يشير التاريخ الى أنّ مصر نجحت في عكس نظام القوى في حوض النيل، ما سمّاه الباحثان مارك زيتون وجيروان وارنر “وضع الهيمنة المائية”، حيث استطاعت، وهي دولة مصب، أن تستفيد من مياه النيل، فتحت حكم محمد علي باشا في القرن التاسع عشر، طوّرت شبكة أنابيب الريّ وبنَتْ سدّ النيل الأول في دلتا النهر ما ساعد على ازدهار زراعة القطن وقصب السكر. وتحت رئاسة جمال عبد الناصر، سمح بناء السدّ العالي في أسوان بريّ 850 ألف هكتار من الأراضي وبإنتاج الكهرباء لمعظم البلد.
في الوقت نفسه، رفع تصدير القطن، وخصوصاً بعد تأميم قناة السويس، موقع مصر في الاقتصاد الدولي. ومن الناحية العسكرية، أصبحت مصر ثاني أكبر قوة في القارة الأفريقية، اضافة إلى سمعة مصر الثقافية في كل العالم “مصر هبة من النيل” كما قال الفيلسوف هيرودوت إضافة إلى أنها مهد الحضارات، وكل هذا عزّز شرعيتها في استثمار النيل أمام الرأي العام العالمي والمحلي.
وبسبب هذه القوى الاقتصادية والعسكرية والثقافية، استطاعت القاهرة أن تؤمّن مصالحها على النيل في المفاوضات التاريخية، فضمنت لها معاهدة عام 1929 مع بريطانيا تدفّق 48 مليار متر مكعب سنوياً، وحقّ النقض على أيّ مشروع في النيل ثمّ حدّد لها اتّفاق عام 1958 مع السودان حصة 75 في المئة من التدفّق السنوي.
من جهة أخرى، رفضت أثيوبيا هاتين الاتفاقيتين باعتبارها ليست طرفاً فيهما، وبناءً على اتّفاقية الأمم المتحدة بشأن الاستخدامات غير الملاحية للمجاري المائية الدولية، التي وقعت عام 1997، شكّكت أثيوبيا بالهيمنة المصرية على مياه النيل وعقدت اتفاقاً مع تنزانيا ورواندا وكينيا وأوغندا عام 2010 لتشكيل لجنة نهر النيل لإدارة الحوض ومشاريع التنمية والتطوير، ومنها سدّ النهضة الإثيوبيّ الذي يسمح بانتاج وتقاسم الطاقة الكهرومائية بينها.
موّلت أديس أبابا المشروع الذي تقدر كلفته بحوالي خمسة مليارات دولار بقروض وطنية، وسمّت المشروع باسم “سدّ النهضة” مراهنةً على المشاعر الوطنية ولا سيما أنّها شهدت عقوداً من الصراعات والمجاعات، ما أضعف هذه القوة التاريخية التي قاومت الاستعمار الأوروبي.
فضلاً عن ذلك، سيكون لدى السدّ قوة توليد طاقة تبلغ 6450 ميغاوات، أي أكثر بثلاث مرّات من السدّ العالي المصريّ. لذلك، سيصبح “سدّ النهضة” سابع أكبر سدّ في العالم، فضلاً عن أنّه سيكون أكبر محطة للطاقة الكهرومائية في أفريقيا حيث تطمح أديس أبابا أن تصبح المصدّر الأول للكهرباء في القارّة.
أعلنت أثيوبيا عن بدء ملء الخزان مطلع تنموز/يوليو المقبل، وفي المقابل، ردت مصر بأنها مستعدّة لمواجهةٍ عسكريةٍ اذا بدأت أثيوبيا ملء الخزان قبل التوصّل إلى اتفاقٍ عادل يحفظ حصّة مِصر التاريخية من المياه.
وبعد مفاوضات طويلة بدأت منذ العام 2011 واستمرت حتى اليوم دون التوصّل إلى نتائج ملموسة، ترفض أثيوبيا أي اتفاق يُلزمُها بتحديد حصة مصر السنويّة من مياه النيل فيما ينصّ اعلان المبادئ الذي وقعته مصر مع اثيوبيا بإشراف الولايات المتحدة، على ثلاثين مليون متر مكعب من مياه النيل كحصة سنوية لمصر مع الأخذ بالاعتبار سنوات الجفاف، بالاضافة إلى فترة سبع سنوات لملء خزان السدّ، وهذا ما دعا مصر، حسب مسؤوليها، إلى توقيع الاتفاق، إلاّ أنّ مصر تراجعت عنه اليوم بعد رفض إثيوبيا اعتبار الاتفاق ملزماً لها بالاضافة إلى ثغرات أخرى عديدة تتمحور حول كيفية التعامل مع سنوات الجفاف وكيفية حلّ النزاعات والجهات المكلّف اللجوء إليها للتحكيم مستقبلاً. وبينما يعتبر السودان توقيع مصر على اتفاق اعلان المبادئ في العام 2015 خطأً فادحاً، ينتشر فيديو للرئيس السيسي يطلب فيه من نظيره الأثيوبي آبي أحمد ترداد قسم اليمين قائلاً حرفياً “والله والله لن تقوم أثيوبيا بأي ضرر للمياه في مصر”، ومع هذا أخلّت أثيوبيا بكلمتها وبدأت ببناء السدّ مستغلةً الأوضاع الداخلية المضطربة في مصر منذ “ثورة يناير”.
