لغتي منحازة. هي وصف وتعبير وتصوير للكوارث. ليس في نصي بقعة ضوء. كأنني أتعمد العتمة. مصاب بلوثة التشاؤم. ليس عندي ما أدافع عنه. قلت: هل ألجأ إلى الصمت، ألا تبحث عن فضاء آخر، عن ماضٍ لبناني مضيء، عن عالم عربي يحاول النجاة. عن إنسان عربي أمسك مصيره بيديه وإرادته أقوى من الهزائم؟ ثم قلت، فلأراجع الماضي قليلاً. لعلك تجد منصات تدلك على إنجازات، على بناء إنساني، على قضايا راقية، على أوطان مريحة، على مهمات وملمات، على سياسات وانجازات ومعارك ومداميك حضارية، على حرية ومساواة وعدالة، على تنمية وإنتاج واقتصاد، على سلطات وحكومات وزعامات، أحدثت تغييراً لمصلحة “الشعوب”، وعلى “شعوب” مهملة ومغفلة، على وطن ما، على تعاون ما، على أي شيء تؤدي له التحية وتكتب عنه؟
عليَّ أن أفحص ضميري. هل أنا منحاز للخراب؟ لا أرى إلا الغلط. لا أكتشف إلا التراجع. أعاين بلاداً من المحيط إلى الخليج، تسير بسرعة مذهلة إلى هاوية العنف. أبحث عن شعوب فلا أجدها، كأن هناك كراهية للشعوب. الشعب وباء. السلطة تكافحه. تُسكته. تمنعه. تعاقبه. تُلغيه.
قلت، لعلهم على صواب. نقدهم المُحب قد يُصلح اعوجاجي.
فتحت كتاب لبنان. لعلني أجد فيه ما يُقنعني بأنني على خطأ، أو بأنني أنظر بعين واحدة. طَربت عندما أقلعت إلى الشعر والموسيقى. لبنان سعيد عقل، من سبط الآلهة. لبنان الأخوين الرحباني، ولا أجمل. لبنان زكي ناصيف وفيلمون وهبة وشعراء الوطن، لا يموت. “راجع راجع يتعمر لبنان”، ومهما يتجرح بلدنا. لكن الواقع لم يكن يشبه الرحبانة أبداً.
لبنان زياد الرحباني يشبه لبنان واللبنانيين. تعتير. أما من امتهن الغناء وزجل الكلمات، فوضع لبنان في مرتبة يصح فيها: “الله خلق لبنان وكسر القالب”. أجاد عباقرة التمجيد، في جعل لبنان السياسي، بجمال لبنان الطبيعي الساحر.
ثم، قلتُ، لماذا لا أنظر الى فترة الستينيات وصعود لبنان الى مرتبة “المثال”، إعلامياً على الأقل، وتحرراً وفلتاناً أيضاً. وقعت على مدائح سخيفة. لجأت إلى أنسي الحاج، فهو صادق، ويقرأ الواقع والوقائع على حقيقتها.
السطر الثاني من رسالة أنسي إلى شارل حلو: “الرأسماليون يحكمون لبنان ونحن نطالب برؤوسهم”. يا إلهي. ما هذا الوصف، وما هذه الجرأة؟ يُكمل: “سنقطعها بانشراح ولذة. أنا اعتبر نفسي، كما دائماً أُعتبرت، خائناً للوطن.. يستعبدني فأخونه. أخونه وولائي يذهب لبلدي. للبناني أنا. لبنان فضيحة. الدولة الحالية الحاكمة لا نعترف بها. إنها أسيرة في أيدي باترونات”
كنا ما زلنا في طفرة الستينيات “البهية”. ومع ذلك – اكتشف أنسي الحاج، التفاهة والحقارة والنهب والدجل والاحتكار والظلم والكذب، إلى جانب حناجر رخيصة تتبجح بقصائد المجد والتمجيد والتعظيم والتفخيم.
أجرأ نصوص أنسي، رسالته إلى الرئيس شارل حلو: “نريد حصتنا من الأرباح”. هي الجملة الافتتاحية لنصه، في 8 تشرين الأول/أكتوبر 1965. أي من زمان بعيد. زمان الانتفاخ الفارغ. كطبلٍ يطن وصنج يرن.
