سلطنة.. أربع روائع للمبدع المنسي إبراهيم رجب

ياما في الفن مظاليم! فالنجاحُ والشهرةُ ليسا بالضرورة صِنوَين للموهبةِ والعبقرية. وتاريخُ الموسيقى في مصرَ المحروسةِ به العديدُ من أصحابِ المواهب الفذة، الذين غابت عنهم الأضواءُ لسببٍ أو لآخر. وموعدنا اليوم مع واحدٍ من مظاليم دولةِ الفن، الملحنُ العظيم إبراهيم رجب. وهو ملحنٌ ذو موهبةٍ استثنائية، يمثلُ امتداداً لعمالقةِ المسرحِ الغنائي، أمثال سيد درويش وزكريا أحمد وأحمد صدقي. وسنمرُ سريعاً على أربعةٍ من أجملِ أعمالِه، لنتعرفَ على عالمِه الفني الساحر.
من هو إبراهيم رجب؟ وما الذي يميزه كملحن؟

هو واحدٌ من أهمِ ورثةِ التقليدِ العظيم للمسرحِ الغنائي المصري. لكن مفارقةَ الأقدارِ القاسيةِ شاءت أن يظهر إبراهيم رجب في النصفِ الثاني من الستينيات، بعد أن اندثر المسرحُ الغنائي، وأوشكت السينما الغنائية على الاحتجاب (وكانت مصرُ قد شهدت منها موجتين كبار، الأولى في الأربعينيات تصدرتها أفلام فريد الأطرش وليلى مراد، والثانية في النصف الثاني من الخمسينيات وأوائل الستينيات، وتصدرها محمد فوزي وشادية وعبد الحليم حافظ)، فضلاً عن هيمنةِ أجواءِ الاكتئابِ العام بفعلِ النكسةِ وما بعدها.

في هذه الظروفِ الصعبةِ ظهر إبراهيم رجب. ومِثلُ رفيقِ جيلِه وشريكِ الكثير من اختياراتِه الفنية، العبقري سيد مكاوي، امتلك إبراهيم رجب مزاجاً فنياً قادراً على أن يُغلِّب الأملَ على الألم، ويستخرجُ البهجةً من رحمِ الأحزان. ومِثلُ سيد مكاوي أيضا، كان لإبراهيم رجب موقفٌ فكريٌ وفنيٌ تقدميٌ، جوهرُه اتخاذُ اللونِ الشعبي وتقاليدِ الإبداعِ المحلية مدخلاً لطرحِ مضامينَ فنيةٍ طليعية.

والحقيقة أن صيغةَ “الأشكالِ التقليديةِ والمضامينَ التقدمية” شاعت لدى عددٍ لا يُستهانُ به من فناني تلك المرحلة. وكان أهمُ من نظّر لها الأديبُ الكبير يوسف إدريس في المقدمةِ الطويلةِ والمهمةِ التي كتبها لمسرحيةِ “الفرافير” مطالباً بالتماسِ الأشكالِ التقليديةِ والشعبيةِ وسيلةً لبناءِ مسرحٍ وفنٍ طليعيٍ عربي.

ستجدُ أصداءً لهذا الموقف في مسرحِ ألفريد فرج وأدبِ عبد الرحمن الشرقاوي ونجيب سرور، أو قصائدَ مبدعي الستينات (الأبنودي، فؤاد قاعود، سيد حجاب)، وفي أعمال سيد مكاوي، كما تجدُه وبوضوحٍ شديدٍ عند إبراهيم رجب.

***

قامَ المشروعُ الفنيُ لإبراهيم رجب على السباحةِ ضدَ تيار سيادةِ الأغنيةِ الفرديةِ العاطفيةِ، مُتمسكاً بالتلحينِ المسرحيِ التعبيريِ والأغاني الجماعية، وذلك من خِلال أربعِ قنواتٍ أساسية:

أ- التمسكُ بالعملِ فيما تبقى من صيغِ المسرحِ الغنائي مهما تراجعت شعبيتُه (من خلالِ أعمالٍ لمسرحِ الدولة ومسرحِ العرائس، أجملُها في نظري ألحانُه لمسرحيةِ ألفريد فرج “علي جناح التبريزي”)، أو من خلالِ أشكالٍ شبيهةٍ بالمسرحِ الغنائي (مثال: تلحين فوازير “الخاطبة” لنيللي و”فطوطة” لسمير غانم).

