لا يمكن القفز من فوق تزامن الأحداث في العراق ولبنان. سمها ما شئت: ثورة، عامية، إنتفاضة أم فورة. ما يحصل في كلا البلدين وربطا بباقي التطورات في المنطقة، يبعث على السؤال والشك معا. واشنطن تنسحب. وموسكو توفر الغطاء. انقرة تحارب الأكراد ودمشق تفاوضهم. صحيح ان هناك استكانة لنظرية المؤامرة عند العقل العربي امام الأحداث. فالمؤامرة حقيقة الا أن الاستكانة لها من دون تفكير أخطر من المؤامرة نفسها.
السؤال هو الآتي: كيف سيكون شكل السلطة في العراق ولبنان؟ وهل ستكون هذه الدول أقرب الى الاستقرار ام الى الفوضى؟
الشك يختصره الآتي: لماذا إستفاق “المشروع الثوري” مرة ثانية في المشرق العربي اليوم وقبله في الجزائر والسودان؟ ولماذا كان تحرك الشعبين اللبناني والعراقي متواضعاً في العام 2011م حين انتشرت نار البوعزيزي في الهشيم العربي؟
في مطلع العام 2011م، وعلى وهج الثورات في تونس ومصر وليبيا، شهدت بيروت سلسلة تحركات توجت بتظاهرة حاشدة في آذار/مارس، بعنوان “فليسقط النظام الطائفي”. أما في العراق، فقد شكل عيد الحب (14 شباط/فبراير) في العام 2011م، شرارة حراك شعبي دام ثلاثة أشهر، وسقط خلاله عشرات الضحايا في معظم المحافظات العراقية.
كانت بيروت في تلك اللحظة أسيرة الإنقلاب بعد نحو سنة من إنتخابات نيابية أعطت الأكثرية لفريق 14 آذار/مارس. تمت الإطاحة بسعد الحريري والإتيان بنجيب ميقاتي رئيسا للحكومة، بدعم واضح من حلفاء إيران. كانت بيروت خائفة من تمدد النيران السورية إليها.
بغداد لم تكن بأفضل حال من بيروت. خرجت من إنتخابات نيابية محتدمة أفرزت أيضاً أقلية وأكثرية. وقتذاك، تمنى الملك عبدالله بن عبد العزيز على الرئيس بشار الأسد، الإلتزام بمندرجات صفقة “السين سين” (السعودية ـ السورية). حليفها سعد الحريري رئيسا لحكومة لبنان وإياد علاوي حليفها أيضاً رئيسا لحكومة العراق. أحبط الإيرانيون آمال الأسد بتمسكهم بنجيب ميقاتي في بيروت ونوري المالكي في بغداد. قالوها بالفم الملآن: أهل مكة أدرى بشعابها. ما لم يدري به أحد أن أحداث سوريا، شكلت مدخلا لإنتاج نظام إقليمي جديد، بمعزل عن معادلة الرابح والخاسر. الموقع الجيوسياسي لسوريا في قلب الجبهة الشرقية وعند نقطة إلتقاء أوراسية حساسة، فضلا عن الموقع الإقتصادي (تقاطع خطوط التبادل والتجارة وأنابيب النفط)، جعلها ساحة حرب عالمية بكل معنى الكلمة.
أذكر أن سياسياً لبنانيا عارفاً، سألني في ربيع العام 2011م “ماذا لو نجح الأسد بتسويق الحريري في لبنان وعلاوي في بغداد، هل كان “نجاحه” سيطيح به (الأسد) في الأشهر الأولى للحرب السورية”؟
كلما شهدنا نوعا من فقدان التوازن بين الشارع والسلطة، في العراق ولبنان، نشهد اعادة رسم لخريطة الشرق الأوسط
أسرد هذه الوقائع للقول أن الشرق الأوسط عبارة عن لعبة أوان مستطرقة. في العام 2011م، ساد الاستقرار النسبي كلا من العراق ولبنان في ظل النفوذ الإيراني المتحكم بعاصمتي البلدين بيروت وبغداد، بعكس الدول العربية الأخرى كمصر وتونس وليبيا والبحرين واليمن التي صدت التمدد الإيراني، فكانت عرضة للثورات والثورات المضادة، ولا تزال حتى يومنا هذا.
ما يثير التساؤل والشك ايضا انه كلما شهدنا نوعا من فقدان التوازن بين الشارع والسلطة، في العراق ولبنان، نشهد اعادة رسم لخريطة الشرق الأوسط.
ففي العام 1990م نشبت حرب دولية في الخليج حين احتل العراق الكويت. في حين اشعلت فصول جديدة من الحروب الأهلية اللبنانية (حرب التحرير ثم حرب الإلغاء). كلا البلدين استقطبا التدخل الخارجي والتسليح، ما نتج عنه تداعيات تخطت حدود شكل السلطة في البلدين، الى حدود شكل الخريطة العربية (ولادة الطائف في لبنان وسقوط حكم البعث وتحكم حزب الدعوة بالسلطة في بغداد).
أُخرج صدام حسين من قصر دسمان في الكويت واخرج بعدها ميشال عون من قصر بعبدا في لبنان. الأول، بقوات العم سام متحالفة مع حاكم الشام حافظ الأسد، والثاني بقوات حاكم الشام بضوء أخضر أميركي من بلاد العم سام. بعدها، ذهب جورج بوش الأب يرسم المنطقة وحيدا بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، وبدأت ترتسم معالم مرحلة إقليمية جديدة.
آنذاك، استولد الرئيس الأميركي نظاما عربيا جديدا، أو شرقا أوسطيا جديدا. يدعو فيه الى السلام مع إسرائيل من فوق الطاولة. والى تكريس مبادئ مضادة لمفاهيم الاستقلال والسيادة من تحت الطاولة. فكرس الوصاية السورية في لبنان واعتمد الاحتواء المزدوج لإيران والعراق (وهي مزيج من الحصار العسكري والتجاري لكلا البلدين). وليس مصادفة انه عندما خلعت البوابتان الشرقية والغربية للعرب، لملم العالم مصالحهم في اتفاق واحتواء. اتفاق الطائف وسياسة الاحتواء المزدوج لطهران وبغداد.
الخلاصة تشي أنه إذا كان العراق البوابة الشرقية للعرب، فلبنان هو البوابة الغربية له. وانه لا بد وأن يكشف السياسي “سي السيد” عن هويته (بالمناسبة، أحمد عبد الجواد أو “سي السيد”، كما تناديه زوجته “أمينة”، السيدة المصرية الخاضعة لزوجها المتزمت، هما بطلا ثلاثية الكاتب نجيب محفوظ الروائية: بين القصرين، قصر الشوق والسكرية). ولا بد لأمينة (الشعب) السيدة المضحية، أن تتابع النضال من أجل عالم أفضل لأبنائها. وعلى أمل أن يعم الاستقرار بين القصرين في المشرق العربي: قصر بعبدا اللبناني في المنطقة الخضراء المحيطة بمقر وزارة الدفاع وقيادة الجيش في اليرزة وبعبدا.. وقصر رئاسة الحكومة العراقية في المنطقة الخضراء الأكثر تحصينا بالأمن وبمقر قيادة الجيش ووزارة الدفاع والسفارة الأميركية في وسط بغداد.
إذا أردنا أن نعرف ماذا يجري في بيروت، علينا أن ننتظر جلاء المشهد العراقي والعكس صحيح.
(*) كاتب سعودي