السطر الثاني من رسالة أنسي إلى شارل حلو: “الرأسماليون يحكمون لبنان ونحن نطالب برؤوسهم”. يا إلهي. ما هذا الوصف، وما هذه الجرأة؟ يُكمل: “سنقطعها بانشراح ولذة. أنا اعتبر نفسي، كما دائماً أُعتبرت، خائناً للوطن.. يستعبدني فأخونه. أخونه وولائي يذهب لبلدي. للبناني أنا. لبنان فضيحة. الدولة الحالية الحاكمة لا نعترف بها. إنها أسيرة في أيدي “باترونات” الدعارة الاقتصادية والسياسية والطائفية. دولة تقبض معاشاتها من المئة مليونير الذين يرخصون لها الحكم متى شاؤوا، ويشحطونها من الحكم متى شاؤوا”.
يا إلهي، هل من كلام أفظع؟ طبعاً. هناك المزيد. أنسي الحاج يكتب بالسكين. بحبر المعاناة، بقبضة الصوت، بلغة تسمي القحاب من الحكام: “لا نعترف بحكومة حقيرة ولا بنواب تافهين وعملاء.. ولرئيس الجمهورية نقول: أنت على رأس دولة سائبة لمئة لص.. نُنبئك بأننا نحن ضمير لبنان ورصاصه، ضد لبنان. ضد لبنان الحاضر، التمساح، ومغارة الحرامية والمجرمين. نريد أكثر. نريد ان ننتقم. نوابك وحكوماتك ليسوا لبنانيين. هؤلاء انتهازيون او حمقى. نُريد نسمة هواء تُخصيهم. نريد أن نُزيلهم. وأنت تعرف أن النظام الرأسمالي في لبنان، اشترى هذه الدولة. وأن هذه الدولة خادمة عنده. (نص خالد. لبنان كان كذلك وظل كذلك)”.
نقول لك: “لم نعد نريد أن نظل خداماً. رأسماليو لبنان يحسبوننا بهائم. هذا ليس نظامنا. هذا مُستحمرنا”. ويتساءل أنسي الحاج: “تقيسون لبنان “الحضاري” بدول عربية تتحكم بها عصابات وقتلة؟ إذا كان هذا هو قياس لبنان، نلجأ الى الجحيم. وعليه، لبنان هذا، سندفنه بأقدامنا”.
لماذا كل هذا الغضب؟ كل هذا الوضوح؟ أيُعقل أن يكون لبنان في عافية، وتقدم وازدهار واصطياف وسوق تهريب ودعارة ويُهتك سياسياً بهذه اللغة الحاسمة؟ لا بأس. نبدأ من تكذيب أجهزة الدولة. وهي أصلاً ضد الدولة. السيادة للكذب والبلطجية. حكام اليوم، تخرجوا من مدرسة الفجور اللا وطني. لبنان عندهم مغارة ومئة حرامي.
كانوا، كلما طولبوا بالحوار والتغيير (التغيير ما غيرو الآن) ونفض الدولة وإزالة الظلم والتخلف، رأيتهم يتكتلون كلهم، أصدقاء وخصوماً، يتكتلون ضد هذا الطرح، تحت ستار الحفاظ على “وحدة الصف الوطني والحفاظ على الكيان (مللا كيان) والحفاظ على ازدهاره وأمنه وسلامته”.
كذّابون. عاهرون. تسليعيون. لا يتمرنون إلا على السرقة والربح. الوطن بالنسبة إليهم ليرة لبنانية. راهناً، لبنان يساوي دولارات.
يصف أنسي الحاج حالة لبنان زمنذاك بجمعية لصوص واحتكارات ومنافسة. “منذ ربع قرن وهم، رأسماليين وطائفيين وإقطاعيين وعائليين، يستعبدوننا روحاً وجسداً. يفرضون الخوة ويزوّرون الإرادة ويتاجرون بالحشيش وبالسلاح ويتاجرون بالرقيق الأبيض. عاصمتهم شارع المتنبي”.
من باع لبنان؟ ومتى تمت الصفقة؟ ولماذا لبنان ضد اللبنانيين؟
السبب هو الصمت. صمت الشعب على مصاصي دمه، قاتلي أولاده، هاتكي شرفه، الناطقين بإسمه يساراً ويميناً وإسلاماً ومسيحية.. “لقد باعونا. الذين باعوا أراضيهم من الصهاينة في فلسطين، باعونا سنة 1958 من الأجانب والجيران باعونا. باعوا جلودنا ودماءنا وضمائرنا وأرواحنا”.
