حتى لا تبقى القمة العربية.. حبراً على ورق!

يأتى انعقاد القمة العربية فى المملكة العربية السعودية فى لحظة تغييرية فى الشرق الأوسط فتحت الباب على مصراعيه أمام تحول أساسى فى المنطقة. لحظة جاءت نتيجة مسارات أو عمليات التطبيع التى حصلت بين خصوم وأعداء الأمس فى الشرق الأوسط، ولو حصلت وتحصل بسرعات مختلفة.

للتذكير، بدأت هذه اللحظة مع التطبيع العربى التركى الذى جاء بعد أن تراجعت تركيا عن دور راعى وحاضن التيارات الإسلاموية فى المنطقة غداة ما اتفق على تسميته بالربيع العربى إلى دور القوة الإقليمية الطبيعية بعيدا عن العناوين الأيديولوجية التداخلية، ومع التطبيع السعودى الإيرانى الذى انطلق من لقاء بكين ومع التطبيع العربى السورى الذى توج بعودة سوريا إلى جامعة الدول العربية. وقد جاء هذا الأخير نتيجة مسار بسرعات مختلفة من التطبيع الثنائى السورى مع دول عربية كانت فى حالة عداء أو قطيعة مع سوريا. ونشهد حاليا مسارا تطبيعيا سوريًّا تركيًّا برعاية روسيا أساسًا ومعها إيران.

***

يستدعى ذلك من القمة العربية العمل على ترجمة هذه المناخات والمعطيات الجديدة الناتجة عن هذه التفاهمات إلى قواعد وأسس يتفق عليها عربيا، وكذلك مع كل من تركيا وإيران عبر حوارات عربية قائمة ولاحقة مع هاتين القوتين الجارتين بهذا الشأن. قواعد وأسس تنظم وتحكم العلاقات المستقبلية فى المنطقة بين مختلف هذه الأطراف خاصة بشأن إدارة الخلافات أو سبل احتوائها وتسويتها وتعزيز التعاون والبناء على المشترك لإدارة العلاقات فيما بينها فى الإقليم الشرق أوسطى.

إن المقاربة المرحلية لاحتواء وتسوية بعض الخلافات الضاغطة أو الساخنة أمر ضرورية ولكنها غير كافية إذا لم يتم العمل فى السياق ذاته على معالجة مختلف النقاط الساخنة والقادرة على الاشتعال لأسباب مختلفة. النقاط التى قد تضعف ـ إذا ما حصل هذا الأمر ـ التفاهمات التى تم التوصل إليها وقد تهدد مسارها المستقبلى فى الإقليم.

ولنتذكر أن هنالك ترابطا بالفعل بين مختلف النقاط الساخنة بسبب عوامل خاصة بهذه الأخيرة أو بسبب التنافس فى لعبة المصالح بين القوى المعنية عبر هذه النقاط الساخنة والمفتوحة على التصعيد والتى توظف فى سباق النفوذ فى المنطقة.

ولا بد من التذكير فى هذا السياق أن المقاربة الشاملة، ولو بشكل تدرجى، والقائمة على الأولويات التى تحددها الأطراف المعنية، أمر أكثر من ضرورى لإطفاء كافة النقاط الساخنة وتلك القابلة لمزيد من السخونة والاشتعال بغية تعزيز الاستقرار الإقليمى المطلوب والذى هو لمصلحة الجميع فى نهاية المطاف.

المطلوب من القمة أيضًا أن تبلور سياسات ومبادرات تقوم على انخراط عربى مباشر فى عملية تسوية الصراعات القائمة والمستمرة، وكذلك الجديدة فى بعض الدول العربية مثل الحالة السودانية وعدم الاكتفاء بدور المؤيد للآخر الدولى أو الأممى الذى يعمل على تسوية هذه الصراعات. ولا بد من التأكيد أنه تبقى هنالك مصلحة عربية أساسية فى تسوية هذه الصراعات بانعكاساتها على الإقليم وبالتالى مسئولية أساسية لأهل الإقليم للمبادرة الدبلوماسية نحو العمل على إطفاء الحرائق بالتعاون مع الآخر الدولى أو الأممى حيث يجب التعاون، فالمطلوب العمل أو الإسهام فى تعريب الحلول وليس الاكتفاء بدور المتفرج أو المشجع عن بعد فى هذا الخصوص.

