دفاتر علي ناصر محمد.. عدن من القبيلة إلى الإشتراكية!

"إن التاريخ في ظاهره لا يزيد عن الإخبار ولكن في باطنه نظر وتحقيق"، هذا ما يُردده المؤرخ وعالم الإجتماع العربي ابن خلدون.

إختتم الرئيس اليمني الأسبق علي ناصر محمد مجموعته “ذاكرة وطن” بتخصيص الجزء الأخير لعلاقة عدن، عاصمة اليمن الجنوبي سابقاً، بالعالم، بعدما كان قد أضاء في كتبه السابقة على الوحدة اليمنية والحقبة الممتدة من الإحتلال إلى الإستقلال وتجربة جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية.

قبل الغوص في هذا الكتاب، لا بد من إضاءة سريعة على اليمن الذي تحرّر في العام 1967 من الإحتلال البريطاني، ليجد ثوار “الجبهة القومية للتحرير” أنفسهم ينتقلون من الميدان إلى الديوان. من الثورة والسلاح إلى السلطة. من قيادة تجربة حزبية إلى قيادة جمهورية. من القبائل إلى حضن الإشتراكية التي لم تجد أرضاً عربية تحتضنها إلا في اليمن السعيد بأن يُجرّب حظه معها.. ولكن!

تجربة قيل إنها إشتراكية لا تشبه بشيء تجربة جمال عبد الناصر ولا أنظمة البعث. تجربة أقرب ما تكون إلى محاولة إستنساخ تجارب دول إشتراكية من عالم آخر غير عالمنا العربي والإسلامي وصولاً إلى جعلها مظلة لليسار العربي (السوفياتي)، ولعل هذا ما يُفسر كيف أن كل ثوار المنطقة كانت عدن، عاصمة اليمن الجنوبي، قُبلَتهم، وبرغم الفقر والعوز والأمراض كان لا بد من عدن مهما طال السفر إليها.

دامت رحلة “التجربة الإشتراكية” في اليمن الجنوبي 23 عاماً (1967 ـ 1990)، وتخللتها إنقلابات وحروب بين أبناء الحزب الواحد والقبيلة الواحدة، وما أن ذوت تجربة الإتحاد السوفياتي حتى تحققت الوحدة اليمنية تحت رئاسة علي عبدالله صالح، غير أنها لم تدم طويلاً بسبب الصراع الجهوي والقبائلي بين الشمال والجنوب، فاندلعت حرب أهلية جديد سبقتها اغتيالات بين أبناء الحزب الواحد حتى خلال إجتماعات المكتب السياسي وأفضت حسماً في العام 1994 على يد علي عبدالله صالح لمصلحة اليمن الواحد، برغم الأكلاف الباهظة لذلك الحسم.

في كتابه “ذاكرة وطن، عدن والعالم”، يُشهر علي ناصر محمد شيئاً من ذاكرته الغنية والمُدعمة بالمحاضر والوثائق والمعلومات الممزوجة بالتحليل والرؤية ليكتشف القارىء العربي انه أمام “ثلاثة بواحد”: شاهد يُوثّق، قائد (ولو أنه مُتهم أحياناً) يمارس النقد الذاتي لمرحلة حساسة من تاريخ اليمن، والأهم من ذلك أن الرجل نفسه يحاول إستخلاص الدروس والعبر.

في الكتاب الذي يتألف من ستمائة وسبع وتسعين صفحة موزعة على سبعة وعشرين فصلا ومقدمة وخاتمة، نستمتع بسردية متناسقة. لغة سلسة تشبه الحوارات الصحفية البسيطة يُقدّم لنا علي ناصر محمد من خلالها مادة توثيقية لمرحلة شديدة الأهمية والخطورة من تاريخ اليمن الحديث. مادة تخاطب العقل وتجد مكانتها في وجدان كل قارىء عربي مُحب لليمن. ثم نحن أمام كاتب غير عادي. شاهد رئيسي وصانع حقبة تاريخية بأحداثها الجميلة والقبيحة، على حد سواء. ولمن لا يعرف علي ناصر محمد أيضاً؛ فإن هذا الرجل (83 سنة) إنتمى إلى حركة القوميين العرب (فرع اليمن) في العام 1964، وانخرط في أنشطتها الفكرية والسياسية، حتى بعد أن تحولت لاحقا إلى “الجبهة القومية للتحرير”، ثم أصبح اسمها الحزب الإشتراكي اليمني. بدأ حياته العملية مُدرساً في مدرسة رسمية ابتدائية في مدينة مودية بمحافظة أبين، وظلّ يعمل فيها حتى العام 1964. تنقل علي ناصر محمد بين عدد من الوظائف الإدارية والوزارية (وزير الحكم المحلي ثم وزيراً للدفاع) حتى أصبح رئيسا للوزراء عام 1971، ثم رئيسا للجمهورية عام 1980 وزعيما للحزب الاشتراكي الحاكم في اليمن الجنوبي.