هذه بعض ملامح الصورة القاتمة للبنان في “عز ازدهاره” المنافق والشكلي. فماذا عن لبنان في العام 2012؟ يكشف أنسي الحاج، أن أحقر شيء في بلادنا هو الانسان. الانسان في نظر الزعامات “حشرة”.
لم يولد الانسان بعد. في لبنان، شوارع، أتباع. لا إنسان ابداً. هناك جماهير الدهماء. جماهير الأديان والطوائف والأرومات. وتتساءلون لماذا ليس عندنا دولة وحرية و..
الإنسان مستباح. لقد ملأت الحرب اللبنانية الأرض بالجماجم. بعدها، بشّرونا بالهدوء. أي ما يشبه الموت واستقرار القبور. وهذا ليس اختصاصاً لبنانياً قط. الإنسان لم يصل بعد إلى البلدان العربية. نحن “رتش”. حثالة. و”نحن الضيوف وأنتم رب الدولة”.
الأهم من المُقدّس الديني، هو تقديس السلطة. السلطة هي الرحمن الرحيم، وهي الأب والابن والروح القدس.
يتساءل أنسي الحاج: “حرية، عدالة، مساواة؟ من أنت لتطالب بهذه؟ من تحسب نفسك؟ أسوجي؟ أميركي؟ فرنسي. أنت يا قوّاد ولاه؟ يا عرص؟ يا خوَل؟ انت عم تحكي؟ بدك تعبَّر عن شو؟ عن رأيك؟ بدك تختار؟ بدك تكتب؟ بدك ترفض؟ بدك، بدك؟ بدك تموت يعني؟ الله لا يردك”
ليس عندنا إنسان لبناني. هذا من المستحيلات. العامة تُقدّس السلطة وتُطيعها. العامة تُقوِس ظهرها ليركبه القائد أو الزعيم. ليس هناك أيضاً إنسان عربي. امتحنوا حروب العرب ضد العرب، من المحيط إلى الخليج. امتحنوا الحروب الأهلية، في لبنان، سوريا، العراق، اليمن السودان، ليبيا والجزائر الخ. لا أخوة عربية أبداً. هناك، “سني، شيعي، درزي، علوي. هناك مسيحي واسماعيلي وكردي وأرمني. هناك شركس واشوري وقبطي وسرياني وبهائي وكلداني..”، أي ليس هناك إنسان يتحدد بإنسانيته وهويته الوطنية. ما زلنا نزحف على جباهنا.
وعليه، لا تسأل، لماذا يعيش العربي هاجس إما أن يكون القاتل أو القتيل؟
يتساءل أنسي الحاج: “حرية، عدالة، مساواة؟ من أنت لتطالب بهذه؟ من تحسب نفسك؟ أسوجي؟ أميركي؟ فرنسي. أنت يا قوّاد ولاه؟ يا عرص؟ يا خوَل؟ انت عم تحكي؟ بدك تعبَّر عن شو؟ عن رأيك؟ بدك تختار؟ بدك تكتب؟ بدك ترفض؟ بدك، بدك؟ بدك تموت يعني؟ الله لا يردك”.
من أنت أيها العربي؟ أصحاب الأحذية الإلهية تسحق الحشرات. أنت مسحوق. إذا رفضت ولو بصمت، عليك أن تهرب خلسة إلى الضياع الدولي. والغريب، أن الضحايا مجهولون، مع أنهم كثر وواضحون. السلطة لا تحتفظ بأسماء الضحايا. تكرههم، تجهلهم.
إلى متى كل هذا؟
لا خير في الأفق. جموع تكذب على نفسها وتعتبر أنها بألف خير، حتى ولو كانت مسحوقة. لا خير في من ينتظر العون من الله. العرب ولدوا ليكونوا أحراراً، حوّلتهم المذاهب إلى غنم للذبح والتذابح.
ماذا بعد؟ ولماذا أنا خائن للتفاؤل؟
لست خائناً أبداً. أعرف الوطن بحواسي الخمس. ولتأكيد ذلك، سيزوركم محمد الماغوط ويكون في ضيافتكم. ستقرأون قريباً: “سأخونك يا وطني” العربي، من المحيط إلى الخليج.