الحب في عيده.. القلب يعشق كل جميل

كسا اللون الأحمر الفاقع واجهات المحلات فى المحروسة احتفالًا بالڤالانتاين، وأخذت الدببة الحمراء وضعها على نواصى الشوارع الرئيسية، وبحكم ميل المصريين للتجويد كان لا بأس من إضافة لمساتهم الخاصة كما فى جعل الدب المصنوع من القطيفة الحمراء يدخّن الشيشة متربّعًا على كرسيه الوثير، فى مزج بين الأصالة والمعاصرة!

استحضرَت النساء الجملة اللطيفة التى قالتها هند صبرى لزوجها خالد صالح فى فيلم أحلى الأوقات «أنا عاوزة ورد يا ابراهيم» احتفالًا بمناسبة عيد الحب.. فلكل امرأة بيننا إبراهيم تريده أن يهديها وردًا حلوًا فى الڤالانتاين، أما وسائل التواصل الاجتماعى فانخرطَت كالعادة فى مناقشة السؤال العويص: هل يجوز الاحتفال بالڤالانتاين أم لا يجوز، وهذا كان هو المشهد فى صباح يوم ١٤ فبراير/شباط.

على المستوى الشخصى، وجدت هذا اليوم مناسبة لمناقشة ظاهرة يشغلنى التفكير فيها منذ فترة طويلة، وهذه الظاهرة هى التغيّر فى استخدام لفظ الحب. على أيامنا كان التنادى بصفة «حبيبي» و«حبيبتى» يُستخدم بين اثنين تجمعهما علاقة حميمة أو ذكريات حلوة أو صداقة طفولة أو عِشرة قديمة تبرر الشعور بالحب فى الاتجاهين، بل إنه حتى عندما كانت تتوفّر الظروف التى تبرر استخدام هذا اللفظ كان هناك اقتصاد وتروٍ فى استخدامه، ومَن منّا لا يذكر الحوار الشهير الذى يعّد من كلاسيكيات سينما الأبيض والأسود عندما كانت الزوجة تعاتب زوجها على جفاف مشاعره تجاهها فكان يرّد عليها بجملة من نوع «يا نوال إنتِ محسودة على اللى انتِ فيه زى ما انتِ كده» أو «الحب مش بالكلام يا آمال.. الحب بالتصرفات» وكأن على الزوجة أن تختار بين الاهتمام بها وتوفير حياة كريمة لها ولأولادها. كان للفظ وضعه ومكانه وقيمته، فالحب هو أسمى المشاعر الإنسانية، كان غير مبتذَل.. جدّه جدّ وهزله هزل، وفى هذا الإطار كان الخواجة بيچو عندما يفيض به الكيل من أكاذيب الدكتور شديد- أبو لمعة فى برنامج “ساعة لقلبك” يصيح فيه بنفاد صبر «يا خبيبى إزاى أخوك ينزل منك تحت خط الاستواء»!. كانت أيام. أما الذى يتابع حركة مفهوم «حبيبي/حبيبتي» والتعبير عن الحب على مدار السنوات العشر الأخيرة فإنه يلحظ التغيّر الذى أصاب المفهوم والتعبير عنه- فى اتجاهين.

من باب اسألوا أهل الذكر- سألتُ شيخًا أزهريًا ذائع الصيت: يا مولانا لماذا يستخدم بعض شباب هذه الأيام تعبير أحبك فى الله؟ ردّ بابتسامة :حتى لا يساء فهمهم! ولم يقنعنى الرد، فكل كلام الدنيا يمكن حمله على أكثر من وجه ويمكن اقتطاعه وفهمه خارج سياقه، فلماذا نخترع المشكلة ونستخدم لفظ الحب ثم نبحث عن طريقة لحل مشكلة استخدامه؟