ب- المشاركةُ في آخرِ موجةٍ من موجاتِ السينما الغنائيةِ المصريةِ (في عِقد السبعينات) من خلالِ ألحانٍ جميلةٍ، أشهرُها استعراض “لا” في افتتاحِ فيلم “خللي بالك من زوزو”.

ج- الأعمالُ الوطنية، وقد ساهم فيها إبراهيم رجب بصيغةٍ مبتكرةٍ، قامت على تقديمِ لونٍ غنائيٍ وطنيٍ شعبيٍ راقصٍ يختلفُ جِذرياً عن صيغتي الأناشيدَ الحماسيةِ التي شاعت في نهايةِ الخمسينيات ومطلع الستينيات، والألحانِ البكائيةِ التي ظهرت في مرحلةِ النكسة.

د- الأعمالُ التجريبيةُ، والتي حاولَ فيها إبراهيم رجب التعاملَ مع مطربين لا يؤدون بالشكلِ التطريبي، بما يتيحُ للمستمعِ التركيزَ على مضامينَ الألحانِ والكلماتِ الجديدةِ بدون أي حُلىً تطريبيةٍ أو غنائيةٍ. وله في هذا المجالِ تجربةٌ طويلةٌ تبدأٌ من ألحانِه الذهبية للمطرب محمد حمام، وصولا لتجاربِه القليلةِ لكن الهامة مع محمد منير.

وسنستمعُ اليومَ لأربعةِ نماذجَ رائعةً، تُمثل القنواتِ الأساسيةِ الأربع التي صاغ إبراهيم رجب مشروعَه الفنيَ من خلالِها، لعلها تفتحُ شهيةَ القراءِ لاستكشافِ المزيدِ من أعمالِ هذا الفنانِ العظيم.

***

أولاً؛ الأمل الغالب على الألم: والله لبكرة يطلع النهار

سنبدأ أولاً بهذا العملِ الفذ “والله لبكرة يطلع النهار”، كلمات عبد الرحمن الأبنودي وغناء محمد حمام. مقام حجاز كار كرد:

هذا اللحنُ الرائعُ واحدٌ من عملين شَكَّلَ خلالهما إبراهيم رجب بعد النكسةِ ثلاثياً فنياً مع عبد الرحمن الأبنودي، والمطرب محمد حمام. عملُهم الثاني كان الأغنيةَ الرائعة “يا بيوت السويس”. والأغنيتان، كما هو واضح، تتعاملان مع فكرة الصمود واستعادةِ الأمل من الأجواءَ المحبطةِ للنكسةِ وما بعدها.

***

وبجانبِ مفارقة الخطابِ الحميم الموجه “للخال” من شاعرٍ استعارَ لنفسِه هذا اللقب في متأخرِ أيامِه، فإن الكلماتِ الجميلةَ تمتلكُ الوصفةَ الذهبيةَ لأجمل أعمالِ الأبنودي: بساطةٌ عبقريةٌ تقومُ على صورٍ مفرطةٍ في محليتِها وألفةٍ محببةٍ. فليسَ في الكلماتِ ما يحتاجُ لكثيرٍ من الشرح.

الأغنيةُ مكونةٌ من مذهبٍ حاسمٍ في تمسكِه بالأمل (انتظارُ النهار، وهي استعارةٌ سيطرت فيما يبدو وقتَها على خيالِ الأبنودي، إذ نجدُ تنويعةَ على نفسِ الفكرةِ في “موالِ النهار” الذي كتبَه في نفسِ الوقتِ تقريباً)، ثم كوبليهين قصيرين يصفان تفصيلياً الحلمَ الذي ننتظرُه في “اليوم المعدول” حسب كلماتِ الأغنية، وذلك في صورة متتاليات قصيرة ذات جرس موسيقي، وقوافي واضحة (الفلاحين/العجين، أنا/سنة.. الخ).

