فقد أمسَينا نسمعُ ونقرأُ دروساً عن “العُروبة” من بعض الألسنة والأقلام ذات الخلفيّات الفاشيّة المعروفة والبيّنة. أو ترِدُنا الدّروسُ هذه من قِبَلِ عددٍ من الأطراف المتخاذلة المعروفة، ومن قِبَلِ بعض الجهات المنبطِحة للقوى الاستعماريّة الحديثة المعروفة أيضاً (بعضُها ما فتئَ ينبطِحُ للمُستعمِر انبطاحَ العبدِ الذّليلِ للمالِك المتجبِّر).
والبعضُ من هؤلاء يُحدّثُكَ عن “عروبة” في مقابل “الفُرس” أو “التُّرك” (وينسى طبعاً أصدقاءَنا الفِرَنجة، أو ينسى الإنكليز والأميركان والآخرين).
بدأتُ المقالَ بالتّشديدِ على أنّي لا أبغي المزايدةَ على أحد، لذلك سأكون صريحاً ومباشِراً: يُخرِجُ اللهُ لكلّ أمّة من الأُمم، وفي كلّ زمَانٍ من الأزمنة، قضيّةً مركزيّةً يبتليهم بها ويختبرهم فيها.. فيُعرَفُ منهم بذلك الصّادقون والمخلِصون، ويُعرف بهِ الأذلّاءُ والمتخاذلون.
وتصبحُ هذه القضيّة-الابتلاء المعيارَ العملي الأساسي للجماعة أو للأمّة في حِقبة من الحقب: كما حصل مثلاً يوم تآمر الفرس من جهة والرّوم بنو الرّومان من جهة أخرى على أرضنا وأهل منطقتنا، في شباب رسول الله محمّد (ص)؛ أو كما كانت الحال عند اجتياح الجيوش الصّليبيّة المتخلِّفة لأجزاء من أرضنا؛ أو كما حدَث عندَ دخول الجيش المغولي “البَربَري” بلادَنا من جهة الشّرق.
لا نريدُ عروبةً بلا حضارة ولا ثقافة ولا مشروع قوميّ، كعروبةِ بعض الأعراب المذكورين في القرآن وعروبةِ بعض الشّعراء – ومتقني اللّغة العربيّة – من المنافقين والمتخاذلين
أمّا في حِقبتنا وفي زمانِنا، فالمعيار العمليّ الأساسي للعروبة واضحٌ وبيّنٌ و”عالٍ، محلَّ الشّمسِ أو بدْرِ الدُّجى”: إنّه قضية أرض فلسطين وشعب فلسطين وهويّة فلسطين.
فقد جاء قومٌ من النّاس، متآمرين مع سلطة استعماريّة عليا مستكبِرة، وقاموا باغتصاب أرضٍ بلا حقّ، وتهجير أغلب شعبها ظُلماً وبَغياً وعُدواناً، علماً بأنّ هذا الشّعب لم يكن له أيّ دخلٍ بما اقترفهُ الرّومان والرّوم وكنيسةُ روما وملوك أوروبا من جرائم ضدّ أتباع الدّين اليهودي.
هكذا حصل: قرّرت نُخبةٌ معيّنةٌ من النّاس أن تغتصبَ أرضاً معيّنة – باسم خرافاتٍ عرقيّة ودينيّة معيّنة، وتحجّجاً بتاريخ من الاضطهاد والقمع – وأن تطردَ شعباً معيّناً من هذه الأرض.
وهي ترفضُ أن تعطيَ الفلسطينيّين ولو حتّى: إعلانَ دولةٍ شكليّة! وتستمرّ بالتّجبّر والتّعنّت والاستكبار والشّيطنة.. وكذلك بالتّوسّع والتّهجير والاستيطان والسّرقة والقتل.. من خلال الكيان الغاصب العنصري الذي أنشأته وسمّته زوراً وعدواناً وبُهتاناً: “دولةَ إسرائيل”.
لماذا تشكّل قضيّة “فِلسطين” المعيار العملي الأوّل والأساسي “للعروبة” برأينا؟
أوّلاً، لأنّها مسألةُ حقٍّ، إنسانيّة وعالميّة.. ونحنُ لا نريدُ عروبةً بلا إنسانيّة، تكون كعروبة أصحاب الأخدود، أو عروبة مَديَنَ وعادٍ وثَمود.