نحن نتكلم عن اليمن من جهة، وعن شاهد على عصره من جهة ثانية، ولكن لا يجب أن نغفل موقع هذا البلد العربي. موقع إستراتيجي كان يمكن أن يُشكل نعمة لهذا البلد لكنه أضحى نقمة منذ مطلع القرن الحالي حتى يومنا هذا. موقع جعله محور صراع محلي وإقليمي ودولي خصوصاً أنه يقع بين السعودية وسلطنة عمان ويطل على مضيق باب المندب أحد أهم المعابر المائية في العالم.. وأيضاً على بحر العرب والمحيط الهندي.

هذا الأمر يتطرق إليه الخبير في الشؤون السياسية والعسكرية روبرت كابلان، في كتابه “انتقام الجغرافيا” عند وصفه لليمن بـ”القلب البالغ الأهمية”، عازياً عدم استقراره إلى أهمية موقعه وطبيعة تضاريسه، وهو واقع يؤكده الصراع المحتدم على أرضه منذ العام 2015 حتى يومنا هذا.

هل كتب الرئيس اليمني الأسبق كل شيء؟

سؤال يتبادر إلى ذهن القارىء برغم غزارة المادة التي يُوفرها لنا الكتاب، لكن لا بد ان هناك أمورا لم تكتب حتماً. فقد شكلت تجربة بناء دولة اشتراكية عربية في اليمن الجنوبي، قبلة للثوار العرب وللأحزاب الشيوعية العربية. لذلك، يتناول الكتاب اهم ما ارتكزت عليه السياسة الخارجية لجمهورية اليمن الديموقراطية الشعبية بعد انتصارها عام ١٩٦٧، ولا سيما لجهة دعم حركات التحرر الوطني بدءاً من الجوار وصولا إلى القرن الإفريقي. لم يكن الدعم محض بيانات بل تجسد مادياً ولوجستياً، من جوازات السفر وايواء قيادات فارة من الأنظمة وصولاً إلى توفير منح دراسية، كما تقديم السلاح والأموال والتدريب وتوفير الحماية واللجوء للضيوف من الثوار والمناضلين. نعم، كانت عدن حينذاك تمثل قبلة الثوريين والتقدميين العرب بلغة تلك الحقبة، ما حملها أعباء فوق طاقتها وقدرتها على الإحتمال.

إقرأ على موقع 180  لبنان: خلية الأزمة المالية.. إجرءات معلنة وأخرى سرية

لا تخلو سرديات علي ناصر محمد من نقد ذاتي. دولة وليدة تطمح للعب دور استراتيجي متقدم يفوق إمكاناتها ومواردها المتواضعة. دولة تتكل على دعم استراتيجي من الإتحاد السوفياتي أو جمهورية الصين الشعبية.

يتناول الكتاب وقائع العلاقات الدبلوماسية بتشعباتها وتعقيداتها أثناء الحرب الباردة (من الحرب العالمية الثانية إلى لحظة إنهيار الإتحاد السوفياتي عام 1991)، لكن بطريقة تخالف السردية التقليدية بهدف ملامسة توق القارىء إلى تحليل سياسي للوقائع من دون الخوض في التنظير الإيديولوجي.

علي ناصر محمد مناور بإمتياز. ينتقد ويبرر ويتنصل خصوصاً عندما تُوجه إلى بلده تهمة دعم الإرهاب التي ألصقها الغرب باليمن الجنوبي.

يتحدث الرئيس الأسبق عن النجاحات بفخر وعن الإخفاقات بحسرة وذلك إبان الشيوع الواسع للأفكار اليسارية الراديكالية إثر نكسة العام 1967 وتأثيراتها على توجه الشعوب نحو تحميل البرجوازية العربية مسؤولية تلك المحطة السوداء.

يتجلى توجه الكاتب في نقد التجربة وكيفية تحول الدولة الفتية إلى حقل تجارب لقيادات خارجية لا علاقة لها باليمن الجنوبي ولا بثورته ولكنها كانت تملك تأثيرا على بعض قياداته ذات النزوع إلى التطرف الثوري في عدن وحضرموت دون مراعاة الواقع وتاريخ الشعب اليمني وخصوصيته.