ومن اللافتِ للإنتباه أن سردَ الأحلامِ في الكوبليهاتِ يتمُ بشكلٍ لا يُشيرُ إطلاقاً للنكسةِ وأجوائها. فالقضيةً ليست النكسة (أو إزالةِ آثارِها كما شاعَ في الأدبياتِ الرسميةِ للمرحلة)، وإنما في حلمٍ أكبرَ وأبسطَ في آنٍ واحد. فالشمسُ التي ستأتي حُكماً “من وراء الجبال”، هي اللقمةُ النظيفة والشغلةُ الشريفة والضحكةُ المرتاحة، وامتلاءُ صوامعَ الفلاحين بالغلالِ (هل تسمعُ أيها القارئُ في هذه “اليوتوبيا الشعبية” أصداءَ اليوتوبيا المماثلةِ التي عرضَها يوسف إدريس في رائِعته “جمهورية فرحات”؟).

هذا الحُلمُ بسيطٌ في صياغتِه، ولكنه مركبٌ في معناه. فجوهرُه، بما هو تصحيحٌ للموازين (اليوم المعدول) وسدٌ لحاجاتِ البشر، هو جوهرُ الكفاحِ الإنساني في كلِ زمانٍ ومكان. هذا هو لُبُ القضيةِ، وهذا هو الحُلمُ الذي لم نفقدُه عاماً وراء عام، رغم الألم كما تقول كلماتُ الأغنيةِ البديعة.

***

نأتي للحنِ الرائعِ، وفيه يُمكنُ القولُ أنَّ إبراهيم رجب استطاعَ أن يجدَ المعادلَ الموسيقي لكلماتِ الأبنودي البسيطةِ والشجية. اللحنُ يبدأ بمقدمةٍ موسيقيةٍ راقصةٍ تجسدُ أجواءَ الأغنيةِ واحفتاءها بالأملِ القادم حُكماً “والله لبكرة يطلع النهار” قبل أن نسمع كلمةً واحدةً من الأغنية. يتمُ ذلك من خلالِ حوارٍ ساحرٍ ورشيقٍ بين آلةِ القانون وكورالِ الكمانجات في مقام الحجاز كار كرد. ثم يبدأ الغناءُ.

ولا يستعرضُ إبراهيم رجب أي عضلاتٍ لحنيةٍ هنا، وإنما يتماهى تماماً مع بساطةِ الكلمات، فيصوغُ لحنَه في الشكلِ التقليديِ للطقطوقةِ الذي استخدمَه أستاذُه وملهمُه سيد درويش (وفيه يتم تلحين الكوبليهات كلها بنفس اللحن، ثم يتكرر أداء المذهب بعد كلِ كوبليه). يتيحُ هذا الشكل فرصةَ ترسيخِ اللحنِ في أذنِ المستمعِ وتسهيلِ حفظِه، وهو ما يتناسبُ مع طبيعةِ هذه الأغنيةِ كأغنيةِ “سمرٍ” حميمةٍ، يرددُها المؤدي بمصاحبةِ السميعةِ/الكورال الذين يردون عليه بين كل كوبليه لتشيعَ البهجةُ في الجميع. بهذا المعنى، فإن صيغةَ الطقطوقةِ التقليديةِ مناسبةٌ تماماً لمضمون الكلماتِ وطبيعةِ الأغنية.

وبنفسِ المنطق (البساطة التي تُتيحُ سرعةَ الحفظِ وسهولةُ الترديدِ، بما يتناسبُ مع الطبيعةِ الجماعيةِ للحن) بقي إبراهيم رجب طوالَ الأغنيةِ في مقامٍ واحدٍ هو الحجاز كار كرد. وهو مقامٌ شجيٌ استخدَمه سيد دروش في تلحينِ أشهرَ طقاطيقه الوطنية، طقطوقة “أهو ده اللي صار”، فكأن إبراهيم رجب يختارُ أن يصوغَ لحنَه بشكلٍ “سيد درويشي” مضموناً ومقاماً!). الاستثناءُ الوحيدُ من ذلك، يتمثلُ في غمزةٍ سريعةٍ يذهبُ فيها بنا إلى مقامِ النهاوند ثم يعودُ للحجاز كار كرد في أقل من 10 ثوان (في جملة “سنة ورا سنة” التي تُقال في التسليمة، أي الجملة الأخيرة في الكوبليه التي تُسلمنا للمذهبِ مجدداً). شغلُ معلمٍ قديرٍ يتنقلُ بين المقاماتِ إن شاءَ بسهولةٍ تامةٍ، ولكنه يفضلُ ـ لغرضٍ فنيٍ يعكسُ استيعابَه لطبيعةِ ما يُلحِن ـ البقاءَ في مقامٍ واحدٍ طوالَ الأغنية (هذا بالمناسبة هو التكتيكُ الذي استخدَمه سيد درويش في طقاطيقِه الشهيرة كـ”أهو ده اللي صار”، و”خفيف الروح” وغيرهما).

