ليست المرة الأولى التي يتوارى فيها مقتدى الصدر ويغيب عن الأضواء، لكنها المرة الأولى التي يشعر فيها تياره الكبير بهزّة في كبريائه إلى هذا الحد، مما جعل الغضب يعتري كافة أوساطه.
بعد إخفاق هذا التيار بتشكيل حكومة أغلبية مع حلفائه السنّة والكرد، مستندًا على فوزه بأغلبية المقاعد النيابية المخصصة للطائفة الشيعية، ونزاعه مع خصومه من نفس المذهب، اعتزل زعيمه مقتدى الصدر العمل السياسي مكرهًا.
وبعد غيابه التام طيلة الفترة الماضية، جمّد الصدر تياره لمدة سنة، بدءًا من 14 نيسان/أبريل، وأغلق مكتبه وأبواب مرقد والده، وأوقف حسابه على موقع “تويتر”.
تبدأ “المظلمة” التي يعيش الصدريون تحت وطأتها حالياً مما جرى لهم في المنطقة الخضراء يومي 29 – 30 أيلول/سبتمبر الماضي.
لم ينفك “سيد فلاح” عن ضرب الطاولة الخشبية التي أمامنا، وهو يستعيد ما جرى له ولرفاقه مساء 28 أيلول/سبتمبر 2022 في المنطقة الخضراء وسط بغداد.
فلاح (40 عاماً) مقاتلٌ في صفوف “جيش المهدي”، الذي أسسه الصدر عام 2003، لمقاتلة القوات الأميركية، ثم شارك في المعارك الداخلية بين عامي 2006 – 2008.
وكثيراً ما شوهد هذا الرجل المعروف في منطقة حي العامل جنوب غرب بغداد وهو يحمل بندقيته ذاهباً أو عائداً من معركة خلال تلك السنوات. الفقر بادٍ عليه، وهو يسكن في بناء قديم ملحق بمدرسة يتولّى حراستها.
كان مطلوباً للقوات الأميركية التي داهمت منزله أكثر من مرة، وقبضت عليه في إحداها، وأُصيبت ابنتاه بالخرس بسبب الرعب، كما يقول هو، وقد تنقّل بين سجون عدة لمدة سنة، ثم أُطلق سراحه.
وهو يؤذن للصلاة في مكتب فرعي للصدر في 30 تموز/يوليو 2022، سمع “سيد فلاح” دعوة التيار الصدري للاعتصام داخل المنطقة الخضراء، عندما تم ترشيح محمد شياع السوداني لرئاسة الوزراء، مرشح الإطار التنسيقي، وهو الذي يعتبره الصدريون ظلًّا لخصمهم اللدود نوري المالكي.
جاء ذلك بعدما استقالت الكتلة الصدرية الفائزة بـ73 مقعداً برلمانياً في انتخابات تشرين الأول/أكتوبر 2021، لعدم تمكنها من تشكيل حكومة أغلبية مع حلفائها السنّة والكرد، بسبب المعارضة القوية التي أبدتها القوى الشيعية الأخرى، وأصبحت هي بدورها الكتلة الأكبر بعد استقالة النواب الصدريين.
منذ الساعة الأولى للاعتصام، كان فلاح موجوداً في المنطقة الخضراء، يردد الهتافات وسط الحشود، وقد استمرّ ذلك حتى 28 أيلول/سبتمبر، عندما أعلن المرجع الديني كاظم الحائري اعتزال المرجعية بسبب المرض والتقدم في العمر.
اعتبر التيار الصدري هذه الخطوة ضربة مدروسة له، فالحائري هو مرجعهم بعد المؤسس محمد محمد صادق الصدر، والد مقتدى الصدر، وقد أوصى بالرجوع إليه بعد وفاته.