في مقدمة الكتاب ما يشبه تلاوة فعل الندامة واعتراف بدخول الثورة في متاهة العلاقات والمصالح الدولية وزج اليمن بدور أكبر من طاقاته وإمكانياته، منتقدا شعاري بناء الإشتراكية وتدمير الإمبريالية. يحمل الكاتب من أسماهم “منظرو المرحلة” الذين جاؤوا من بيروت بوثائقهم الجاهزة لتطبيقها على الدولة الوليدة. شعارات فضفاضة جداً تم تحميلها لشعب يعاني ويلات الفقر والمرض والجهل والتخلف فكان مُحتماً ألا يهضمها، فكيف إذا تناقضت، بحسب الكتاب، مع معتقدات الشعب اليمني الدينية الراسخة.

أخطأت الدولة الوليدة بعدم الإلتفات للتنمية وشؤون مواطنيها، متنطحة لدور “البعبع” وإسقاط أنظمة الخليج ومحاربة القواعد الفرنسية والأميركية في جيبوتي وديجو جارسيا وإسقاط نظام الشاه في إيران وهيلاسيلاسي في إثيوبيا وغيرها.. نعم كان بعض القادة في عدن مثل مجنون يحمل قنبلة بلا صمام أمان!

فعلاً يحتوي هذا الكتاب على مخزن من الذكريات لشاهد على قيام جمهورية اليمن الشعبية الديموقراطية التي كانت لفترة طويلة موقعا متقدما للإتحاد السوفياتي في قلب الخليج العربي. جمهورية تنطحت لدور أكبر منها، إلى درجة أنها دعمت حركات ودولاً أكثر غنى منها!

ميزة علي ناصر محمد أنه لا يتمترس وراء وقائع معينة. ينتقد هذا الزعيم العربي ويشيد بذاك. لا يُخفي إعجابه بشخصية مثل حافظ الأسد الذي يكن له احتراما لما قدمه له وللقيادات اليمنية التي لجأت إلى دمشق في الثمانينيات الغابرة.

ما أشبه اليوم بالأمس واليمن يشهد حربا ضروسا على أرضه، الموقع الجيوسياسي والثروات النفطية مع فارق ان الحرب لم تعد باردة وتغيّر اللاعبون الإقليميون بصورة جزئية.

يبقى ان الكتاب يحمل رواية علي ناصر محمد وحنينه وحبه لعدن، ولكن ماذا عن روايات الآخرين؟ ماذا كان ليحصل لو أن مراجعة الأخطاء وتقييم التجربة تتم خلال فترة تولي السلطة.. الن يكون الأمر أكثر فائدة؟

هذا الكتاب الشيّق يستفزنا إلى حد طرح الأسئلة: هل تحققت في اليمن الجنوبي الجمهورية المُدعاة أنها شعبية وديمقراطية؟

هل بالإمكان القول إن دولنا العربية غير مؤهلة بعد لهضم فكر إشتراكي شيوعي بكل ما يتضمنه من مفاهيم تتعارض مع مرتكزها الأساسي، وهو الإسلام؟

إذا كانت كذلك بالفعل، لماذا لم يعبر الشعب اليمني وقتها عن خيبته من نظام الحكم المفروض عليه؟

ألم يكن حرياً بكل اليسار العربي أن يختار التجارب التي تلامس قضايا شعوبه بدل التنطح لشعارات فضفاضة جداً؟

في لعبة المصالح الكبرى غالبا ما تتم التضحية بالدول الصغرى على حساب ما تظنه الشعوب مبادىء وأيديولوجيات. نعم، تُعلمنا التجربة ان التاريخ يرويه المنتصرون، ولكننا كأمة عربية لم نعرف إلا الهزائم واولها هزيمة إرساء التنمية واللحاق بركب الحضارة والقضاء على الجهل والتخلف والامية والبطالة.

يبقى كتاب علي ناصر محمد حاملا وفياً لوجدان عدن مستعيدا تفاصيل قاموس عفا عليه الزمن وطواه إلى غير رجعة بأمل فوز اليمن واليمنيين.. بالسعادة الحقيقية لا المصطنعة، “الآن الآن.. وليس غداً”!

Print Friendly, PDF & Email
أغنار عواضة

كاتبة وشاعرة لبنانية

Premium WordPress Themes Download
Download Best WordPress Themes Free Download
Free Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  لبنان و"حراك الأمم".. من يدفع الثمن الحريري أم باسيل؟