سياسات أردوغان تحت أنقاض.. الزلزال

عدد قتلى الزلزال الذي دمّر مناطق شاسعة في جنوب شرق تركيا وشمال غرب سوريا آخذ في الإزدياد، أكثر من 35 ألفاً حتى الآن، ومن المرجح أن يصل إلى 40 ألفاً خلال أيام قليلة. والمؤكد أنه عند الإنتهاء من رفع كل الأنقاض وإنتشال كل الجثث، فإن عدد الضحايا سيتجاوز الـ 75 ألفاً.. ولن يكون مفاجئاً إذا وصل إلى 100 ألف قتيل، وربما أكثر من ذلك بكثير.

يوم السادس من شباط/فبراير 2023، الساعة 4:20 صباحاً بالتوقيت المحلي؛ التركي والسوري؛ هو تاريخٌ لن يُنسى أبداً. إنه تاريخ مأساة إنسانية غير مسبوقة، حلَّت بحياة الآلاف من الأتراك، الأكراد، العرب، المسلمين السُنَّة والعلويين، المسيحيين الأرثوذكس والكاثوليك، واليهود.. وكل أطياف البشر الذين – ومنذ زمن سحيق – أثّروا في المشهد التاريخي للشرق الأوسط، وساهموا بتنوعهم واختلاف مشاربهم في زخرفة ألوانه الفريدة. كما ستترك هذه المأساة تغييرات كثيرة من شأنها أن تؤثر على المستقبل، ولا يزال من السابق لأوانه تقييم حجمها الحقيقي.

كادت مدينة أنطاكيا العريقة أن تُمحى من على وجه الأرض، بآثارها التاريخية، وكنائسها التراثية، ومسجد “حبيب النجَّار” العريق، والكنيس اليهودي.

زلزال القرن

زلزالان لم يُشهد لهما مثيل منذ قرابة القرن، وقعا في غضون تسع ساعات، وبلغت قوتهما 7.8 و7.7 درجات على مقياس ريختر. في الذاكرة لا يزال يحضر الزلزال الذي وقع في شرق تركيا في عام 1939، وقد بلغت قوته 7.9 درجات بمقياس ريختر وأودى بحياة حوالي 33 ألف شخص. كذلك لا يزال عالقاً في الذاكرة زلزال آخر رهيب ومميت، وقع في آب/أغسطس 1999 في مدينة إزميت (شمال غرب تركيا)، بلغت قوته 7.4 درجات على مقياس ريختر، وأثّر على مناطق عدة مجاورة، وأسفر عن مقتل أكثر من 17 ألف شخص. وقتذاك، كنت في مدينة اسطنبول، لكنني تنقلت في أكثر من موقع، بما في ذلك مركز الزلزال، وشهدتُ عن قرب حجم الدمار الذي لحق بالممتلكات، وعايشت المآسي والفواجع التي حلَّت بأبناء وطني. لكن أياً من هذين الزلزالين لم يكن مُؤلماً، مثل الزلزال الأخير، كما يمكن للمرء أن يشعر ويستوعب.

حتى لحظة وقوع زلزال 6 شباط/فبراير 2023، ربما كان هناك من يرغب في رؤية تركيا كدولة قوية، وعلى رأسها رجل قوي اسمه رجب طيب أردوغان. لكن بعد الزلزال، أصبح جميع الأتراك الوطنيين لديهم المشاعر ذاتها، التي يمكن اختصارها بعنوان رواية الإفريقي آلان باتون الشهيرة: إبكِ أيها البلد الحبيب

كان زلزال 6 شباط/فبراير مؤلماً حتى للذين لم يتأثروا به بشكل مباشر. بفضل تكنولوجيا الاتصالات السلكية واللاسلكية المتطورة، ووجود العديد من القنوات التلفزيونية ووسائل التواصل الاجتماعي، استطاع عشرات الملايين من الناس متابعة مشاهد عمليات إنتشال جثث الرُضَّع والأطفال، وفي كثير من الحالات رفعُ عائلات بأكملها من تحت الأنقاض. مشاهد لأقارب ينتظرون بيأس لمعرفة أي شيء عن أحبائهم. آباء وأمهات يحاولون إنقاذ أبنائهم. أطفال يحاولون إنقاذ آبائهم، وسط البرد والثلج، وفي ظل ظروف مناخية قاسية جداً لا يمكن تحملها. كانت أصوات الإستغاثة تتعالى من بين الركام ومن تحت الأنقاض دون أن تلقى مساعدة، فيما الدموع واليأس يسيطران على من كانوا يحاولون أن يحفروا بأيديهم وسط الحطام لعلهم يصلون إلى أحياء أو حتى أموات. العديد من المدن والبلدات والمخيمات سُويت بالأرض وكأنها تعرضت إلى قصف شديد وأعادت إلى الأذهان مشاهد المدن الألمانية في نهاية الحرب العالمية الثانية.

