“أوراق دبلوماسية” في القاهرة.. بساتين الأدب والسياسة

دخلتُ إلى بلازا رقم ٢ بمعرض القاهرة الدولي للكتاب في دورته الـ 54 (2023) لحضور الحلقة النقاشية التي تحمل عنوان "كتابات دبلوماسية"، ولم أخرج منها كما دخلتُ. لماذا؟

كانت المنصّة مفتخرة، كما يقول الدبلوماسيون في وصف المشاهير منهم، فالمتحدثون بينهم اثنان من وزراء خارجية مصر السابقين، والأمين العام الحالي لجامعة الدول العربية، والمدير السابق لمكتبة الإسكندرية، واثنان من سفراء مصر السابقين في واشنطن درّة البعثات الدبلوماسية المصرية والتي لا يتولّى مسؤوليتها إلا زبدة الزبد من أبناء الخارجية المصرية. وعلى تعدّد تلك المهام وأهميتها فإن شاغليها كانوا أربعة فقط وهم على التوالي مع حفظ الألقاب: أحمد أبو الغيط، ونبيل فهمي، ومصطفى الفقي، ومحمد توفيق. كانت القاعة ممتلئة على آخرها من شباب الخارجية المصرية ومن الشخصيات العامة ومن روّاد المعرض، فالمتحدثون كوكبة من النجوم اللامعة في سماء السياسة والدبلوماسية، لذلك كان طبيعيًا أن يطلب بعض الحضور التقاط الصور التذكارية معهم.

***

من بين الأسئلة العديدة التي طرحها مدير الحلقة النقاشية الدبلوماسي القدير عمرو الجويلي سؤال عن علاقة الدبلوماسية بالأدب، وهذا السؤال بالتحديد شدّني جدًا لأن الموهبتين الدبلوماسية والأدبية من طبيعتين مختلفتين تمامًا. الدبلوماسية فيها حرص وإخفاء ومناورة وواقعية ومصلحة، أما الأدب ففيه بوح وبراح وخيال ومغامرة وغير المألوف. برقيات الدبلوماسي موجزة مهما طالت ومحدّدة الموضوع وفي الصميم، أما الأدب ففيه قلب وحواشي وشرح كثير على المتون. ثم أن الأدب فيه جزء من ذاتية الكاتب لا شك في ذلك، والقارئ يعرف ذلك كما أن الكتّاب لا يخفون ذلك، وبالتالي فعندما يؤلف الدبلوماسي رواية أو يقرض شعرًا، سيظل القارئ يبحث بين السطور والأبيات الشعرية عن شخصية الدبلوماسي ويتساءل أين هو من شخصيات العمل الأدبي وأي عبارات الغزل أو النقد السياسي تعبّر عن مشاعره واتجاهاته؟.

بطبيعة الحال هناك دروب يمكن أن يهرب إليها الدبلوماسي الموهوب أدبيًا حين يمارس هوايته في الكتابة، كأن يلجأ للكتابة في أدب الرحلات وفيه متسّع بحكم تعدّد أسفار الدبلوماسي وتجوّله بين البلدان والثقافات، أو يلجأ للكتابة الدينية أو الخيال العلمي، نعم ممكن ويحدث، لكن عدا هذا فالأمر ليس سهلًا. عالَم الدبلوماسية هو عالَم الألقاب: سعادة ومعالي وجناب وهانم وإكسلانس، وكلنا نذكر كيف أن حسني مبارك حين قيل له إنه سيكون نائبًا لرئيس الجمهورية كان في قرارة نفسه يتمنّى أن يكون سفيرًا في لندن: بلد الإكسلانسات، هذا إذن هو الحال، أما عالَم الأدب فيخلو من الألقاب، ففي هذا العالَم شيء من التسكع والصعلكة والبوهيمية، والمقهى يلعب دورًا يعتّد به في تشكيل علاقاته الإنسانية، ومع أن البستان هو مقّر النادي الدبلوماسي حيث يلتقي أبناء الخارجية في قلب القاهرة، كما أن البستان أيضًا هو اسم أحد أشهر المقاهي التي يلتقي فيها الأدباء ولا يبعد كثيرًا عن النادي الدبلوماسي، إلا أنه يوجد اختلاف كبير بين بستان وبستان. لن ترَى أي دبلوماسي في مناسبة نصف رسمية – ومن باب أولى المناسبات الرسمية – لا يرتدي ربطة عنق، وفي افتتاح الحلقة النقاشية التي يتناولها هذا المقال وقبل أن يأخذ الجويلي الميكروفون لإدارة الحلقة – مالت عليّ صديقتي السفيرة وهمسَت في أذني بأن الشخص الذي رحّب بالحضور مستحيل أن يكون من أبناء الخارجية، وعندما سألتها: كيف عرِفَت؟ قالت: لأنه لا يرتدي ربطة عنق، وصحّ قولها، أما الأديب فقلّما يرتدي الكراڤات فهو يفضل الملابس المريحة بغّض النظر عن طبيعة المناسبة كما أنه يحبّ ارتداء البيريه. وفي ظل هذا التناقض بين عالَم “منّشي” وعالَم على سجيّته كيف يحدث التلاقي بين الدبلوماسي والأديب؟

