“دقلو”.. راعي الابل الذي صار جبلاً من ذهب!

محمد حمدان دقلو، أو "حميدتي" أي (المحبب) وهو لقبه المفضل. عمره دون الخمسين بسنتين، لكنه عمر بحيوات كثيرة: المتشرد، راعي الإبل، تاجر الماشية، المُهرّب، المقاتل، قائد الميليشيا المخيفة، الجنرال، السياسي، الثري، نائب الرئيس، والطامح الآن للقب الرئيس صاحب الثروة الخيالية، أو في أسوأ الأحوال أن يضيف إلى حيواته حياة المعتقل السياسي أو ربما "الشهيد"!

لم يتعلم “حميدتي” في المدرسة سوى حفظ القرآن. لكن الحياة علّمته الكثير الكثير. ففي عمر المراهقة، قاد مجموعة من الصبية مهمتها حماية قوافل المهربين وتجار الإبل والأقمشة، وما لبث أن صار تاجراً دائم التنقل بين مصر وليبيا وتشاد التي حضنته لفترة صبياً هارباً من الجفاف في مسقط رأسه دارفور، وتطورت مجموعته الصغيرة وصارت ميليشيا مسلحة ينفق عليها من ثروته الكبيرة التي جمعها من التجارة وحماية القوافل والتهريب.

كبُر الصبي وكبرت “مجموعته” حتى جذبت أنظار صُنّاع القرار في الخرطوم. كانت حكومة الرئيس المخلوع عمر حسن البشير في أمس الحاجة إلى حشد القبائل خلف “الجنجويد” في مواجهة حركات التمرد في دارفور، فوجدت ضالتها في “حميدتي”. رجلٌ ينتمي إلى عشيرة الماهرية أحد بطون قبيلة الرزيقات العربية خصوم القبائل الافريقية لا سيما الفور والمساليت والزغاوة الذين يعملون بالزراعة ويقيمون في القرى والمدن، ما يُعرّضهم لغزوات قبائل البدو الرحل العربية. هو أيضاً ابن عم موسى هلال، زعيم عشيرة المحاميد، أحد فروع قبيلة الرزيقات وزعيم “الجنجويد”، قبل أن ينقلب عليه “حميدتي” ويُطيحه ويجرّه إلى المحاكم بتهم ارتكاب جرائم الحرب ويُجرّده من منجم للذهب.

***

لا يوجد تفسير متفق عليه لكلمة “الجنجويد”، وقد جعلها البعض إسماً منحوتاً من عبارة “جن على جواد”، وجعلها البعض الآخر من ثلاث كلمات تبدأ كلها بحرف الجيم وهي: “جن وجواد وجي 3″، في حين ربطها آخرون بسفّاح من عرب دارفور يدعى حامد جنجويت عُرِفَ بالفظاعات التي مارسها ضد قرى الأفارقة.

باختصار، إنها جماعة ظهرت في إقليم دارفور عام 1987 حيث عقد تحالف موسع يشمل كل القبائل ذات الأصول العربية في الإقليم، أطلق عليه اسم “التجمع العربي” ويضم 27 قبيلة، ثم توسع التنظيم ليشمل بعض قبائل كردفان ذات الأصول العربية ويأخذ التنظيم الجديد اسم “قريش”. ويربط بعض المراقبين نشأة “الجنجويد” بالحرب التشادية ـ التشادية في الثمانينيات الماضية، حين واجه الرئيس التشادي إدريس ديبي خصمه حسين حبري، فجنّد كل طرف بعض الميليشيات من أبناء القبائل العربية القاطنة في شرق التشاد فبرزت مليشيا “الجنجويد”.هكذا تبقى العين على تشاد في تطورات المعركة السودانية فهي جار له حساباته في السودان، مثله مثل أريتريا والجماعات الليبية. طبعاً الأهم هما مصر وأثيوبيا اللتان تخوضان حرباً على المياه يُشكّل القسم السوداني من وادي النيل ساحتها الأخطر.

