في هذه الأجواء، قرّرتُ أن أستدرج ذاكرتي، عشية عيد التحرير والمقاومة، وغداة انقضاء احتفالات حقبة “الأربعين ربيعاً”. أربعون ربيعاً تثاقلت بمرورها، على أطيافٍ من أحداث تدرّجت بين أسودٍ وقرمزي، وقليل من الرمادي وتموجاته.
النص في الإشهار واضح، وتصويب الوضوح لا يُبدّد الهدف والعدو، وللعدو تعريفات ساطعة، وترجماتها أسطع: احتلال، تطهير عرقي، طرد شعب من أرضه، استيطان، إجرام، أبارتايد إلخ..
***
أن تعيش “أربعين ربيعاً” في سياق ما وهبك الله من حياة إلى سنيّ عمرك الممتد إلى أن نصبح “إليه راجعون”، فهذا من النِعَم الإلهية، فكيف إذا ما كانت تلك “الأربعين” مشغولة بانشغالات اللحظة، المتعددة الصخب والأحداث، والتناقضات والمصائر. مصائر ارتسمت فيها هويات، ما كان لها أن تؤول إلى ما آلت إليه لولا دفقٌ من عناد وصبر وعزة ومحو للذات في البذل، ومقاومة وضعت الخطط وحدّدت اتجاهات البوصلة بثبات واستمرار لتنفيذ الهدف.
وأن تعيش في صلب “الأربعين ربيعاً” روحاً وفكرة وهدفاً ويقيناً وأملاً لا يخبو برغم جحيم الصعوبات، فإن في الأمر عزيمة تشحذ الصبر والذات بقوة المثابرة. في صلب هذا المناخ وهذه الروح، إندفعت عزيمتي، بروحها وبروحي، لا بل أرواحي المتعددة والناجية من أموات دَنَتْ حيناً، وابتعدت في أحيان ومرّات عديدة. سنوات شكّلت مدماك ذينك “الأربعين ربيعاً” من سنوات عمري، بسهرٍ وتعب وقلم وأوراق ومخاطر تُداني العبثية، لكنها ممهورة بأختام أداء مهني لم يلجمه صمت عن تبيان حق، ولا عن تصوير وقائع ظلم ارتكبها محتل قاتل، مجرم إرهابي على مساحة من أرض لبنان. أدائي لم يكن مكتوباً بلغة التأتأة أو التمويه أو تدوير الزوايا. فالعدو عدو وأعرفه، والعميل عميل، أما المقاومون فهم أبناء الأرض.. والشهداء لهم انحناءة الرؤوس دائماً وأبداً.
***
في سنوات/مدماك هذا “الأربعين ربيعاً”، وبالدقة الأكثر تصويباً من اللحظة التي انبثقت من اجتياح إسرائيل للبنان في العام 1982، أراني لا أفصل الشخصي/المهني عن الحدث العام بوقائعه.. ذاك الشعور الذي انتابني بقبول أو رفض الموت كتحدٍ. كنت في صميم معاناة وطني ومعنى سيادته، وكنت على تماسٍ بصريّ وسمعي وتشوّش إزاء ما كان يتعرض له لبنانيون في بلدهم وفلسطينيون تشتتوا إلى أرض وطني، ودائماً على يد عدونا ومعه “لبناني آخر” للأسف!
***
في أولويات قواعد شغف مهنتنا المكتوبة – وهي الأحب إلى قلبي – أن تكون “نص مجنون”. والجنون هنا ليس ذاك الابتلاء أو الجنوح إلى المقامرة، إنما فعل التزام بالضمير المهني، وأخلاقيات المهنة، وضجيج انساني يرافق نبضات القلب، ودموع تتسابق وحبر الكتابة.. والجنون هنا أن تكون حرّاً، وأن تكون مفعم الشعور بالكرامة الوطنية والشخصية، وأن تدرك أن احتلال العدو الصهيوني لفلسطين، ولأجزاء من وطنك، ولأجواء من سُحُب سوداء تتراقص متناغمة مع هذا الفكر المتعصّب، القائم على محو الآخر بالمجازر والقتل وسفك الدماء، إنما هو ـ أي هذا الفكر الصهيوني ومستتبعيه – احتلال لشخصك وذاتك وعقلك وضميرك وأخلاقك وتمايزك، وهو محاولة لمصادرة حاضرك ومستقبلك والقبول بما يكتبه لك هذا الاحتلال، بدل أن تقرر أنت ما تكتبه بإرادتك، وبصرير قلمك/روحك/ ووجودك الإنساني.. الجنون هنا، يعني أن تكون أنت في معنى وجودك، وكيانك، ويومك، أن “تفرك” عينيك ومعاناتك في عين الحدث، وألا تكون في هامش الأحداث كي لا تُكتب في هامش الأحياء/الأموت. أن تكون في اتزانك الداخلي “بني آدمين”.