***

اتجاه يُفرط إفراطًا شديدًا فى استخدام وصف حبيبى/حبيبتى ليس فقط دون سابق مشاعر وذكريات وصداقة وودّ ومبرر بل حتى دون سابق معرفة أصلًا. أذهب لشراء أى شيء من سوبر ماركت على الطريق فتنادينى بائعة ترانى لأول مرة فى حياتها بـ«حبيبتى»، هل أنا حقًا حبيبتها؟ هذا السؤال سأله من قبل نزار قبّانى فى قصيدته البديعة «ماذا أقول له؟» لكن شتّان الفارق بين الحالتين، فاستخدام نزار السؤال أتى فى سياقه الشعورى المناسب بين حبيبين، أما سؤالى أنا فهو خارج السياق لأنه لا وجود لعلاقة الحب أصلًا. عمومًا فإن عاملة السوبر ماركت ليست هى الإنسانة الوحيدة التى تستهلك لفظ حبيبتي/حبيبى فمعظم مَن نتعامل معهم يستخدمونه عمّال على بطّال كما يقولون.

وبرغم أننى لست متأكدة بالضبط مما سأقول لكنى سأغامر بطرحه؛ ففى فترة من الفترات كان المصريون يتنادون في ما بينهم بالمهن كأن يقال لكل صاحب حرفة يدوية يا باش مهندس. الآن ألحظ تواريًا لهذا الاتجاه: حلّ حبيبى محّل باش مهندس برغم أنه لا علاقة بين الاثنين ولا يحّل أحد الندائين محّل الآخر، لكن هذا على الأقل ما ألحظه.

ألاحظ أيضًا لكن فى حدود أضيق الإكثار من استخدام فعل «عشق» فى التعبير عن الإعجاب بشيء ما، كأن يقال إننا نعشق صوت فلان أو الطعام الفلانى أو الألوان الفلانية، وكان قديمًا مفهوم العشق محجوزا لعلاقة يبلغ فيها الحب منتهاه، فرابعة العدوية هى شهيدة العشق الإلهي، وسيد درويش يتغنّى بكلمات يونس القاضى فيقول «أنا عشقت وشفت غيرى كتير عشق.. عمرى ما شفت المرّ إلا فى هواك»، ومع أن بيرم التونسى توسّع فى استخدام مفهوم العشق عندما كتب رائعته «القلب يعشق كل جميل.. وياما شفتِ جمال يا عين» إلا أنه استدرك قائلًا «واللى صدق فى الحب قليل.. وان دام يدوم يوم ولا يومين، واللى هويته اليوم دايم وصاله دوم»، وهذا يجعل بيرم أقرب لربط العشق بالحب الربّانى كما فى حالة رابعة العدوية، وحول هذا العشق الصوفى لرابعة ألّف الدكتور عبد الرحمن بدوى كتابًا جميلًا يحمل اسمها. إذن صرنا نفرط فى استخدام وصف الحبيب وفى التعبير عن العشق، ومن الغريب أن يحدث ذلك فى وقت تزيد فيه معدلات العنف المجتمعى ومظاهر الاحتقان فى الشارع المصرى بشكل لا يمكن أن تخطئه عين وبنِسب تتجاوز كل سابقاتها، فكيف يستقيم الحب مع انتشار العنف وكيف للحب أن يتعايش مع الاحتقان؟ يحدث هذا.