***

اغتنم «حميدتي» حاجة الرئيس السوداني عمر البشير إلى مجموعته في مواجهة التمرد الدارفوري، فعمل على “قوننة” وضع “جنوده”، ونجح في ذلك بعد زيارة الخرطوم، حيث تلقف الجيش باستحسان فكرة وجود قوات مساندة له. وقال “حميدتي” في فيلم وثائقي أعدته نعمة الباقر، عام 2008، إن عمر البشير طلب منه مساعدة النظام في حربه ضد المتمردين، وأنه قد تلقى مالاً من البشير وتلقى وعداً بالصرف على “الجنجويد” بسخاء، لكن البشير، نكث بوعده، ما دعا حميدتي إلى التهديد برفض الأوامر، فاستجاب البشير صاغراً، وقبل بتسمية ميليشيا “الجنجويد” باسم قوات “الدعم السريع” وضمها إلى القوات المسلحة، وترقية قائدها الشاب إلى رتبة عميد، ثم لواء، ثم فريق ثم فريق أول في فترة وجيزة تجاوزاً لكل الأعراف العسكرية.

انقلب أولاً على زعيم قبيلته “الجنجويد” موسى هلال، ثم على البشير الذي رقّاه في اللحظة الحرجة ولكن “حميدتي” تركه يسقط على نار الثورة. انقلب على البرهان صديقه ورفيقه في حرب دارفور والثورة ضد البشير ثم في الثورة المضادة، ثم في المجلس الانتقالي السيادي. وعد “قوى التغيير والحرية” بالسير في “المسار الديموقراطي”، لكن حربه الحالية تكاد تقضي على ما بقي من آمال بعودة المدنيين إلى الحكم

تشكّلت النواة الأساسية لـ”قوات الدعم السريع” من أبناء إقليم دارفور وخصوصاً من الرزيقات، وسُرعان ما انضمت إليها لاحقاً مجموعة من أبناء الولايات الأخرى، وتمكنت من هزيمة الحركات التي تقاتل نظام الخرطوم، فأضحت أكثر شهرة وتأثيراً، وتستمد قوتها مباشرةً من الرئيس المعزول، الذي ظلّ يغض الطرف عن انتهاكاتها المستمرة، وتذمّر ضباط الجيش من قلة انضباط جنودها والتأثير السالب لهذه القوات على استقرار البلاد، ليصبح غض الطرف أشبه بلعبة مقصودة من عمر البشير، الذي كان يتقن لعبة التوازنات الدقيقة بين القوى المسلحة في الداخل السوداني، حتى يُبرز نفسه كناظم لهذا الشتات المسلّح.

***

تولى رعاية “حميدتي” في البداية الرجل الثاني القوي في نظام البشير علي عثمان محمد طه، وعندما حلّ صلاح قوش محل طه، ظنّ البعض أن “حميدتي” يتهيأ لحلق الرأس، لكن الرجل سرعان ما بنى علاقة مع رجل المخابرات الغامض صلاح قوش. وعندما بدأ نظام البشير بالاهتزاز؛ قفز “حميدتي” من المركب الغارق وتخلى عن قادته السابقين، وجمع قواته وجعلها تعسكر في قلب الأحداث استعداداً للحظة المناسبة للانقضاض على السلطة. وكانت ثورة 2019 التي جمعته وعبد الفتاح البرهان ضد البشير ورفعته الى رتبة نائب الرئيس.

إقرأ على موقع 180  بعثة الأمم المتحدة للسودان.. مهمة فاشلة مقدماً

ولطالما تمتّعت قوات “حميدتي” بامتيازات تفوق امتيازات القوات المسلحة السودانية، عتاداً ومالاً (رواتب) وتجهيزات. واستطاعت تنويع مصادر دخلها عقب انخراطها في حرب اليمن وحصول أفرادها على الأموال نقداً من دون المرور بمؤسسات الدولة. وكشف “حميدتي” عن تمويل “الدعم السريع” نفسها من خلال مشاريع استثمارية منفصلة عن جهاز الدولة، مشيراً إلى إنشاء شركة لتعدين الذهب في جبل عامر، إضافة إلى الشراكة مع أسرة الكوارته الشهيرة. وثمة تقارير تؤكد أن هذه القوات تُموّل أيضاً نفسها بأنشطة خارجة عن القانون مثل تجارة المخدرات والتهريب والاتجار بالبشر علاوة على انتزاع الأراضي الزراعية الخصبة من مُلّاكها الأصليين في دارفور واستغلالها في أنشطة زراعية واستثمارية.

