دلَ تاريخ الحروب والصراعات اللبنانية على أن صاعق التفجير الأساسي عادةً ما يكون العنصر الخارجي بسبب الاصطفافات اللبنانية السياسية أو العقائدية أو الهوياتية مع هذا القطب الخارجي أو ذاك. ساهمت في ذلك دائما الجغرافيا السياسية للبنان وأهمية أو جاذبية ذلك الموقع في «لعبة الأمم» الإقليمية والدولية. وسهّل ذلك هشاشة الاجتماع اللبناني بانقساماته العامودية التى شجّعت أو دفعت نحو تلك الاصطفافات. فلبنان بتركيبته يجذب ويسهّل تلك الاصطفافات مع الخارج الإقليمى. البعض كان يرى فى لبنان “هونغ كونغ” أو “سويسرا الشرق الأوسط” والبعض الآخر كان لبنان له بمثابة «هانوي» لجميع أنواع الثورات أيا كانت عناوينها. تتغيّر الأطراف والعناوين في الخارج والداخل وتبقى اللعبة اللبنانية هى ذاتها.
لبنان اليوم إذا استمرت الأمور على ما هي عليه من جمود وتأزم سياسى قاتم على صعيد إنتاج حكومة تحمل رؤية شمولية والتزاماً فعلياً بالإصلاح الهيكلي الشامل، على طريق الانهيار أو الانفجار الاجتماعي مع ما يحمله ذلك من تداعيات جسيمة تطال الجميع.
يستدعي ذلك كما يدعو البعض إلى تحييد عملية الإنقاذ الاقتصادي قدر الإمكان من السياسات أو الخيارات الكبرى أو لعبة الاصطفاف مع الخارج وهذا رهان ليس بالسهل: فإنقاذ المركب اللبناني من الغرق، كما أشرنا في مقالة سابقة، أمر أكثر من ضروري للجميع والوقت لا يعمل لصالح الإنقاذ، بل تزداد التكلفة والصعوبات كل يوم يمضي. لكن حماية ومواكبة وتحصين عملية الإنقاذ الوطني التى لم تنطلق بعد تبقى بانتظار بلورة «ثلاثية» خطة العمل وخريطة الطريق والجدول الزمني التى يفترض أن تحملها وتلتزم بها كليا الحكومة المنتظر تشكيلها، تبقى رهينة لدرجة كبيرة للعبة الشطرنج الإقليمية ورهان الأطراف اللبنانية عليها من مواقع مختلفة.
إذا أردنا فعلا إنقاذ لبنان من أن يبقى أسيرا دائما للصراعات والمواجهات بجميع أشكالها فى المنطقة. فعدم بلورة هذا الدور (الحياد الإيجابي الناشط) لن يسمح بالفعل بإعادة بناء الوطن والتغلّب على التحدّيات التي نواجهها
يستدعي ذلك كله أن نفكّر جميعا في كيفية صياغة سياسة لبنانية خارجية تقوم على ما يعرف بالحياد الإيجابى الناشط: لبنان بالطبع لا يمكن أن يكون دولة محايدة بالمفهوم القانوني الدولي، حسب نموذج الحياد السويسري مثلا. لبنان دولة عربية من الدول المؤسسة لجامعة الدول العربية وعليه بالطبع الالتزام بالثوابت العربية وبالأخص في إطار النزاع العربي الإسرائيلي ولو ضعفت أو اهتزت هذه الثوابت في لحظة معينة. فلا يمكن للبنان الخروج عنها ولكن لا يعني ذلك بالطبع أن يتحمّل لبنان وحيدا كما جرت العادة وزر أن يكون “هانوي الثورة” حتى لو تغيرت الشعارات بين مرحلة وأخرى.
يستدعي ذلك كله التوجه نحو بلورة أسس وقواعد لسياسة لبنانية تقوم بالفعل وليس على مستوى الخطاب الرسمى، على مفهوم الحياد الإيجابى الناشط. فلا يجوز أن يبقى لبنان ورقة أو حجر شطرنج في صراعات إقليمية أيا كانت العناوين التى تحملها تلك الصراعات: من هذه الأسس والقواعد التى يفترض تكريسها، ورغم صعوبة ذلك، العمل على تعزيز مفهوم عدم التدخل فى شؤون الآخر وعدم التحدث «فوق رأس» سلطات دول أخرى باسم مواقف سياسية أيديولوجية أو غيرها وكذلك الاحترام الفعلي وتعزيز القواعد السياسية لتسوية الخلافات بين الدول والعمل بموجبها. المطلوب أن نبلور هذه المفاهيم لنؤسس لسياسة من هذا النوع تلتزم بها جميع المكونات السياسية الوطنية وهي فى نهاية الأمر لمصلحة الجميع رغم استفادة هذا الطرف أو ذاك من غيابها في لحظة معينة.
ولأن لبنان هو الدولة الأكثر تأثرا بالتطورات والتوترات الإقليمية فله مصلحة أكيدة في أن يساهم مباشرة أو مع آخرين في المنطقة، وأحيانا بدور استباقي إذا أمكن، بلعب دور الإطفائي فى المنطقة. وقد يرى البعض أن ذلك بمثابة أمر مثالي وهو في حقيقة الأمر ليس بالشيء السهل. ولكن من منظور جد واقعي يبقى هذا الدور أكثر من ضروري إذا أردنا فعلا إنقاذ لبنان من أن يبقى أسيرا دائما للصراعات والمواجهات بجميع أشكالها في المنطقة. فعدم بلورة هذا الدور لن يسمح بالفعل بإعادة بناء الوطن والتغلّب على التحدّيات التي نواجهها على جميع الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية وهى بالطبع تحديات مترابطة ومتداخلة ومتكاملة.
إن إطلاق عملية الإصلاح الاقتصادي الشامل اليوم أمر أكثر من ضروري ولكنه يبقى غير كاف إذا لم يتم تحصينه من خلال مواكبته بالعمل على بلورة سياسة حياد إيجابي ناشط حتى لا يبقى لبنان أسيرا دائما لصراعات نشارك فيها جميعا بأشكال مختلفة وندفع ثمنها فى الاجتماع والاقتصاد والأمن والسياسة.
(*) بالتزامن مع “الشروق“