إقرأ على موقع 180  مشكلة نهر النيل مع أثيوبيا.. تاريخية

***

الاتجاه الثانى على العكس من سابقه يخشى الإفصاح عن الحب ويتهيّب من الانحراف باستقبال مشاعره إن هو أفصح عنها إلى غير ما يقصد وتحميلها فوق ما تحتمل، وبالتالى نجد أصحاب هذا الاتجاه يتحوّطون دائمًا من خلال وضع مشاعرهم فى قالب دينى بترديد تلك الجملة المستجدّة علينا ضمن مستجدّات أخرى كثيرة: يا فلان/فلانة أنا باحبك فى الله بفتح الباء وكسرها. عندما تفاجئنى إحدى طالباتى بأنها تحبنى فى الله لا أدرى بماذا أرد عليها بالضبط، هل أقول لها وأنا أيضًا أحبك مثلما أحب كل طلّابى أم أقول لها وأنا أيضًا أحبك فى الله. هى تقصد أنها تحبنى بدون مصلحة وفى غير معصية الله، لكن مَن الذى قال إنها حين تعبَر لى عن حبها فى الله سوف أثق بالضرورة فى أنها تحبنى بدون مصلحة وفى غير معصية؟

مع أن بيرم التونسى توسّع فى استخدام مفهوم العشق عندما كتب رائعته «القلب يعشق كل جميل.. وياما شفتِ جمال يا عين» إلا أنه استدرك قائلًا «واللى صدق فى الحب قليل.. وان دام يدوم يوم ولا يومين، واللى هويته اليوم دايم وصاله دوم»، وهذا يجعل بيرم أقرب لربط العشق بالحب الربّانى كما فى حالة رابعة العدوية

لقد تعوّدنا فى دراسة المنطق أن تعميم الأحكام خاطئ لذلك أكتفى هنا بالقول إن كثيرًا ممن يتكلمون عن الدين قد لا يلتزمون به فى تعاملاتهم اليومية. ثم إن تعبير أحبك فى الله هو تعبير يدخل الله سبحانه وتعالى فى علاقة بشرية خالصة، والعلاقات البشرية فيها من الأخطاء بقدر ما فى البشر أنفسهم من أخطاء. ولذلك ومن باب اسألوا أهل الذكر- سألتُ شيخًا أزهريًا ذائع الصيت: يا مولانا لماذا يستخدم بعض شباب هذه الأيام تعبير أحبك فى الله؟ ردّ بابتسامة :حتى لا يساء فهمهم! ولم يقنعنى الرد، فكل كلام الدنيا يمكن حمله على أكثر من وجه ويمكن اقتطاعه وفهمه خارج سياقه، فلماذا نخترع المشكلة ونستخدم لفظ الحب ثم نبحث عن طريقة لحل مشكلة استخدامه؟

إن الأشخاص الذين يتحسسون من لفظ الحب ويخشون سوء الفهم بوسعهم أن يستخدموا عشرات الألفاظ الأخرى البديلة التى لا تثير «المشاكل» بالنسبة لهم، كأن نقول مثلًا لمن نحبه إنه غالٍ علينا أو عزيز على أنفسنا أو إننا نقدرّه أو إن له مكانة كبيرة فى قلوبنا.. إلخ وليس أكثر غنى من لغتنا الجميلة. نلاحظ هنا أننا لو وسّعنا الموضوع وتساءلنا كيف سيتعامل الذين يقولون أحبك فى الله مع المختلفين عنهم فى الدين والمذهب للتعبير عن مشاعرهم الطيبة تجاههم- فإن الأمر سيتعقّد أكثر، لذلك فإن ألفاظ المعزّة والتقدير ربما تنقذهم وترفع عنهم الحرج.

***

فى مناسبة عيد الحب نحتاج ونحن نحتفل بالقلوب والدباديب والورود الحمراء- أن نتأمل بيننا وبين أنفسنا فى معنى الحب وفيما إذا كان الذين نقول لهم إننا نحبهم.. نحبهم فعلًا، كما نحتاج أيضًا أن نعيد التفكير فى مفردات تعبيرنا عن الحب الحقيقى ونحرر هذا التعبير من أوهامنا والهواجس التى تسكننا، كل سنة ونحن نحّب ونحّب بكسر الباء وفتحها.

(*) بالتزامن مع “الشروق

Print Friendly, PDF & Email
نيفين مسعد

كاتبة مصرية

Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  ما بين السياسي والرياضي.. مونديال 2022 نموذجاً