يُظهر السدّ الوضع المربك للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي الذي ما ينفّك يطلق شعاراته الرنّانة متكلماً عن وضع العراق في سنة 1990 حيث كان يصله حوالي ألف مليار متر مكعب سنوياَ من المياه، أما الآن فلا يصل إليه أكثر من ثلاثين مليار متر مكعب بعدما أنشأت تركيا العديد من السدود على نهري دجلة والفرات منتهزة الغزو الأميركي للعراق، قائلاً بالحرف الواحد:”هل عرفتم ماذا يحصل عندما تضعف الدولة”، وهو السؤال الذي يطرح عن مصر هل أصبحت بهذا الضعف حتى تستمر أثيوبيا في السير قدماً محققة مشروعا تنموياً يرفعها إلى الدول ذات التنمية الجيدة دون الإكتراث إلى أي من الاعتراضات والتي كان آخرها تقديم شكوى إلى مجلس الأمن الدولي.
بينما تزداد النبرة المصرية حدّة يقف السودان وسيطاً، محاولاً إيجاد تسويات تُوطّد علاقته مع الدولتين، محاولاً الاستفادة من ري الأراضي الزراعية القريبة من السد وعلى نفس المستوى يحاول تخفيف التصعيد العسكري الذي تُلّوح به القاهرة، باعتباره المتضرر الأول من أية مواجهة تهدف إلى تدمير السدّ. وفيما صرّح وزير الري السوداني ياسر عباس أنّه تم الاتفاق على معظم البنود الفنية بين الدول الثلاث إلاّ أنّ الجوانب القانونية لا تزال متعثرة حتى اليوم حيث ترفض أثيوبيا الموافقة عليها باعتبارها دولة منبع ولها الحق في التصرف في مياه النيل معتمدةً نظرية برنارد لويس “الأسياد والعبيد”، وضاربةً بعرض الحائط القانون الدولي الذي ينظم حركة جريان المياه بين دول المنبع ودول المصب، ما يسمح لمجلس الأمن اعتبار أثيوبيا دولة غير ملتزمة بالقانون الدولي، ووفق البند السادس يحق لمصر اللجوء إلى محكمة العدل الدولية، وإذا لم تلتزم أثيوبيا بتوصيات المحكمة تكون مصر قد استنفدت كل الخيارات القانونية أمامها.
في وقت تزداد النبرة المصرية حدّة يقف السودان وسيطاً، محاولاً إيجاد تسويات تُوطّد علاقته مع بين مصر واثيوبيا
موقف أثيوبيا حول سيادتها على مياه النيل ليس جديداً ففي العديد من تصريحات مسؤوليها اعتبرت أنّ المياه شأن سيادي تتصرف فيه كما تراه مناسباً، ما يظهر أن كل المفاوضات التي بدأتها منذ عشر سنوات تقريباً كانت لاضفاء الشرعية أمام المجتمع الدولي وأخذها من مصر والسودان بلغة دبلوماسية هادئة ما زالت تتقنها حتى اليوم على رغم كل التوترات في الموقفين المصري والسوداني، خصوصاً أن تدخل واشنطن في المفاوضات كان لصالح مصر فقد أكدّ الخبراء الدوليون تراجع قدرة انتاج السدّ العالي للكهرباء بحوالي 40 في المئة سنوياً مع ارتفاع خطر الجفاف في وقتٍ يحصل الفرد المصري على معدل 570 متراً مكعباً من الماء سنوياً و يُحدّد خط الفقر المائي ب 1000 متر مكعب سنوياً للفرد.
هذا الوضع الكارثي لا يُلقى على عاتق السدّ فقط بل هو نتيجة سوء الإدارة المصرية في ترشيد استهلاك المياه التي تعتمد على 97 في المئة من مياه النيل. وعلى رغم كل التحذيرات التي كانت تطلقها منظمة الأغذية والزراعة “الفاو” حول انخفاض نسبة المياه بسبب زيادة عدد السكان والتغير المناجي وارتفاع درجات الحرارة، إلاّ أن قرارات حكومة المئة مليون نسمة اقتصرت على تحديد عدد الدونمات الزراعية للمزارعين ومنعهم من زراعة القطن بكميات كبيرة، ما أثار سخطاً كبيرا في المناطق الريفية.
تُثار العديد من التساؤلات حول دور اسرائيل في مشروع سدّ النهضة وامكانية الاستفادة منه استناداً إلى العلاقات الدبلوماسية الممتازة بين الدولتين، إلاّ أن الرئيس الأثيوبي آبي أحمد أكدّ أن التعاون الاقتصادي بين مصر واسرائيل جيد جداً ولن تفرّط اسرائيل بهذا التعاون من أجل سدّ النهضة مؤكداً على دور السدّ التنموي في شمال القارة الأفريقية فقط .
وفي نفس السياق، تدلّ حرب 1967 بسبب مياه نهر الأردن على امكانية تورط الكيان الاسرائيلي بما يحدث من توترات ويشرح تضعضع الموقف الدولي الذي لم يضرب بيد من حديد كما اعتاد فعله دائماً عند أي تهديد يواجه مصالحه، ولأن أميركا والكيان الاسرائيلي يترنحان في العلاقة بين مصر وأثيوبيا، ستكون الأيام القادمة كفيلة بإظهار التطورات التي قد تحدث بسبب السدّ.