هناك أيضاً مشاهد إنسانية لا مثيل لها، وبينها التضامن المنقطع النظير من نشطاء المجتمع المدني، وبعثات الإنقاذ الأجنبية، والمواطنين البسطاء الذين هرعوا إلى المناطق المنكوبة بكل عفوية للمؤازرة وتقديم يد العون. كل شيء يمكن مشاهدته ومتابعته وقراءته من قبل الملايين عبر العالم دقيقة بدقيقة.

الدولة الغائب الأكبر

لذلك، كان كل شيء مرئياً. وأكثر ما كان ملحوظاً ولافتاً للنظر هو غياب الدولة التركية. لقد تأخرت في أداء دورها وفي الاستجابة لنداءات الإستغاثة.. كانت غير فعَّالة، لا بل كانت شبه مشلولة، ما جعل الناس يشعرون بالإستياء والخيبة، فدولتهم كانت غائبة حيث كان يجب أن تكون الأولى، وتخلفت عن اللحظة التي كانوا فيها بأمس الحاجة إليها أكثر من أي شيء آخر.

رجل تركيا القوي، الرئيس رجب طيب أردوغان، تأخر في الإستجابة لإستغاثة المنكوبين، وكذلك كانت زيارته للمناطق المنكوبة جراء الزلزال. لم يكن أردوغان مُقنعاً في تقييمه العام. فقد اكتفى بالقول إن الكارثة الطبيعية التي وقعت كانت بمشيئة الله، وأن الزلزال “موجود في الخطة السماوية فيما يتعلق بالقدر”. لكنه عندما كان سياسياً معارضاً قال عكس ذلك إبّان الزلزال الرهيب الذي ضرب تركيا في العام 1999. يومها شدّد أردوغان على أن لا علاقة للقدر بالزلزال، وأن المسؤولية تقع على سوء الإدارة والتقدير.

“عصابة الخمسة”

بالنسبة لزلزال 2023، ومن الناحية السياسية، يُعتبر أردوغان المسؤول الأول وبشكل أساسي عن الحصيلة الإجمالية للكارثة من حيث الخسائر التي وقعت في الأرواح والممتلكات. فهو يتولى السلطة منذ 20 عاماً؛ أكثر من أي شخص آخر في تاريخ الجمهورية التركية، حتى أكثر من مؤسس الجمهورية التركية نفسه، كمال أتاتورك.

في برامجه التي وضعها لتعزيز الاقتصاد التركي، ركّز أردوغان على قطاع البناء، وروَّج لمجموعة من المقاولين، أطلق عليهم زعيم المعارضة، كمال كيليجدار أوغلو، اسم “عصابة الخمسة”. فأردوغان منح أفراد “عصابة الخمسة” مشاريع بناء فخمة، بينها مشروع مطار اسطنبول، الذي أصبح ثاني أكبر مطار في العالم. ومشروع الجسور التي بُنيت فوق مضيقي البوسفور والدردنيل، وجسر آخر فوق خليج إزميت فوق بحر مرمرة. وهناك أيضاً مشروع فتح قناة تُسمى “قناة اسطنبول” موازية للبوسفور وتربط البحر الأسود ببحر مرمرة، وذلك على الرغم من التحذيرات القوية من أنه يمكن أن يؤدي إلى زلزال من شأنه أن يُدمّر اسطنبول ويقتل أكثر من مليون شخص. كما وزع أردوغان عدداً كبيراً من العقارات على أفراد من العائلة الحاكمة في قطر، ولم يهتم بالتحذيرات المتعلقة بالزلازل المحتملة التي قد تضرب تركيا.

إقرأ على موقع 180  أحلام شباب لبنان.. بين سارقي الثروة والثورة!

ساد الفساد وسادت المحسوبية طوال فترة حكمه، وفرض نظام حكم الفرد الاستبدادي على البلاد. كما أنه أصدر العديد من قرارات العفو المتعلقة بمشاريع البناء، كان آخرها في العام 2018، واستفاد منها ما يقرب من 230 ألف مبنى تم تشييدها في عشر محافظات ضربها الزلزال الأخير، وقد تهدمت فوق رؤوس الآلاف من قاطنيها من الأبرياء.

البيروقراطية تعطل الإنقاذ

مثل باقي مؤسسات الدولة، يسيطر على “آفاد” (AFAD) الوكالة الحكومية التي تتعامل مع الزلازل، (الاختصار التركي لمديرية الكوارث والمساعدات الطارئة) عددٌ كبيرٌ من الموالين لأردوغان والمقربين منه. كذلك هو حال هيئة الهلال الأحمر التركي، التي كان أداؤها في عمليات الإنقاذ مزرياً وغير فعَّال. تجلت بيروقراطية إدارة الكوارث والطوارئ في أداء الذين عملوا من دون معرفة أو خبرة في الجيوفيزياء والجيولوجيا والهندسة وإدارة الأزمات والكوارث وما إلى ذلك. نعم، لقد أصاب الزلزال وكالة “آفاد” بالشلل.