بصمةُ سيد درويش واضحةٌ تماماً في هذا اللحن، وفي أعمالِ إبراهيم رجب بصفةٍ عامة. فإبراهيم رجب امتدادٌ طبيعيٌ لسيد درويش، لدرجةِ قيامِه بتلحين اللحنِ الوحيد من ألحانِ “الطوائف” الذي لُحن في النصف الثاني من القرن العشرين (وهو لحن “الحمارين” من كلمات قطب شعر العامية الأكبر فؤاد حداد).

***

أما الأداء، فللفنانِ القدير محمد حمام. وهو صوتٌ مصريٌ صميمٌ وقويٌ وعذبٌ، مفرطٌ في محليتِه، ولديه طاقةُ تعبيرٍ هائلةٍ، وإن كان غيرَ متمكن تماماً من فنونِ التطريبِ التقليدي. من هُنا، فإنه يتوهجُ عادةَ في مثلِ هذه الأغاني التعبيريةِ، خاصة مع ملحنٍ يفهمُ تماماً مواطنَ القوةِ في صوتِه ويٌبرزُها بموسيقاه. أداءُ محمد حمام ينقلُ معاني الكلماتِ وأجواءَ اللحنِ بدقةٍ كاملةٍ، وبدون أي استعراضٍ صوتيٍ قد يُخرجُنا من حالةِ الاحتفالِ الشعبيِ البسيطِ بالأمل الذي تجسدُه هذه الأغنيةُ. شيءٌ بديعٌ فِعلاً. وبهذه المناسبة أنصحُ بالبحثِ عن أغاني هذا المطربِ الجميل، وخاصة عملُه الثاني مع إبراهيم رجب وعبد الرحمن الأبنودي، وهو الأغنية الرائعة “يا بيوت السويس” التي قد تستحقُ عودةً منفصلةُ لها في مقالٍ قادم.

ثانياً؛ وطنُ الغلابةِ وفرَحُهم: تعيشي يا بلدي

هذا اللحنُ العبقريُ هو في رأيي أحد أجمل الأعمالِ الموسيقيةِ الوطنيةِ في القرنِ العشرين. وهو يُمثل حالةً خاصة في الغناءِ الوطني المصري، من زاويتين على الأقل:

أ- الزاوية الأولى هي طابعُه الاحتفالي الراقُص، وغيرُ المألوفِ في أنماطِ الغناءِ الوطنيِ التقليدية (التي تتوزع بين الأناشيدِ الحماسيةِ كاسلمي يا مصر وقوم يا مصري.. الخ، أو الأغانيِ الشجية مثل أهو ده اللي صار وحب الوطن فرض عليا، أو الحزينة مثل “يا عزيز عيني” أو “موال النهار”). صحيحٌ أن بعضَ اغاني محمد عبد الوهاب وكمال الطويل وبليغ حمدي الوطنية احتوت على مقاطعَ بإيقاعاتٍ راقصة، لكن هذه أولُ أغنية حسب علمي تُصاغ من أولِها لآخرِها بهذهِ الطريقةِ، وبنفسٍ شعبيٍ ـ وفلاحيٍ واضح.

