حَلمَ السود في أمريكا بالحريّة والعتق منذ اللحظة التي وطأت فيها أقدامهم أرض القارة الجديدة، لكن تلك الأحلام إصطدمت بحواجز عالية ومنيعة عنصرية ودينية وعرقية، وباستعباد جسدي وفكري، واستغلال اقتصادي وسياسي؛ حواجز كان من المستحيل تجاوزها وقهرها، فتقهقروا وانقهروا وأصبح معظمهم أدوات بيد أمريكا (في داخلها وخارجها) من أجل قهر أحلام من تريد سحقهم.
أدرك بعض السود هذا الفخ الرهيب، وقرّر أمثال دو بويس وعلى مضض مغادرة الولايات المتحّدة و”الرجوع” إلى أفريقيا (دو بويس إنتقل إلى غانا في سنة 1960 ومات هناك). لكن أمثال الملاكم الشهير محمّد علي كلاي ومالكوم إكس كان لهم رأي آخر: البقاء والمقاومة السلمية لسياسة جعل السود أداة استعماريّة. مثلاً، رفض محمّد علي الالتحاق بالجيش الأمريكي للقتال في فيتنام قائلاً:
“أقاتلهم من أجل ماذا؟ لم ينعتوني بتاتاً بالنيغر (nigger). لم يعلّقوني بتاتاً بحبل لأموت. لم يطلقوا عليّ الكلاب لتنهشني. لم يجرّدوني من هويّتي ويغتصبوا أمّي ويقتلوا أبي. أقاتلهم من أجل ماذا؟ كيف لي أن أقاتل ناساً مساكين؟ الأفضل أن تأخذوني إلى السجن”.
وبالفعل، حكم على محمّد علي بالسجن، وكان نصيب مالكوم إكس الإغتيال بمباركة الـ”إف بي آي”. لكن معظم السود هرعوا إلى فيتنام علّ ذلك يبتاع لهم كبرياءً وحريّةً ومساواةً. وكما في كلّ مرّة سابقة (حرب الاستقلال، الحرب الأهليّة، الحرب العالميّة الأولى ثم الثانية، إلخ)، رجعوا منتشين بالنصر الذي حقّقوه (أو بدفاعهم المستميت عن أمريكا) ليجدوا أمامهم مزيداً من التهميش والعنصريّة. غرقوا في وحول “أرض الأحرار وموطن الشجعان” (land of the free and home of the brave)، وقبلوا في كلّ مرّة أن يكونوا مجرد أدوات عسى أن يتقبّلهم مجتمع البيض. فأصبح حالهم كقصّة إبريق الزيت: معاناة لا تنتهي وتهميش لا ينضب. الأنكى من كلّ ذلك هو استغلال النظام الأمريكي لمعاناتهم وتهميشهم من أجل تأصيل كل أنواع الجريمة بينهم، ليصبح معظم السود في أمريكا أسرى دوّامة يستحيل الخروج منها إلاّ بالهروب من أنفسهم ومجتمعهم وناسهم.
ما حصل للسود حصل بدرجات مختلفة مع غيرهم: السكان الأصليّون، المهاجرون من أمريكا اللاتينيّة، أصحاب الأصول الأسيويّة (الصينيون واليابانيون تحديداً)، العرب، المسلمون، الهنود، الأفارقة، إلخ. وما حصل ويحصل في الولايات المتحّدة حصل ويحصل مثله في بلدان كثيرة، وكأنّها سنّة الحضارة الغربيّة التي يتقلّد بها العالم منذ القرن التاسع عشر. وبغض النظر عن وجود قلّة من الغربيّين وغير الغربيّين المتنوّرين الذين يرفضون هذا الإرث الرهيب (أعني رفضه فعلاً لا قولاً فقط)، نجده يتمدّد في كلّ مكان: سياسة الصين تجاه شعب الايغور وأهل التيبت، سياسة الحكومة الهندية الحاليّة تجاه المسلمين، سياسة اليمين الأوروبي المتطرف إزاء الإسلام والمهاجرين، إلخ.
إذا قلنا أنّ هذا نتيجة جهل، فنكون كمن يختبىء وراء اصبعه. الحقيقة هي أنّ معظم العنصريّين هم من المتعلّمين، ومعظم المجرمين في الإحتيال الإقتصادي والإجرام والتلويث البيئي والفساد السياسي (راجعوا النموذج اللبناني) والقمع الوحشي و.. هم من أصحاب الشهادات الرفيعة وخرّيجي الجامعات المرموقة. المشكلة للأسف هي أنّ العلم أدّى بكثير من الناس إلى التعجرف، وكأنّ لسان حال المتعلّم: “أنا أقرأ إذاً أنا أفهم”.. وشتّان ما بين القراءة والفهم.
لكن مشكلتنا هي أخطر وأعمق من ذلك. نحن الآن في زمن لا يمكن معه جمع الحلم بالواقع. إمّا أن نحلم حلماً مفروضاً علينا، أو نعيش في ذلٍّ ومرارة هي أيضاً مفروضة علينا. ما يعانيه لبنان مثلاً ينطبق على هذا الوصف (وكذلك اليمن، ليبيا، فنزويلا، وبلاد ـ وليس دولاً ـ أخرى).