***

قال لي السفير الأديب محمد توفيق إنه كتب روايته “فتاة الحلوى” عن اغتيال المخابرات الأمريكية علماء مصر، وشاءت الظروف أن يقدّم بعدها مباشرة أوراق اعتماده سفيرًا لمصر في واشنطن، وكادت أن تحدث أزمة كبيرة لكن ربنا ستر، وهكذا كسبنا سفيرًا كفؤًا لمصر في الولايات المتحدة، كما احتفظنا بأديب متمكّن من صنعة الكتابة، فعندما تقرأ له رواية “ليلة في حياة عبد التوّاب توتو” تهّب عليك بعض روائح نجيب محفوظ. في هذه الرواية يؤرخ توفيق لتاريخ مصر من خلال حياة الباشا التي تنعكس على حيوات أبنائه وأحفاده كل التغيّرات المجتمعية التي عاشتها مصر، من المَلَكية للجمهورية، ومن عبد الناصر للسادات. وكما أن لمحفوظ ثلاثيته: بين القصرين وقصر الشوق والسُكّرية، فإن لتوفيق ثنائيته التي بدأت بـ”ليلة في حياة عبد التوّاب توتو”، وثنّت بـ”حكاية طفل اسمه عنتر” والعملان يعتبرهما الكاتب أحمد الخميسي متصّلًا واحدًا.

قال المثقف الموسوعي الدكتور مصطفى الفقي في أثناء الحلقة النقاشية “إن الدبلوماسي المثقف أفضل من العادي، والمهندس الفنان أفضل من العادي، والطبيب الشاعر أفضل من العادي”، وربما كان في اختياره الثقافة للدبلوماسي واختياره الفن والشعر للمهندس والطبيب دليلًا على صعوبة الجمع بين الأدب والدبلوماسية في مسيرة واحدة

لكن السير على الحبل المشدود بين الدبلوماسية والأدب قد لا يستمر، وهناك نماذج معروفة خرجت من العمل الدبلوماسي إما لأنه ليست كل مرة تسلم الجرّة كما في المثل الشعبي، أو لأن أصحابها عندما وُضعوا في اختيارات صعبة ما بين حرياتهم الشخصية وعملهم الدبلوماسي اختاروا حرياتهم ومارسوا ألوانًا مختلفة من الأدب. ترك يحيي حقي عالَم الإكسلانسات وتفرّغ تمامًا للأدب، وأنا واحدة من القرّاء الذين يعتبرون أن حقّي لم يأخذ حقَه من الاهتمام برغم تفرّده في مجال الأدب. وفي الإعداد لهذا المقال حاوَلت أن أحصر الأعمال التي كتبها حقّي أثناء مسيرته الدبلوماسية التي انتهت في عام ١٩٥٤ فلم أجد إلا روايته البديعة “قنديل أم هاشم” التي كتبها قبل توديعه الدبلوماسية بأكثر من عشر سنوات، وأرجو ألا أكون مخطئة. على العكس من ذلك تميّز عزّ الدين شكري فشير بغزارة إنتاجه الأدبي في أثناء عمله الدبلوماسي، وقد كتب في فترة زمنية متقاربة اثنتين من أجمل رواياته على الإطلاق، إحداهما سياسية وهي “باب الخروج” التي يمكن القول إنها صَنَعَت شهرته الحقيقية من خلال قدرتها على استشراف المستقبل، والثانية غير سياسية بعنوان “عناق عند جسر بروكلين” عن أزمة الهوية التي يعاني منها المغترب، وتعليقًا على الرواية الأخيرة قال الأديب جمال الغيطاني ما نصّه “هذه رواية بديعة، جميلة لروائي كبير ترسّخ اسمه بسرعة في الأعوام الأخيرة”. لكن فشير من النماذج التي كان من الصعب فيها السير على الحبل المشدود وانتهى عمله الدبلوماسي لكنه مازال يكتب، وله رواية حديثة صدرَت قبل أيام بعنوان “جريمة في الجامعة”.