هذا النفسُ الشعبي، واللحنُ الراقص، عندما تُغنيه المجموعة، يُضفي على الأغنيةِ طابعاً احتفالياً أوضح، ويُحولُ الغناءَ الوطني إلى “فرحةِ الغلابة والمجاميع”. هل هناك أفضل من هذه الطريقة للتعبيرِ عن مقاصدَ الغناءِ الوطني؟

ب- الزاوية الثانية هي حجمُ النجاحِ الجماهيريِ الاستثنائيِ وغيرِ المتوقع لأغنيةٍ قدمها مؤلفٌ وملحنٌ ليسا من “نجوم الشباك”، وغناها كورالٌ من المغمورين. أسفرَ هذا النجاحُ عن ظاهرةٍ لم تتكرر أبداً حسب علمي في تاريخِ الغناءِ الوطني المصري الحديث، وهي أن تظهرُ أغنيةٌ بصوتِ كورال، ثم يَطلب مُطربان ناجحان أن يُسجلاها بصوتِهما، لتصدرَ في عامٍ واحد ثلاثةَ تسجيلاتٍ لنفسِ الأغنية، واحدٌ هو الذي سمعناه بصوت المجموعة، بالإضافة لتسجيلين بصوت كل من شريفة فاضل وماهر العطار.

إقرأ على موقع 180  هل يعترف مشروع الإسلام السياسي بالدرس المغربي؟

***

الكلماتُ الجميلة للشاعرِ الموهوب محمد العجمي، مصاغةٌ في قالبِ الطقطوقة، ومكونة من مذهبٍ بسيطٍ لا يعدو أن يكون تكراراً لجملة “تعيشي يا بلدي.. يا بلدي تعيشي”، وأربعة كوبليهات، كلُها متشابهةٌ تماماً من حيثُ المضمون (غزلٌ في محاسن “البلد”).

يتشكلُ كلُ كوبليه من أربعةِ أبياتٍ كلُ بيتين منها بقافية واحدة. فنجد في الكوبليه الأول مثلا مندي/يدي، بيلالي/طوالي، وتتكرر اللعبة في الكوبليهات التالية التي يتخللها تكرار غناء المذهب. الصورُ حميمةٌ وشعبيةٌ (“قلة العطشان”، “رملك وطينك دهب”.. الخ)، وشديدةُ الرقة.

أما اللحنُ، فهو استعراضٌ مدهشٌ لقدراتِ إبراهيم رجب. فبعدَ المقدمةِ الموسيقية الشجيةِ التي تُثَبِّتُ الطابعَ الشعبيَ للحن بحوارٍ راقصٍ بين آلةِ السمسمية وكورال الكمانجات، نبقى في اللحن من بدايتِه لنهايتِه في مقام البياتي، ونستخدمُ شكلَ الطقطوقة، ولكن في طبعتِه الحديثةِ (التي ابتكرها زكريا أحمد، وتختلفُ عن الشكلِ التقليدي للطقطوقة في أن كل كوبليه يُؤدى بلحنٍ مختلفٍ، بما يفتحُ مساحةَ أوسع للملحن لاستعراضِ خيالِه).

وهنا، نرى إبراهيم رجب يختارُ صيغةً بديعةً تعكسُ موهبتَه الاستثنائية، وعمقَ فهمِه للكلمات. فمن ناحية نحن أمامَ أغنيةٍ وطنيةٍ جماهيريةٍ يجب ألا تتضمنُ نقلاتٍ مقاميةٍ صعبةٍ تستعصي على الحفظِ والأداءِ من جمهورِ المؤدين والسميعة، ومن ناحية ثانية فإن صيغةَ الطقطوقة الحديثة تقتضي تنوعاً في ألحان الكولبيهات ولكن بدون الخروج عن الجو العام البهيج للأغنية (فالكوبليهاتُ متشابهة المضمونِ، ولا تتضمنُ أجواءَ نفسيةً متباينة تستوجبُ تنويعَ المقاماتِ الموسيقيةِ المُستخدمة). فكيف تصرف الملحنُ؟

ببساطة، قرر إبراهيم رجب أن يضعَ كلَّ الألحانِ المتمايزةِ للكوبليهات المختلفة من نفس المقام. يعني ذلك أننا نستمعُ لخمسةِ تنويعاتٍ لحنيةً مختلفةً (المذهب، والكوبليهات الأربعة) ولكنها جميعاً من نفسِ مقامِ البياتي، فيتحققُ الثراءُ هنا ليس من خلالِ التنوعِ المقامي، ولكن من قدرةِ هذا الملحنِ القديرِ على صياغةِ تشكيلاتٍ لحنيةٍ بديعةٍ ومتمايزةٍ تستعرضُ إمكاناتِ هذا المقامِ الشجي.