معظم العنصريّين هم من المتعلّمين، ومعظم المجرمين في الإحتيال الإقتصادي والإجرام والتلويث البيئي والفساد السياسي (راجعوا النموذج اللبناني) والقمع الوحشي و.. هم من أصحاب الشهادات الرفيعة وخرّيجي الجامعات المرموقة. المشكلة للأسف هي أنّ العلم أدّى بكثير من الناس إلى التعجرف، وكأنّ لسان حال المتعلّم: “أنا أقرأ إذاً أنا أفهم”.. وشتّان ما بين القراءة والفهم
ولعل من حسنات البشر أنّ أفكارهم أسيرة عالمي المثال والواقع، وهما محيطان يتصارعان، ولذلك، نجد أنفسنا مرة في لحظة مثاليّة، ومرة أخرى في لحظة واقعيّة على قاعدة القبول بما “كُتب” لنا (أما من كتب.. فلا ندري). ولكن نبقى فيهما معاً، لأنّ عالم المثال وعالم الواقع ليسا منفصلين كما يتبدى لنا. صحيح أنّ المثاليّة فيها كثير من الأحلام، لكنّها بنت الواقع. وعالم الواقع فيه كثير من المتناقضات الصارخة، لكن لا يمكن تحمّله إلاّ مع وجود الأمل. لذلك يمكن أن نقول أنّ عالم الأحلام من دون واقع هو اليأس والإحباط بعينه، والواقع من دون أمل هو الإستسلام والضجيج والتكيف والصراخ بلا لحظة تفكير وتخطيط وأمل. عالم المثال هو ضروري لأنّ هناك أشياء كثيرة نحبّ ونريد أن نغيّرها في واقعنا، فنحلم بالتغيير والتجديد والتنويع والتحسين.
الكارثة هي عندما نتوقّف عن الحلم، فيصبح الواقع سوداوياً ومريراً لا مفر منه إلا بالهروب إلى أنواع من الموت (الفكري، الإجتماعي، الجسدي إلخ..). الكارثة تقع عندما ينفصل عالم الواقع عن عالم المثاليّة ويصبح تعايشهما مستحيلاً، فنصبح مجبورين على الهروب من أحلامنا إلى أحلام الآخرين.
ككثير من شعوب العالم، جريمتنا أنّنا أردنا أن نحلم بأوطان. بحريّة وازدهار. بقصص حب وافتخار ونجاح. لكننا وجدنا الإنهيار في كلّ مكان. إذا نظرنا إلى العالم العربي، نجد الموت السريع في سوريا واليمن وليبيا، والموت البطيء في فلسطين ولبنان والعراق وتونس والسودان. وقس على ذلك في كثير من البلدان. كأنّ أمام الناس باب خلاص واحد: الهجرة. ومن ليس قادراً على الهجرة، بات طريح فراش الموت ينتظر الفرج من غودو.
التبعيّة التي تفرضها علينا الأنظمة المستبدّة (وعلى رأسها أمريكا) هدفها تحطيم الآمال من أجل تحطيمنا كبشر وإجبارنا على الهجرة لنحلم ببلد آخر، لكن ليس الذي نريده، بل الذي يُراد لنا. بدأ ذلك في عصر التنوير والثورة الصناعيّة عندما أجبرت أجيال بكاملها على الإنتقال إلى المدن للعيش في أحياء البؤس والفقر. استفاد البعض من ذلك وأصبحوا في عداد الطبقة الوسطى الميسورة، لكنّهم جاؤوا بمن يأخذ مكانهم في بؤر البؤس والفقر، وكأن القضاء عليها من المحّرمات الدينيّة.
عندما نستخدم مصطلحات التبعية لا نُبرّأ أنفسنا وأنظمتنا. حُكامنا لا يُقصرون في خدمة الأجنبي ولو على حساب شعبهم. تصوّروا مثلاً كيف أن سلاح العقوبات الأمريكية يجعل “أكبر راس” في منطقتنا مذلولاً. صرنا نراهن بهذا المعنى على وطنية الأجنبي لكي يفرض خيارات معينة على حكامنا تكون في مصلحة شعوبنا!
نقولها بهزل، لكنها الحقيقة ولو أنها قاسية. الأموال التي دفعتها وتدفعها بعض دول الخليج وعلى رأسها السعودية لتدمير اليمن، كانت لتوفر إزدهار شعوب وتشتري ولاء معظم اليمنيّين لو أنفقت في مشاريع إنسانيّة وإجتماعية وعمرانيّة وتربوية. كذلك الأمر، فإن الأموال التي تدفعها أمريكا وأوروبا من أجل محاربة التطرّف الإسلامي في أفريقيا كانت لتقضي على التطرّف الإسلامي لو أنفقت على البشر وتعليمهم وغذاءهم وتنمية مجتمعاتهم. لكن الأهداف الحقيقيّة ليست القضاء على ما يسمّى “الإرهاب”، بل استخدامه لقتل أحلام أهل مالي وبوركينا فاسو وغيرها، حتى يهرعوا لملء بؤر الفقر والبؤس في ما يسمى “العالم الأول” اللاهث وراء من يعمل عنده بفتات لا يسمن ولا يغني من جوع.
إستفضنا في الحديث، لكن لا بد من خلاصة: نحن نمرُّ في حقبة يزدهر فيها قتل الأمل لا بل جعله مستحيلاً. برغم ذلك سنبقى حالمين بكل ما هو لمصلحة شعوبنا العربية، ولن تخذلنا الوقائع، بل ستزيدنا إصراراً على مزج الأمال والأحلام والأيام حتى يكون لنا ما نريد وحتى يكون للأجيال الآتية ما تحلم به وتدافع عنه وتسعى إليه.. وصولاً إلى حياة أفضل وغدٍ أجمل.