارك واقترع بورقة بيضاء. بعد الطائف قاطع مخيبر جلسة انتخاب الرئيس رينيه معوّض في مطار القليعات، انسجامًا مع موقفه المبدئي والمعترض على اتّفاق الوفاق الوطني الذي أقرّ في اليوم نفسه، أي في 5 تشرين الثاني/نوفمبر 1989، كما تمّ تجديد انتخاب الرئيس حسين الحسين في رئاسة المجلس النيابي، وأُعيد انتخاب ألبير مخيبر، بغيابه، مرّةً ثانية كنائبٍ للرئيس بأكثرية 53 صوتًا في جلسة أخرى.([6])

عرف زملاؤه أن لا شيء يبدّل قناعات «الحكيم» وهو من استهدفت سيارته البونتياك، الحاملة الرقم 28 ثلاث مرّات وتعرّض لشتى أنواع الترهيب ولم يخشَ حتى جيوش احتلال فطالب برحيلهم.. ولكنه لم يرَ آخرهم يرحل!

ثلاث جلسات مفصلية في يومٍ واحد، علمًا أن المجلس لم يتمكّن من انتخاب هيئة مكتبه في 23 أيلول/سبتمبر 1988 «فبقيت هيئة مكتب المجلس مستمرّة في تصريف الأعمال برضا ضمني من النواب وتوافقهم وهم الحريصون على القضاء على كلّ تقسيم وتفرقة وشقاق»، كما قال مخيبر نفسه في شباط/فبراير 1989 يوم اعترض العماد ميشال عون، بصفته رئيسًا للحكومة، على تمثيل الدكتور مخيبر لرئيس مجلس النواب في قدّاس مار مارون وغاب عن المناسبة.

وفي العودة إلى الاستحقاقات الرئاسية، فلا «استشهاد» الشيخ بشير وما خلّفه في الوجدان اللبناني دفع مخيبر لتليين تصلّبه والقبول بـ«أمين» مرشّح إجماع. ولا استشهاد رينيه معوّض أول رئيس بعد الطائف دفعه لتغيير رأيه بالطائف والسير بترئيس الياس الهراوي. قاطع صاحب الرأي القاطع انتخابات معلّبة من دون أن يقطع الصلات مع زملائه في مجلس الـ72. عرف زملاؤه أن لا شيء يبدّل قناعات «الحكيم» وهو من استهدفت سيارته البونتياك، الحاملة الرقم 28 ثلاث مرّات وتعرّض لشتى أنواع الترهيب ولم يخشَ حتى جيوش احتلال فطالب برحيلهم.. ولكنه لم يرَ آخرهم يرحل!

«كان من آخر معالم الحياة السياسية الأصيلة في لبنان. بعده دخلنا في الأحداث، ودخلت سوريا والفلسطينيون في اللعبة السياسية الداخلية وبدأوا السعي لإيصال (إلى الندوة البرلمانية) أتباع وأزلام ومحاسيب متنازلين عن إرادتهم الوطنية وقرارهم الوطني. وهنا تعطّلت الحياة السياسية وتعطّل النظام السياسي بغياب المعارضة باستثناء عدد قليل جدًا وأتشرّف أنني كنت أحدهم في مواجهة أكثرية ساحقة. كنا العين التي تقاوم المخرز.([7])

قيل الكثير، مدحًا وهجوًا، بمجلس الـ72، ومخيبر من فرسانه، وممن عملوا على ديمومة الشرعية في بلدٍ مشرّع على مشاريع التفتيت والابتلاع.

(*) كتاب ألبير مخيبر صادر عن دار المشرق 2022.

المصادر والمراجع:

[1]– من حديث ألبير مخيبر للنهار 25 نيسان/أبريل 1992.

[2]– لقاءٌ مع بطرس حرب.

[3]– المصدر نفسه.

[4]– من لقاءٍ مع غسّان مخيبر.

[5]– «الإنسان الوطن الحرّية» إعداد أنطوان سعد.

[6]– اِنتخب مخيبر نائبًا لرئيس المجلس لأول مرّة في 20 تشرين الأول/اكتوبر ونال 50 صوتًا فيما نال منافسه ميشال ساسين 16 صوتًا.

[7]– بطرس حرب.

Print Friendly, PDF & Email
ملحم الرياشي

صحافي وكاتب؛ نائب في البرلمان اللبناني

Free Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  غزة.. شرارة لإنفجار إقليمي أم رسالة ردع لإيران؟