ودعا آية الله المقيم في إيران مقلّديه إلى اتّباع القائد الأعلى الإيراني آية الله علي خامنئي، حيث اعتبره “الأجدر والأكفأ لقيادة الأمة”، في حين لا يعترف الصدريون بمبدأ ولاية الفقيه ويرفضون نفوذ إيران في العراق.
وشكك الحائري بشرعية قيادة مقتدى الصدر، باعتباره لم يبلغ درجة الاجتهاد في الفقه، وألمح إلى أنه ابتعد عن “نهج الشهيدين الصدريين (محمد باقر ومحمد صادق)”، واتهمه ضمنًا بالسعي لتفريق المذهب الشيعي باسم هذين الشهيدين.
وردّ الصدر على ذلك من خلال تدوينة على “تويتر”، جاء فيها أنه يتصوّر أنّ “اعتزال المرجع لم يكن بمحض إرادته”، ملمّحًا بذلك إلى إيران، معلنًا اعتزال السياسة بشكل نهائي.
اعترى الغضب أنصار الصدر والمعتصمين، فاقتحموا القصر الحكومي صباح 29 أيلول/سبتمبر، ثم أخرجتهم القوات العراقية، منها بدعم من الحشد الشعبي.
يروي “سيد فلاح” إنهم تعرّضوا لـ”إعدامات ميدانية” تشبه ما حصل في سبايكر عام 2014 على يد تنظيم “داعش”.
بعد هذه الأحداث خرج الصدر في مؤتمر صحفي وقد بدا عليه الغضب، واصفًا أعمال المحتجين بـ”بئس الثورة”، مضيفًا أنّ “القاتل والمقتول في النار”، ثم أمهل أنصاره ساعة للانسحاب من ساحة الاعتصام.
وغاب الصدر عن الواجهة، حتى ظهر مستقبلًا المنتخب العراقي الفائز بكأس الخليج في منزله مساء 23 كانون الثاني/يناير الماضي.
حذار الحرب الأهلية
على مقربة من المنطقة الخضراء، يقع مكتب أوس الخفاجي، عالم الدين الذي تتلمذ على يد محمد محمد صادق الصدر، وكان أحد أبرز مساعدي مقتدى الصدر ومتحدّثًا باسمه.
شارك الخفاجي بتأسيس جيش المهدي، وكان إمام جمعة الصدريين في ذي قار، قبل أن يستقل عنهم بعد دخولهم العملية السياسية قبل سنوات.
بدا الخفاجي حاسر الرأس عند باب مكتبه الذي داهمه أمن الحشد الشعبي في شباط/ فبراير 2019، واحتجزه لأيام، ثم أطلق سراحه بعد تدخل قوي من عشيرته. قال ومسبحته تنسدل من يده إنّ “الإطار (التنسيقي) لم يأبه للدماء التي سالت”. وأضاف: “حتى رئيس الحكومة المرشح وقتها، لم يعزّي بالشهداء الذين سقطوا، وإنما ذهب لعزاء قتلى الإطاريين”، وأشار إلى أنّ “عناد القوى الشيعية الحاكمة مستمر حتى اليوم، وينذر بحرب أهلية بين الشيعة في حال استمراره”.
الجميع خذلنا
اعتاد الصدريون على لغة إشارات محملة بالرموز يعتمدها زعيمهم، فعندما يكتب “أسألكم الفاتحة والدعاء”، فهو يشعر بخطر على حياته.
وإذا زار ضريح والده “فهذا يعني أنه يحمل شكوى على التيار ذاته”، وفق ما يشرح محمد، بينما تُفهم زيارته لمرقد الإمام علي بن أبي طالب في غير الأوقات المعتادة للزيارة على أنه مقبل على خطوة غير عادية”.
بعد اعتزاله السياسة، ركّز مقتدى الصدر على المسائل العقائدية في تدويناته.
اتضح الأسى أكثر في نبرة محمد الموسوي وهو يقول إن “بعض الصدريين باتوا لا يهتمّون بتغريدات السيّد على تويتر ما دامت خالية من السياسة”.