***

الأداءُ بصوتِ المجموعةِ يُعمقُ كما قلت الطابعَ الشعبيَ والجماعيَ البهيجَ للأغنية. ولكنني أوصي القراء أيضاً بمشاهدة -أكرر، مشاهدة لا استماع فقط – اللحن بصوت شريفة فاضل، التي حولت الأغنيةَ لمظاهرةٍ شعبيةٍ بحضورٍ طاغٍ وتفاعلٍ مدهشٍ من الجمهور، واكتشفت غريزياً طابعَها الراقص الذي تستجيبُ له بسهولةٍ كمطربةِ أفراحٍ مدربةٍ على التجاوبِ مع الإيقاعِ الراقص.

لهذا، أعتقدُ أن مشاهدةَ الأغنية بأداء شريفة فاضل من حفلٍ حيٍ وسطَ زغاريدِ الكورال وتجاوبِ السميعة المدهش (خاصة في الكوبليه الثاني “وِلدِك وناسك دهب”) يضيفُ متعةَ كبيرةَ ويكشفُ مناطقَ جديدة في هذا اللحنِ الرائع، وهذا هو رابطُ الأغنية بصوت شريفة فاضل.

ثالثاً؛ البهجة والأمل رغم كل شيء: يلا بينا تعالوا

النموذجُ الثالثُ الذي نتناولُه اليوم ينتمي لفئةِ أغاني الأفلام، مونولوج “يلا بينا تعالوا”، من فيلم الكيت كات لداود عبد السيد، كلمات سيد حجاب، وأداء محمود عبد العزيز وشريف منير، مقام الراست.

الأغنيةَ في قالبِ المونولوج، وهو تعريبٌ لقالبِ الأريا Aria في الغناءِ الأوبرالي والمسرحِ الغنائي، ويشيرُ لفاصلٍ غنائيٍ يأتي وسطَ مشاهدِ العملِ المسرحي ويُمثلُ عادة نقلةً دراميةً كاشفةً لحكمةٍ ما، أو عاكسةً لأزمةِ وشجونِ بطلِ العمل. ويُترجمُ ذلك لحنياً في أن قالبَ المونولوج يتخذُ مساراً خطياً، لا تتكررُ فيه ألحانُ الكوبليهات ولا يُعاد المذهب بينها (كما في الطقطوقة مثلاً)، وإنما يتطورُ اللحنُ درامياً في خطٍ مستقيمٍ يتوازى مع التطورِ الدراميِ لمضمونِ الكلماتِ، وبدون العودةِ لتكرارِ الكوبليهاتِ لأغراضِ التطريبِ والسلطنةِ.

لكن هذا اللحنَ ينتمي لنوعٍ خاصٍ من المونولوجات، يُسمى “بالمونولوج المغلق”، نسبةَ لحيلةٍ أبدعها محمد عبد الوهاب في مونولوجِه العظيم “أهون عليك” عام 1928، وتتمثلُ في وجود نغمةٍ (وليسَ كوبليه أو مذهب) تتكررُ بين مقاطعِ المونولوج المختلفةِ لتحفظَ وحدتَه في أذنِ المستمعِ وتوازنُ مسألة عدم وجودِ أيةِ مقاطعَ تتكررُ طوالَ الغناء.

استخدم إبراهيم رجب هنا هذه الحيلة بشكلٍ بديعٍ من خلالِ عبارةِ “دِرجِن دِرجِن” التي تُحاكي صوتَ خطواتِ “حصان الخيال” الذي تطلبُ الأغنيةُ من كلِ من يسمعُها أن يمتطيه.

***

الكلماتُ المدهشةُ لأحدِ أساطينِ شعرِ العامية، العبقري سيد حجاب. توليفةٌ من البساطةِ والحميميةِ من جهة والعمقِ والحكمةِ من جهة أخرى لا تتأتى إلا لشاعرٍ مقتدرٍ كسيد حجاب.