علاوة على ذلك، إن النظام المركزي في تركيا، الذي يقع تحت حكم الرجل الواحد، قد تعطل وأصيب بخلل عندما استلزم تقديم المساعدة للضحايا قرارات وتنسيق مسبقين من مؤسسة “آفاد” (AFAD). كانت “آفاد” تنتظر تعليمات من أردوغان، لكن أردوغان لم يكن متواجداً في الجوار، وبقي ساعات طويلة لا يعرف ماذا يفعل.

بعد عام 1999، تم فرض ضريبة الزلزال على سكان تركيا؛ بين عامي 2000 و 2022. تم جمع نحو 38.4 مليار دولار. ومع ذلك، لم يتم إنفاقها للغرض الذي جُمعت لأجله. تركيا اليوم في أزمة مالية حادة، وخزائن الدولة فارغة. أردوغان يعتمد على أموال “الأوليغارشية” الروسية، لأن تركيا هي الدولة الوحيدة العضو في حلف “الناتو” التي لا تطبق العقوبات الأميركية-الأوروبية على روسيا. كذلك يعتمد أردوغان على الأموال التي قد تأتي من قطر وأبو ظبي والسعودية من خلال اتفاقيات التبادل التي أبرمها معهم. فقد غيَّر سياسته الخارجية 180 درجة حتى لا يخسر الانتخابات الرئاسية المقبلة تحت وطأة المشاكل الاقتصادية التي هي من صنعه هو.

في شباط/فبراير 2023، انتهى طموح أردوغان بـ”تركيا جديدة”. لقد انتهى حلم إحياء الإمبراطورية التي صاغها “العثمانيون الجُدد”. لم تعد تركيا قوة ناشئة. إن الدولة التي لا تستطيع نجدة شعبها في اللحظات الحرجة ومد يدها له عند الحاجة لأنها مشلولة بالمحسوبية والفساد وعدم الكفاءة، لا يمكن أن تصبح قوة إقليمية أو دولية

أحلام تحت الأنقاض

لكن مع الزلزال، أصبحت جميع حسابات أردوغان تحت الأنقاض. فهو لن يستطيع الفوز إذا كانت الانتخابات ستجري وفق الدستور. فمن الناحية الدستورية، آخر موعد هو 18 حزيران/يونيو 2023. فإذا بقي في السلطة، فلن يتمكن من فعل ذلك إلَّا من خلال أساليب غير دستورية، كالقمع، واللجوء إلى دكتاتورية أكثر وقاحة يمارسها ضد مجتمع يعاني من الصدمة في بلد ضعيف للغاية.

الأهم من ذلك كله، أنه في الذكرى المئوية للجمهورية، في شباط/فبراير 2023، انتهى طموح أردوغان بـ”تركيا جديدة”. لقد انتهى حلم إحياء الإمبراطورية التي صاغها “العثمانيون الجُدد”. لم تعد تركيا قوة ناشئة. إن الدولة التي لا تستطيع نجدة شعبها في اللحظات الحرجة ومد يدها له عند الحاجة لأنها مشلولة بالمحسوبية والفساد وعدم الكفاءة، لا يمكن أن تصبح قوة إقليمية أو دولية. والجيش الذي هدَّد أردوغان جيرانه به، ورفع شعار “نستطيع مهاجمتك فجأة وذات ليلة”، في تهديد مباشر بشن عملية عسكرية على شمال سوريا أو اليونان، بقي في ثكناته. وعلى عكس زلزال عام 1999، لم تتم الإستعانة به في عمليات الإنقاذ.

ومن المفارقات، أن فرق الإنقاذ التي وفدت من اليونان ودول غربية عدة ـ اعتاد أردوغان وحلفاؤه القوميون على شيطنتها منذ فترة طويلة ـ هؤلاء هم من هرعوا لمساعدة ضحايا الزلزال قبل الدولة التركية نفسها. لقد دفن الزلزال سياسة أردوغان الخارجية تحت الأنقاض.

حتى لحظة وقوع زلزال 6 شباط/فبراير 2023، ربما كان هناك من يرغب في رؤية تركيا كدولة قوية، وعلى رأسها رجل قوي اسمه رجب طيب أردوغان. لكن بعد الزلزال، أصبح جميع الأتراك الوطنيين لديهم المشاعر ذاتها، التي يمكن اختصارها بعنوان رواية الإفريقي آلان باتون الشهيرة: إبكِ أيها البلد الحبيب.

Print Friendly, PDF & Email
Free Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  رسالة الكارثة الزلزالية.. حتمية تواصل الأسد وأردوغان