لم ينسَ العالم كارثة تشرنوبيل السوفياتية أو فوكوشيما اليابانية بعد حتى عاد التهديد النووي من جديد، وهذه المرّة من الأراضي الأوكرانية، مجدداً مع محطة نوية لتوليد الطاقة الكهربائية. زابوريجيا البلدة الأوكرانية الواقعة في جنوب وسط البلاد على ضفاف نهر دنيبر، ترأست نشرات الأخبار خلال الفترة الماضية بعد سيطرة الجيش الروسي عليها وقصفها شبه اليومي من قبل الجيش الأوكراني، وفيها أكبر محطة نووية في أوروبا تحتوي على 6 مفاعلات من طراز VVER-1000 أو ما يعرف بمفاعلات الماء المضغوط بالإضافة لمحطة توليد كهرباء حرارية فيها 7 وحدات 4 تستخدم الفحم الحجري كوقود و3 الغاز الطبيعي.
المحطة بنيت بشكل كامل في زمن الإتحاد السوفياتي وتحديداً خلال الأعوام الممتدة من 1985 حتى 1989. كل مفاعل ينتج طاقة كهربائية بقدرة 960 ميغا واط، والمحطة الحرارية تنتج 3600 ميغا واط، أي بقدرة كليّة تساوي 9.3 جيغا واط، وتغذي شبكة الكهرباء الأوكرانية بـ 20% من حاجتها للطاقة.
لمحة عامة
تعمل المفاعلات النووية بشكل عام على إنتاج الكهرباء عبر تحويل الطاقة الحرارية الناتجة عن انشطار ذرات اليورانيوم إلى الماء المحيط بها الذي يتحول بدوره إلى بخار ويرتفع ضغطه ليتمكن لاحقاً من إدارة توربينات توليد الكهرباء. هذا أقصى تبسيط ممكن لعمل المفاعلات النووية. أما تلك الموجودة في زابوريجيا من طراز VVER-1000 فهي تستخدم اليورانيوم المخصب بدرجة 4.2% كوقود وتقوم التفاعلات النووية بتسخين الماء المضغوط لمنعه من الغليان، ومن بعدها تقوم مضخات المياه بتحريك سيل ثانٍ من الماء داخل المفاعل مفصول عن الأول، وغير مضغوط فيعمل على سحب الحرارة من قلب المفاعل (عامل تبريد) والغليان، وبعد تحوله لبخار يعاد ضغطه مجدداً قبل إطلاقه في التوربينات لتوليد الكهرباء. هذا النوع من المفاعلات ناجح جداً وفعال وموجود في عدد من دول العالم مثل إيران (بوشهر)، مصر (الضبعة-قيد التركيب)، الصين (تيانمان)، الجزائر… وهي تعمل منذ أكثر من 35 سنة ويمكن بحسب الدراسات الأخيرة تمديد عمرها حتى الخمسين سنة عبر استبدال قضبان الوقود.
لماذا تقوم دولة بمخاطرة على هذا المستوى، من خلال قصف منشآت لو دمرت لجعلت جزءاً كبيراً من أراضيها والدول المجاورة غير قابلة للعيش لمئات السنين؟
المفاعلات الآمنة
هذه المفاعلات لا تشبه تلك التي كانت موجودة في تشرنوبيل وتسببت بكارثة العام 1986. تلك المفاعلات من طراز RBMK كانت تحتوي على عدد من العيوب التي جعلتها غير آمنة بحال كان الفريق المشغل لها غير محترف، بالإضافة، وهذه النقطة الأساسية، فمفاعلات تشرنوبيل لا تحتوي على أغطية خرسانية تحمي قلب المفاعل من الضربات الخارجية كما المحيط من احتمالات الانفجار. أما المفاعلات في زابوريجيا فموجودة داخل كبسولة معدنية تحتوي جسم المفاعل وأنابيب المياه، وتمّ بناء جدران خرسانية سميكة جداً من حولها بهدفين؛ الأول، حمايتها من الضربات الجوية المباشرة. والثاني، حماية المحيط في حال حصول أي تسرب أو انكشاف لقلب المفاعل. وفي مصر طلبت السلطات هناك جعل مفاعل الضبعة قادراً على تحمل سقوط طائرة مدنية عليه.
كما أنّ تصميم هذه المفاعلات يجعلها منفخضة الطاقة إذا تبخرت المياه المحيطة بالوقود النووي داخل المفاعل في حال وقع ضرر في المضخات الخاصة بها، فالماء داخلها يعتبر عنصر مساعد لزيادة التفاعل الانشطاري وغيابه يهدئ العملية (دون أن يعني ذلك غياب خطر الانصهار). وهنا نفهم سبب وصل جميع المفاعلات في العالم بمصدر طاقة إضافي، ففي حال وقعت مشكلة ما أدت لتوقف مضخات المياه الأساسية في التبريد يمكن مباشرة تبديل مصدر الكهرباء وإعادة تشغيلها. محطة زابوريجيا النووية تستخدم الطاقة الحرارية لهذا الهدف.
أين الخطر
بالعودة إلى ما يجري في أوكرانيا، اليوم، لا يمكننا أن نفهم سبب قيام أحدهم باللعب بالنار بجانب محطات طاقة نووية، ولكن ما علينا نحن أن نفهمه أنّه لو سقطت كل الحمايات التي تكلمنا عنها آنفاً وأصيب بالفعل المفاعل إصابة مباشرة بقذيفة أو صاروخ فلن نكون أمام انفجار نووي مشابه لذلك الصادر عن القنابل لسبب بسيط ألا وهو درجة تخصيب الوقود. اليورانيوم الموجود داخل المفاعلات لا تتخطى درجة تخصيبه الـ 5% بينما الموجود في القنابل يتخطى الـ 95%. أما الخطر الحقيقي في حال انكشاف قلب المفاعل فهو ناتج عن خروج الاشعاعات النووية وتلويث المحيط بشكل كبير والكارثة الكبرى تكمن في انتقال الهواء والغبار الملوث حول العالم كلّه بواسطة العوامل الطبيعية من هواء وغيوم. عام 1986 في تشرنوبيل، غطّت الغمامة النووية كلّ أطراف دول أوروبا الشمالية وتمكنت أجهزة رصد الأشعة على بعد مئات الكيلومترات من معرفة ما يجري حتى قبل وصول الخبر عبر القنوات الاعلامية وقد نواجه اليوم الخطر ذاته في حال استمر اللعب بالنار بجانب المفاعلات.
أخيراً أختم بسؤالين، الأول: لماذا تقوم دولة بمخاطرة على هذا المستوى، من خلال قصف منشآت لو دمرت لجعلت جزءاً كبيراً من أراضيها والدول المجاورة غير قابلة للعيش لمئات السنين؟ والثاني: بالعودة إلى أمان هذه المفاعلات، هل يمكن القول إنّ كل ما يجري هو فرقعة إعلامية وبالتالي أقل من أن يشكل تهديداً حقيقياً؟