موسيقى الكلمات واضحةٌ تماماً ومليئةٌ بالسجعِ، الأمرُ الذي يُسهل على المستمعِ استيعابَ النقلاتِ في الأفكارِ التي يطرحُها المونولوج المكون من ثلاثةِ مشاهد: الأول هو مشهدُ الدعوة لإطلاقِ عنانِ الخيال (من “يلا بينا تعالوا” حتى “ونروح لأيام زمان”). والمشهدُ الثاني ينقلُنا لما سنشاهدُه في رحلتِنا هذه (من “دي إيه دي مصبغة”، وحتى “يطلع لونه أونطة”)، ليكشفَ لنا المشهدُ الأخيرُ المغزى الأهمَ للمونولوج، وضرورة النظرِ للحكمةِ العميقةِ والأملِ في أن نَجِدَ يوماً “الغلابة في أول الصفوف”.

تعامُل إبراهيم رجب مع هذه المشاهد يعكسُ قدراتِه التعبيريةَ العظيمة. اللحنُ من مقامِ الراست (واستمراريةُ المقام طوالُ الأغنية تحفظُ لنا وحدةَ اللحنِ رغم عدم تكرارِ الجملِ الموسيقيةِ وتنوعِ المشاهد)، مع مهرجانٍ من النقلاتِ المقاميةِ التي لا يكادُ يحسُها المستمعُ لفرطِ سلاستِها وجمالِها، تشملُ مقاماتِ السيكا (دي إيه دي مصبغة)، ثم الحجاز، لنعود للراست عند (لكن ورا الصباغة)، ونبقى فيه حتى ختام المونولوج، الذي يشهد تحويلة سريعة لزوم التطريب إلى مقام النهاوند (دِرِجِن دِرِجِن الأخيرة) قبل العودة للراست في (يا شيخ حسني يا جن). كل هذا في لحن لا تتجاوز مدته ثلاثة دقائق. فإبراهيم رجب هنا، بعكس اللحنين السابقين، يختارُ التنوعَ المقاميَ لا البقاءَ في مقامٍ واحد، مما يعكسُ فهمَه لطبيعةِ هذا اللحن الذي يُفترض أنه يُؤَدَى في جلسةِ طربٍ خاصة (تتيحُ التنوعَ المقامي) وليس نشيداً أو لحناً جماهيرياً يقتضي وحدة المقام.

***

لدي ملحوظة واحدة عن الأداء، تتعلقُ بالعزفِ البديعِ على آلةِ العود الذي يقومُ به في ظني الفنانُ المقتدر حسين صابر، أحد أعظم عازفي العود المصريين في الربع الأخير من القرن العشرين، وهو صاحب مدرسة السهل الممتنع في الأداء، جوهرُها الحساسية الشديدة وعدم استعراضِ التقنيةِ رغم امتلاكِ العازفِ الكاملِ لأدواتِه. وأنصحُ بشدة بالبحث عن التسجيلاتِ القليلةِ المتاحة لهذا العازفِ العظيم.

رابعاً؛ الجرصة وإعلان البراءة من الظلم والظالمين: حكموكي ما حكموكي

النموذجُ الأخير الذي سنتناولُه اليومَ للمبدعِ الكبيرِ إبراهيم رجب ينتمي لأغاني المسلسلات، وهو التِترُ الختاميُ الفذُ لمسلسلِ علي الزيبق، من كلمات عبد الرحمن الأبنودي وأداء المجموعة، مقام العجم.

الكلماتُ الرائعة للشاعرِ القدير عبد الرحمن الأبنودي، أحد رفاقِ رحلةِ إبراهيم رجب الفنية وواحد من أكثرَ من تعاون معه. وهي مرتبطةٌ بطبيعةِ الحالِ بموضوع المسلسلِ، وهو سيرة “علي الزيبق” أشهر العيارين والشُطار في مصر المحروسة.

