عندما ينتصر ترامب على أوروبا.. وينتظر قادتها بالطابور!

‫توصل الاتحاد الأوروبي إلى اتفاق تجاري مع الولايات المتحدة، لخصته رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين بقولها: «هذا أفضل ما كان بوسعنا تحقيقه». توصيف متحفظ (معترض ضمناً) استخدمته معظم العواصم الأوروبية، إذ اعتبر البعض منها أن‫ يوم الأحد 27 يوليو/تموز هو يوم «الحد من الخسائر» بينما رأت عواصم أخرى أنه «يوم أسود».‫

فرنسا، ثاني أكبر الاقتصاديات في الاتحاد الأوروبي، اعتبرت الاتفاق نوعاً من «الاستسلام». وكتب رئيس الوزراء الفرنسي فرانسوا بايرو في تعليق على منصة “إكس”: «إنه ليوم أسود، حين يقرر تحالف من الشعوب الحرة، تشكل بهدف الدفاع عن قيمها المشتركة والدفاع عن مصالحها المشتركة، الجنوح إلى الاستسلام». ولم يصدر تعليق رسمي عن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على الاتفاق التجاري لأسباب سياسية وديبلوماسية مرتبطة بأجندة نيويورك (دولة فلسطين) وأجندة دعم صناعة السلاح الأوروبية (الحرب الأوكرانية).

يقضي الاتفاق الأوروبي الأميركي بفرض رسوم جمركية بنسبة 15% على معظم المنتجات الأوروبية المستوردة إلى الولايات المتحدة. كما التزمت الدول الـ27 بشراء المزيد من النفط والغاز الأميركيين وأسلحة أميركية وكذلك الاستثمار في الولايات المتحدة. نتيجة جعلت الرئيس الأميركي دونالد ترامب يلوّح بالاتفاق كشارة نصر. إلا أن التدقيق يشي بأن «لعب الرئيس الأميركي» بقواعد التجارة العالمية لا يقود إلى أي نصر سوى المزيد من تفكك نظم التبادل وتراجع النمو العالمي، وهو أمر سيرتد سلباً على الولايات المتحدة أولاً.

وإذا ابتعدنا قليلاً عن تطبيل ترامب وكذلك التطبيل الإعلامي الذي يرافق إعلانات زيادات بـ ١٠٠٪ ثم ٥٠٪ ثم كذا في المئة وهي أرقام تُغرق العالم بحالة من الخوف من أميركا وسطوتها، فإن الولايات المتحدة ستواجه أزمة كبيرة نتيجة هذا التلاعب بقوانين التجارة العالمية. تشهد على ذلك مؤشرات عديدة أبرزها وأخطرها هو اعتقاد ترامب الراسخ بأن الرسوم الجمركية «ضريبةٌ تُفرض على المصدرين الأجانب» لتعويض العجز في الميزان التجاري الأميركي، وأن هذه الرسوم ستضعف اقتصاديات الدول المصدرة للسوق الأميركية، غير أن الحقيقة المرة أن من سيدفع الثمن هو المستهلك الأميركي، وفق ألفباء دروس التجارة والاقتصاد..

ولعل أساس الانحراف عن أسس القوانين التجارية هو جهل ترامب، وعدم قدرة مستشاريه على «تصويب قراراته ورؤيته» خوفاً من زخم يمين جمهوري يُطبّل ويُزمّر لرئيسه بعيداً عن أصول الحكم وصوابية قراراته، وهذا، برأي المراقبين الأوروبيين، مؤشر لما ينتظر أميركا من ديكتاتورية في العقود المقبلة.

ويعتبر ترامب أن العجز التجاري يُمكن تعويضه بفرض رسوم جمركية إلا أنها في الواقع تذهب من جيب المستهلك الأميركي إلى خزينة الدولة. العجز التجاري الكبير الذي يُلوّن الاقتصاد الأميركي يعكس التفضيلات الاستهلاكية للأفراد والشركات الأميركية. إذًا اقتصاديًا، لا معنى لكل ما يقوله ترامب، ولكن الأذى الذي يمكن أن تسببه سياساته التجارية يُجبر دول العالم على التكيف معه.

وفي حين ما تزال الآثار «الماكرو-اقتصادية» معتدلة حتى الآن، تتضح بعض التأثيرات القطاعية مع إعلان بعض الشركات عن نتائجها. وأفضل مثال هو قطاع السيارات المعولم بحق: شركة “جنرال موتورز” تُقدّر الخسائر المرتبطة بالرسوم الجمركية في النصف الأول من العام الحالي وحده بـنحو 1.1 مليار دولار؛ شركة “ستيلانتيس” (تُنتج سيارتي “بيجو” و”سيتروين” و”كرايسلر” و”فيات” إلخ..) تُقدّرها بنحو 300 مليون يورو؛ شركة “فولسفاغن” نحو 1.3 مليار يورو. هذا في حال بقيت الرسوم الجمركية الحالية عند المستوى نفسه [25%].