الانسحاب كان صحيحاً
نادى مقتدى الصدر بمكافحة الفساد والنفوذ الأجنبي، ووقف المحاصصة في تقاسم المناصب، وحلّ الفصائل المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، مما أثار خشية خصومه من حكومة الأغلبية التي يسعى لها.
إضافة للمسائل السياسية، كان على الحكومة الجديدة أن تتعامل مع قضية سعر صرف الدينار أمام الدولار، التي أربكت الأسواق المحلية، وأدت لارتفاع أسعار السلع بعد ما فرضت الولايات المتحدة قيودًا على وصول المصارف العراقية إلى عملتها.
كان واضحاً لدى الصدريين أنّ الأطراف الشيعية المعزولة، حال تشكيل حكومة الأغلبية، لن تبقى ساكتة، وتوقعوا منها تحريك الشارع واستخدام وسائل الإعلام لإثارة القضايا المعيشية ونقص الخدمات وتفشي الفساد.
كما أدركوا أن أي محاولة لنزع سلاح الفصائل تعني الحرب، لأنّ جميع هذه الفصائل تؤكد أنها لن تسلّم سلاحها.
وتطرق جميع من التقيناهم إلى قضية سعر صرف الدولار أمام الدينار، وأكدوا أنّ التيار الصدري كان سيضطر للتفاوض مع واشنطن بشأن هذه القضية، و”تقديم تنازلات”، وهو ما يرفضه الصدر.
وأشاروا إلى زيارة وفد حكومي لواشنطن في شباط/فبراير الماضي، لإقناع الإدارة الأميركية بتخفيف الإجراءات المتعلّقة في العراق “من دون نتائج واضحة، وكذلك تجوّل السفيرة الأميركية آلينارو مانوسكي في أروقة الوزارات العراقية”.
وهو يتحدث إلينا، تذكر أوس الخفاجي السنوات الأولى لتأسيس التيار الصدري: “كنت من الأوائل مع سماحته (مقتدى الصدر)، وكنت أرى أنّ القرب من القواعد الجماهيرية والابتعاد عن السياسة هو الأولى”.
وأكمل: “كمعمم أو مواطن، أنا جهة رقابية. الجماهير الصدرية بهذا الحجم إذا مارست الرقابة فستنجح. السيد محمد الصدر مارس المعارضة البنّاءة وليس الهدّامة، ولم يكن لديه طرف سياسي، ولم يشترك في حكم أبدًا”. وتمنى الخفاجي أن يستمرّ اعتزال الصدر للسياسة، مثلما تمنّى “لو أنً التيار بقيَ على قواعده الشعبية المراقبة”.
الصدر سيعود
يجزم الصدريون بأنّ زعيمهم سيعود مرة أخرى للسياسة.
“لن يسكت أمام الظلم والفساد” كما يقول مرتضى البهادلي، مضيفًا: “السيد قال سابقًا إنّ العراق عراق آبائه وأجداده، وهو يراه عاصمة الإمام المهدي ويجب الحفاظ عليه. عندما يرى الظلم والفساد والاضطهاد وتدنّي سمعة الوطن بين بقية البلدان فلا بدّ أن يتدخّل”.
في الأزمة الأخيرة وقبلها، لوّح التيار الصدري والصدر شخصيًا بإنهاء تجميد جيش المهدي.
وبينما يُعتقد على نطاق واسع بأنّ هذا الجيش المجمّد منذ 2007 قد اضمحّل وتلاشى، يرد البهادلي على هذا الأمر بالقول “إنّ جيش المهدي موجود، وهو بعدّته وعدده ينتظر أي أمر يصدره مقتدى الصدر، وخلال ساعة ستجد تشكيلًا منقطع النظير”.
(*) يُمكن مراجعة النص الكامل لهذا التحقيق على موقع “جاده إيران“.