***

يبقى الأمل قائما في أن تشكل هذه القمة قطيعة مع تقاليد استقرت وللأسف مع قمم عربية عديدة. قمم تصدر قرارات تذكيرية بما يجب أن تكون أو تصبح عليه الأمور. وتبقى هذه حبرا على ورق إذ لا توظف سياسة ناشطة فى خدمتها، والمطلوب اليوم من القمة العربية صدور قرارات تغييرية ذات نتائج على أرض الواقع

وتعود القضية الفلسطينية بقوة على جدول الأعمال العربى الفعلى بعد غياب طويل فرضته التطورات الإقليمية وما حملته من أولويات ضاغطة على الجميع. تعود بقوة بسبب السياسات الإسرائيلية الراهنة، سياسات حكومة اليمين الدينى المتشدد الهادفة إلى إنهاء القضية الفلسطينية عبر إقامة دولة إسرائيل الكبرى من النهر إلى البحر. يدل على ذلك ليس فقط خطابها السياسى ولكن ممارساتها العنيفة المستمرة والمتزايدة فى الأراضى الفلسطينية المحتلة. فلا يكفى الركون إلى وقف إطلاق النار والتوصل إلى هدنة تبقى هشة فى ظل استراتيجية الإلغاء التى تتبعها إسرائيل تجاه الشعب الفلسطينى. ذلك أمر ضرورى ولكنه لن يصمد أمام سياسة إسرائيلية واضحة الأهداف والمعالم.

يقول البعض إن حل الدولتين صار أمرا مستحيلا فى ظل الأوضاع الجديدة التى أوجدتها إسرائيل. وأعتقد أنه صار أمرا صعبا وتزداد صعوبة تحقيقه مع كل يوم يمضى، ولكنه يبقى الشرط الوحيد للتوصل إلى سلام حقيقى وبالتالى دائم برغم أن فجوة الأمر الواقع تزداد كل يوم بين هذا الهدف وإمكانية تحقيقه. ولكن هذا الحل يبقى الحل الوحيد الواقعى والممكن لإنهاء النزاع كليا وفتح صفحة جديدة فى المنطقة لمصلحة الجميع. دون ذلك سيبقى النزاع قابلا للاشتعال فى أى لحظة خاصة فى ظل السياسات الإسرائيلية الحالية، وقابلا للتوظيف من أى «لاعب» لأهداف لا علاقة لها بالقضية نفسها. وأرى أن على القمة أن تبلور خطة عمل لإعادة إحياء ولو تدريجى لعملية التسوية السياسية للصراع من خلال التحرك المطلوب والضرورى مع الفاعلين على الصعيد الدولى ولوضعها مجددا على أجندة الأولويات الإقليمية والدولية فى المنطقة. تحد آخر ليس بالسهل النجاح به ولكن من الضرورى توظيف الإمكانات المطلوبة لذلك لأنه أيضا إلى جانب هدف تحقيق الحقوق الوطنية الفلسطينية المشروعة فهو لمصلحة إقامة الاستقرار الفعلى فى المنطقة.

إقرأ على موقع 180  العاروري.. رمزٌ ملحَميٌّ للتعبير المقاوم

***

توفر القمة العربية الفرصة الضرورية لاعتماد مقاربة عربية ناشطة وجديدة وفاعلة، شاملة وتدريجية، تجاه هذه التحديات الصعبة والكبيرة. ويبقى الأمل قائما في أن تشكل هذه القمة قطيعة مع تقاليد استقرت وللأسف مع قمم عربية عديدة. قمم تصدر قرارات تذكيرية بما يجب أن تكون أو تصبح عليه الأمور. وتبقى هذه حبرا على ورق إذ لا توظف سياسة ناشطة فى خدمتها، والمطلوب اليوم من القمة العربية صدور قرارات تغييرية ذات نتائج على أرض الواقع والعديد من المؤشرات تشجع على احتمال النجاح فى هذا التحدى.

(*) بالتزامن مع “الشروق

Print Friendly, PDF & Email
ناصيف حتي

وزير خارجية لبنان الأسبق

Download Best WordPress Themes Free Download
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Best WordPress Themes Free Download
Free Download WordPress Themes
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  وجه دبلوماسي جديد.. للتنين الأسيوي