وليس خافياً أن “حميدتي” كانت له مشاركة واسعة في الحرب الليبية عبر تقديم الدعم المباشر للواء خليفة حفتر الذي يسعى اليوم إلى رد الجميل لصديقه السوداني بدعمه بالطائرات الحربية، الأمر الذي أثار غضب تركيا، التي هدّدت باسقاط هذه الطائرات في حال خروجها بطلعات جوية.

***

“حميدتي” ليس مؤدلجاً ولا صاحب رؤية ولا يستند إلى أي تيار فكري أو سياسي ولم يُعرف بحنكته السياسية. لكنه غامض ومُحيّر ولا يعرف الوفاء ويتقن فن القفز عن الحواجز. انقلب أولاً على زعيم قبيلته “الجنجويد” موسى هلال، ثم على البشير الذي رقّاه في اللحظة الحرجة ولكن “حميدتي” تركه يسقط على نار الثورة وقطع أمامه كل سبل النجاة. انقلب على البرهان صديقه ورفيقه في حرب دارفور والثورة ضد البشير ثم في الثورة المضادة، ثم في المجلس الانتقالي السيادي. وعد “قوى التغيير والحرية” بالسير في “المسار الديموقراطي”، لكن حربه الحالية تكاد تقضي على ما بقي من آمال بعودة المدنيين إلى الحكم.

لديه وفرة من البضاعة والوعود لبيعها لكل صاحب مصلحة في السودان وخارجه، أياً تكن هويته. يبيع القوى المدنية وعوداً. يبيع الروس الذهب الذي صار بديلهم عن العملات الصعبة في حربهم الضروس مع الغرب، ويبيعهم وعداً بقاعدة عسكرية على البحر الأحمر مقابل سلاحهم ودعمهم. يبيع إسرائيل ما يطمئنها إلى أنه الراعي الصالح للتطبيع مع السودان وأن حربه مع البرهان هي نسخة عن حربهم ضد الفلسطينيين. يبيع الاتحاد الاوروبي وهماً بأن قواته المولجة حراسة الحدود تحد من هجرة الأفارقة إلى قارتهم، فيكسب المساعدات والهبات لكن تدفق المهاجرين يستمر إلى أوروبا. يخشى المواجهة المباشرة مع مصر لكنه يفتح قنوات التواصل مع ندها الاثيوبي فيُمسكها من اليد التي توجعها. يبيع دولة الإمارات شعار محاربة “الاخوان” ويغريها بالموانىء، ويتلقى، في المقابل، فيضاً من الدعم المادي والمعنوي والسلاح. حتماً لديه بضاعة ما كي يبيعها للأميركيين والصينيين معاً فهو وحده في السودان القادر على جمع الأضداد والمتناقضات.. والبيع والشراء.

قبل بدء المعركة، راح “حميدتي” يُوزّع السيارات على رؤساء العشائر والموظفين الكبار والوجهاء لضمان ولائهم. ووقع اتفاقاً مع شركة علاقات عامة كندية لتحسين صورته في الغرب. وبفضل منجم الذهب، صار صاحب موازنة كبيرة تتحكم بالعباد والبلاد.

السودان والعالم ينتظر نتيجة المعركة الكبرى، هل تقود طموحات “حميدتي” صاحبها إلى سدة الحكم أم الى غياهب السجن أو القبر؟ لكن أياً كانت النتيجة نحن الآن أمام نموذج نادر من القادة، لا هو عسكري ولا هو سياسي ولا هو تكنوقراط. إنه “حميدتي” راعي الإبل الذي صار جبلاً من ذهب.

Print Friendly, PDF & Email
أمين قمورية

صحافي وكاتب لبناني

Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  كيف يمكن أن يخون الخائنون؟ (2/1)