وقد تكون المفوضة فودن دير لاين قد أنقذت قطاع السيارات الألمانية بخفض الرسوم من 25% إلى ‫15%. فتصدير السيارات يُشكّل أحد عوامل القوة التصديرية في الإتحاد الأوروبي (ألمانيا وإيطاليا بشكل خاص). واللافت للانتباه أن إيطاليا لم تنتقد الاتفاق الأخير، ويعود ذلك، حسب خبير في تجارة السيارات، إلى أن «مستهلكي السيارات الفاخرة من فيراري إلى لامبورغيني لن يُثنيهم فرض ضرائب جمركية عالية عن ممارسة هواياتهم»!

من أبرز مخاطر الرسوم «الترامبية» هو غياب رؤية للمدى المتوسط والبعيد، حتى تتكيف الصناعات. الرسوم الجمركية لا تزال في بدايتها ولكن دونالد ترامب ليس بعيدًا عن تغيير موقفه إذا اكتشف مع نهاية الفصل المالي للميزانية انتكاس القوة الشرائية للطبقات الفقيرة التي تمثل قاعدته الشعبية

وثمة قطاع آخر يتمتع بقوة تفاوضية: «صناعة اللوكس»، أي العطور والأزياء والمجوهرات وغيرها فهي حتى تحت تعرفة بـ 25% ‫نجحت في تعويض جزء من الرسوم الجمركية، إذ أنها زادت الأسعار بنسبة 6% إلى 7% منذ نيسان/أبريل الماضي، من دون أي رد فعل واضح من عملاء الشركات، لا بل على العكس فقد ارتفعت مبيعاتها في الولايات المتحدة بنسبة 20% في النصف الأول من هذا العام.

أين هي الخسائر التي تعلنها قطاعات صناعية متعددة؟‫

كان من المنطقي أن تنهار صادرات الصين إلى الولايات المتحدة وكذلك صادرات ألمانيا، لكن هاتين الدولتين تمكنتا إلى حد كبير من تعويض ذلك من خلال إعادة التصدير إلى دول أخرى ولكن مع تخفيض أسعار سلعها لمراعاة تفاوت القدرة الشرائية بين تلك الأسواق في جنوب شرق آسيا مثلا وأوروبا الشرقية والسوق الأميركية، وفي ذلك تم تسجيل خسائر بسيطة.

إقرأ على موقع 180  بين إيران وأميركا.. دول الخليج الحلقة الأضعف!

كذلك فإن من أبرز مخاطر الرسوم «الترامبية» هو غياب رؤية للمدى المتوسط والبعيد، حتى تتكيف الصناعات. الرسوم الجمركية لا تزال في بدايتها ولكن دونالد ترامب ليس بعيدًا عن تغيير موقفه إذا اكتشف مع نهاية الفصل المالي للميزانية انتكاس القوة الشرائية للطبقات الفقيرة التي تمثل قاعدته الشعبية. فهو هدّد بفرض المزيد من الضرائب على النحاس والأدوية والطائرات والشاحنات والأفلام وهي سلع بعضها بعيد وبعضها الآخر غير بعيد عن الأفق المباشر للمستهلك الأميركي.

ولكن برغم هذه الهفوات يُسجّل ترامب نقاطاً عدة ليس على صعيد منافسة الصين، بل من خلال فرض منطقه وإرادته على أوروبا ممثلة بالاتحاد الأوروبي، الذي لطالما كان يدعي أنه قوة مستقلة قادرة على فرض سيادتها.

وكانت المفاوضات مع الولايات المتحدة قد وفّرت فرصة مثالية لوضع حجر الأساس لهذا التحول نحو المزيد من استقلالية أوروبا، مثل إطلاق استثمارات أوروبية مشتركة وفي مقدمتها مصانع السلاح لإنشاء صناعة دفاعية أوروبية تلبي احتياجات الاتحاد الأوروبي وبناء تكنولوجيا مستقلة. ولكن بسبب تشرذم دول الإتحاد تبدى عجز أوروبا في مواجهة ترامب، بدل حصول العكس.

إضافة إلى ذلك ‫أدت الإعلانات الصادرة يوم الأحد 27 يوليو/تموز إلى تجميد «التدابير التجارية المضادة» التي بدأ الأوروبيون في إعدادها على الواردات من الولايات المتحدة. وقد تم تعليق هذه الرسوم الإضافية حتى إشعار آخر.

انتصر ترامب على أوروبا العجوز، وسينتظر وصول طلبات التسلح والحماية.. الواحد تلو الآخر، وسيجعل دول أوروبا تقف في الطابور في انتظار شحطة قلم توقيعه!

Print Friendly, PDF & Email
بسّام خالد الطيّارة

كاتب وأستاذ جامعي مقيم في فرنسا

Download Nulled WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Premium WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
free online course
إقرأ على موقع 180  "أوراسيا ريفيو": تركيا تسعى لفرض هيمنتها على شرق المتوسط