وسيلاحظُ القارئُ المهتمُ بأن هذه الملحمةَ فريدةٌ بين السيرِ الشعبيةِ التي تُغنى وتُروى في بر مصر، لكونِ أحداثها تدورُ أساساً داخل مصر (بعكس السيرة الهلالية مثلا أو سيرة حمزة البهلوان أو عنترة.. الخ)، بالإضافة لمضمونِها التحرريِ الواضحِ، ليس فقط عبر احتفائها بالشاطرِ/العيار نصيرِ الضعفاء، وإنما أيضاً من موقفِها من المرأة. فالنساءُ في هذه السيرةِ لسن مجرد “حرائر” يتعرضن لخطرِ السبيِ وينتظرن البطلَ المنقذ، وإنما عناصرُ قويةٌ ومؤثرةٌ سواء على جانبِ الخير (من خلال شخصية الفارسةِ المغوارةِ “فاطمة اللبؤة” والدة علي الزيبق) أو الشر (من خلال شخصيةِ العيارةِ “دليلة” المحتالة).

***

الحريةُ هي إذن جوهرُ هذه الملحمةِ المصرية. وفكرةُ الحرية هي الفكرةُ المركزيةُ في التِترِ القصير (مدتُه دقيقة ونصف فقط)، بكلماتٍ قاطعة الدلالة، محورُها إعلانُ القطيعةِ والبراءةِ من الظُلمِ والظالمين، والمقابلةُ بين ابنِ البلد، صنوُ الحريةِ وصانعُها، في مواجهةِ المملوكِ (وهو العبدُ الذي أُتيح له أن يحكُمَ ويستعبدَ المواطنين الأحرار).

ونلاحظُ هنا أن تحريضَ الأغنيةِ ليسَ على مملوكٍ واحدٍ بعينِه، وإنما توضحُ الكلماتُ بجلاءٍ أن الحريةَ التي سيحققُها أبناءُ البلد رغمَ الصعوباتِ (لو ربطوا إيدينا.. بكرة نحرروكي) ستكونُ ليس فقط من “السلطانِ والواليِ” وإنما أيضا من “العهدِ المملوكي” برمته.

***

لتلحينِ الكلماتِ الجميلة ذاتِ الجرسِ والإيقاعِ الواضح (حكموكي/مملوكي/نحرروكي، حزينة/زينة.. الخ)، يختار إبراهيم رجب صيغةً أشبَه “بالجرصة” المعروفةِ في الأحياءِ الشعبيةِ والريفِ المصريِ، والمناسبة تماماً للتبرؤِ وإعلانِ القطيعةِ مع الطُغاةِ والطغيان. تُتَرجم صيغةُ “الجرصةِ” هذه في جملةٍ موسيقيةٍ راقصةٍ وساخرةٍ، سهلةِ الأداءِ، ومناسبةٍ لغناءِ المجاميع.

تبدأ المقدمةُ الموسيقية الراقصة بافتتاحٍ تنبيهيٍ بآلاتِ النفخِ وكورالٍ الكمانجات، قبل أن يبدأ الكورالُ في الغناءِ ويبقى طوالَ الأغنيةِ في مقامِ العجم، وهو ما يُناسب كما سبق وذكرنا طابعَ الأغاني الجماعية.

***

وفي اعتقادي أن هذا اللحنَ القصيرَ والجميلَ، بإيقاعِه البهيجِ وصلتِه الوثيقةِ بتراثِ الغناءِ الشعبي (والجرصة إن لَزَم الأمرُ!) ومضمونِه التقدميِ الحاسم، يكادُ يختصرُ المشروعَ الفنيَ لهذا المبدع العظيم إبراهيم رجب، المغترِف من الإرثِ الشعبي المصريِ العظيم، ليبدعَ فناً ينظرُ للأمام ويلتزمُ بالأملِ والحريةِ وبهجةِ الناسِ الغلابة.

على كُلٍ، كانت هذه مجرد نماذج لبحرٍ واسعٍ من إبداعِ هذا الفنان وغيره من المبدعين المغمورين وأعمالِهم الرائعة التي تستحقُ أن تُسمعَ على نطاقٍ واسعٍ، لتملأ حياتَنا بالبهجةِ، وتُجدد إيمانَنا بالناسِ وبقدرتِهم على الإبداعِ واجتراحِ الأملِ من قلبِ المواجع.

استمتعوا وتسلطنوا.. وتفاءلوا بالشعب تجدوه!

(*) بالتزامن مع “الشروق

 

Print Friendly, PDF & Email
ياسر علوي

كاتب، أكاديمي ودبلوماسي مصري

Download Premium WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
free online course
إقرأ على موقع 180  ماذا يحدث في بنوك مصر؟