ثانياً، لأنّها مسألةٌ أخلاقيّةٌ، لا شكّ فيها ولا ريب، ولا التباسَ عندَها.. ونحنُ لا نُريدُ عروبةً بلا أخلاق، كعروبةِ أبي جَهلٍ وأبي سُفيان.
ثالثاً، لأنّها مسألةٌ دينيّةٌ أيضاً، ذات بُعدٍ روحيّ ورمزيّ (متمثّل بمهد المسيحيّة أوّلاً، وبما يعتقدُهُ المُسلمون حول المسجد الأقصى ثانياً).. ونحنُ لا نُريدُ عروبةً بلا دينٍ ولا بُعدٍ روحيّ، كعروبة أغلبِ تجّارِ قريش وأعيان ثَقيف.
رابعاً، لأنّها قضيّةٌ سياسيّةٌ وقوميّةٌ، تتعلّق كرامتُنا بها “كعَرَب”. ونحن لا نريد عروبةً بلا كرامةٍ، كعروبة بعض ملوك لَخمٍ في الحِيرة، وبعض ملوك غسّان في الشّام (انبطحَ بعضُهم للفُرس، وانبطَحَ بعضهمُ الآخرُ للرّوم بني الرّومان).
خامساً، لأنّها قضيّةٌ حضاريّةٌ وثقافيّةٌ، ترتبطُ بها قيامتُنا الحضاريّة ويرتبطُ بها مستقبلُ تكوينِ هويّتنا القوميّة.. ونحنُ لا نريدُ عروبةً بلا حضارة ولا ثقافة ولا مشروع قوميّ، كعروبةِ بعض الأعراب المذكورين في القرآن وعروبةِ بعض الشّعراء – ومتقني اللّغة العربيّة – من المنافقين والمتخاذلين.
لا عروبةَ اليومَ بغير فلسطين، وفي ذلك ـ وحدَهُ ـ نعم، فليتنافسِ المتنافسون! أمّا التّنافسُ على عروبةِ الأنساب والأفخاذ، وعروبة اللّغة السّطحيّة، وعروبة الجغرافيا وحدَها، وعروبة اللّباس والعادات، وعروبة التّاريخ للتّاريخ.. فهذا كلّه من باب ما لا يُعوَّلُ عليه
إذن، ولأجلِ كلِّ ما سبق؛ فإنّ معيارَ “العروبةِ” الأوّل في زماننا هو قضيّة “فِلسطين”. فلا يحقّ لك يا أيّها الشّريك في الوطن والجغرافيا والإثنيّة أن تُحدّثَني عن “عروبتك” أو عن مشروعك “العروبي”.. من غير أن تُبيّنَ لي ـ بالوقائع الموضوعيّة والعلميّة ـ ماذا فعلتَ أو تفعلُ من أجل هذه القضيّة: علماً، وأدباً، وسياسةً، وتربيةً، ومقاومةً.. ومن خلال العمل العسكريّ المُبين.
كفانا نفاقاً وتساهُلاً مع النّفاق: لا عروبةَ اليومَ بغير فلسطين! وفي ذلك ـ وحدَهُ ـ نعم، فليتنافسِ المتنافسون! أمّا التّنافسُ على عروبةِ الأنساب والأفخاذ، وعروبة اللّغة السّطحيّة، وعروبة الجغرافيا وحدَها، وعروبة اللّباس والعادات، وعروبة التّاريخ للتّاريخ.. فهذا كلّه من باب ما لا يُعوَّلُ عليه. إمّا أن تكون عروبَتُنا عروبة أخلاقٍ، وكرامةٍ، ومقاومةٍ، وارتقاءٍ حضاريٍّ وروحيّ وإمّا لا تكون.
لذلكَ، أقترحُ إضافةَ الجملة التّالية إلى سجّلّاتنا التّاريخيّة وذاكرتنا الجماعيّة، على طريقة أجدادِنا من العَرَبِ والسّامِيّين، ولتتذكّرْهُ الأجيالُ القادمةُ بإذن الله:
“من ماتَ منّا من غيرِ أن يعرِفَ ـ قولاً وعملاً – أنَّ فِلسطينَ قضيّةُ زمانهِ.. فقد ماتَ أعجميّاً”!
وهو طبعاً ليسَ من العربِ ـ بعدنانهم وبقحطانهم ـ بشيء.