إقرأ على موقع 180  مصر وإيران.. متى يُقرَع جرسُ التطبيع؟

ومع أن جميل مطر عندما ترك الدبلوماسية لم ينتج أدبًا صريحًا بمعنى رواية أو مجموعة قصصية، لكن انطباعاته الأسبوعية في جريدة الشروق هي انطباعات أدبية بامتياز، وهو فيها كما في الجزء الأول من مذكراته عن خبرته الدبلوماسية تحت عنوان “أول حكاية” يحافظ على الحرص والحذر اللذين يميّزان شخصية الدبلوماسي، حتى أن صديقه الصحفي الكبير صلاح الدين حافظ كتب في تقديم مذكراته قائلًا “قدر ما أسعدَتني تلك اللوحات الإنسانية والانطباعية، التي رسم المؤلف من خلالها، مواقفه وعبّر عن آرائه في الناس والأحداث والبلاد والعواصم، بقدر ما صدمتني أستار السريّة التي فرضها على أسماء أبطال حكاياته، ونظّن أنها سرَية لا زالت عالقة به – حذرًا – منذ بدايات عمله في السلك الدبلوماسي”.

وعدا هذه النماذج التي قطعَت أو قُطِعَت مسيرتها الدبلوماسية واتجهت إما لاحتراف الأدب أو لممارسة بعض أشكاله على سبيل الهواية، توجد نماذج لدبلوماسيين فَتَحَ لهم التقاعد باب ممارسة الإبداع، ومن هؤلاء السفير عبد السميع زين الدين صاحب الباع الطويل في مجال الشعر الحديث، وأظن أن بعض قصائده كان يتعذّر عليه كتابته أثناء الخدمة حتى وإن لاذ بالتورية، فلقد استمعتُ إلى إحدى قصائده بعنوان “البداية” وكان فيها نقد بليغ لنفاق بطانة الحكّام والتزّلف لهم من خلال الحوار بين السلطان والصدر الأعظم.

***

قال المثقف الموسوعي الدكتور مصطفى الفقي في أثناء الحلقة النقاشية “إن الدبلوماسي المثقف أفضل من العادي، والمهندس الفنان أفضل من العادي، والطبيب الشاعر أفضل من العادي”، وربما كان في اختياره الثقافة للدبلوماسي واختياره الفن والشعر للمهندس والطبيب دليلًا على صعوبة الجمع بين الأدب والدبلوماسية في مسيرة واحدة حتى دون أن يقصد التصريح بذلك، فأن يُبدع الطبيب إبراهيم ناجي في إنتاج الشعر، أو يبرع الطبيب يوسف إدريس في إنتاج القصة القصيرة فإن هذا يختلف جدًا عن أن يكتب الوزير المفوّض الشعر أو الرواية أو المسرحية. ولذلك فكلنا شوق لقراءة الكتاب الذي قارب على الانتهاء من إعداده السفير عمرو الجويلي عن الأعمال الكاملة للدبلوماسيين المصريين من بعد ثورة يوليو ١٩٥٢ حتى الآن تحت عنوان “من البرقية إلى الكتاب: الدبلوماسيون المصريون كمؤلفين”، ففيه كما يقول الجويلي عدد يعتّد به من الأعمال الأدبية من إجمالي ١٠٠٠ عمل بالتمام والكمال أنتجهم ١٥٠ دبلوماسياً خلال سبعة عقود. نعم كلنا شوق للتعرّف على المزيد من الدبلوماسيين الأدباء، سواء مَن سار منهم على الخط المشدود بين الدبلوماسية والأدب مستعينًا على مواصلة السير بستر ربنا تارةً وبالكتابة في الموضوعات غير الشائكة تارةً أخرى، أو مَن توّقّف منهم في منتصف المسافة وغيّر مساره إلى الأدب، أو مَن وارى منهم موهبته الأدبية حتى إذا انتهى عمله الدبلوماسي حرّرها وأطلق لها العنان، فجميع تلك الحكايات يضيف أبعادًا جديدة لمؤسسة الدبلوماسية المصرية العريقة، وحبذا لو أمكن توفير نسخ من تلك الأعمال بالإضافة لوزارة الخارجية لدى مكتبة الإسكندرية وكليات الاقتصاد والعلوم السياسية في الجامعات المختلفة، ففي عرض عناوين مؤلفات الدبلوماسيين أثناء الحلقة النقاشية استوقفني بعضها وأحببت قراءته، ومن قبيل ذلك “أيام مشتول السوق” و”حارة النبقة” للسفير القدير الراحل سيد أبو زيد، و”ظلال الكولسيوم” لمندوب مصر الدائم لدى جامعة الدول العربية السفير محمد مصطفى عرفي، وغير ذلك كثير.

(*) بالتزامن مع “الشروق

Print Friendly, PDF & Email
نيفين مسعد

كاتبة مصرية

Download WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  لبنان في قلب "حرب السفن".. و"الأحضان"!