***
من ذاك التاريخ/البداية، أطلت البشائر، وما لبثت تنبجس هنا وهناك، من بيروت والعرقوب وبعلبك، وفي أسماء ارتقت إلى سماوات خالدة، من علوان إلى قصير إلى قافلة من شهداء وعمليات تذيق محتل أرضك ذل الكرامة، وتفضحه بفقدان الشجاعة، وَتَلفّهُ بقلق البقاء.. أخبار أخذت بالتسارع، بالمفاجآت المدوية، سياسياً وعسكرياً، وبوتيرة صاروخية كأنما جهات الأرض الأربع ومعها السماء باتت تدور في فلك ما كان يدور على ساحة لبنان، وتحديداً الجزء المحتل في جنوبه وبقاعه الغربي، وفي العاصمة بيروت ومحيطها الجبلي، لتصير تِباعاً سيلاً جارفاً كسرت معاقيل سدوده أيادٍ وعقول ومشاعر وطنية، قومية، أممية، دينية، إلهية، ومن بسطاء أهل الأرض في تلك البقعة المحتلة من عدو إرهابي..
هؤلاء الناس أحاطوا المقاومين بدعمهم الروحي والمادي، وكان هؤلاء الناس قد أقاموا وأسّسوا لمقاومتهم منذ منتصف الستينيات، فانطلقت أسماء الشهداء تلمع، ومواكبهم وسيرهم تملأ الصحف والجدران، ومن منّا ينسى بطولات آلاف المقاومين، وبينهم الأوائل أمثال الشهيد علي أيوب (*) الذي تصدى للميركافا من تلال بلدته عيناتا الحدودية بسلاحه ومنجله والأحمر من دمائه وأفكاره، ومن ينسى الشهيد الأخضر العربي (أمين سعد) وغيرهم من الشهداء؟
كل هؤلاء أسسوا لمقاومة إبنة بيئتها، وعنوان مرحلتها، وذاكرة الآتي من السنين وصولاً إلى يوم التحرير المنشود والمعمّد بدماء الشهداء والمدنيين الأبرياء. إنه عنوان اعتصامات الأهالي، وصمودهم، وقوة عزيمتهم المُتأتية من عزيمة قادة ولدوا بين ناسهم ونبتوا بين أحمر الدحنون وعشق الغوردن، وما بدلوا تبديلا، فاستشهد منهم من استشهد. حراك الأهالي، والمعنى الذي أضفوه على معنى أن تثور لكرامتك، وتحقق مطالبك، كان درساً، ودروساً لا يتقنها إلا من غَرَفَ من منبعها. في جبشيت التمع برق بداية طرد المحتل. اعتُقِل شيخها راغب حرب، وانتفض أهلوها، واعتصموا، وأجبروا دوريات المحتل على الاندحار والتراجع.. جبشيت كانت يومها راغبة بالمقاومة. ومن جبشيت في ذاك الصباح الباكر/الهادئ على وعدٍ ووعيد ما لبث أن انفجر، بدأت حكايتي في تخليد/الكتابة عن تلك الوقائع/ المقاومة، وتوزعت على قرى وبلدات جنوبية وبقاع غربية، وامتدت في عقد الثمانينات الماضية في كل الإتجاهات. مهام مهنية أشبه بعمليات الاقتحام، تَحفّها المخاطر من حواجز جيش الاحتلال والالتفاف عليها، إلى حواجز بعض عملائه في الطريق الساحلي..
ماذا لو تحققت أهداف اجتياح العام 1982؟ وماذا لو تغيّرت خريطة لبنان وقتذاك فرزح تحت احتلال إسرائيلي دائم؟. وعلى نقيض هذه الصورة، ماذا لو لم تكن هناك مقاومة؟ وماذا لو لم تجتح نفوس الناس العاديين صلابة دعم المقاومة، وماذا لو لم تتدعّم هذه المسيرة بالقادة والشهداء، والقادة/الشهداء؟
كنت مجنونة وأمثل الجنون الذي امتلكني عشقاً لفلسطين وقد رضعته وتربيت عليه، ووجدتني مشدودة إلى تجربة جديدة على مرأى ومسمع وعْيِنَا السياسي وحماستنا المهنية. حرّكت فلسطين بداخلي نبضاً مختلفاً أشاح ضبابية المشهد المضطرب محلياً. فلسطين البوصلة من بحرها إلى النهر، تقاعسَ من تقاعسَ، ونظّر من نظّر تبريراً للعمالة. فالسيادة والكرامة وعزة النفس كلها لا يدركها إلا الراسخ في هذا البناء النفسي/الروحي/الفكري.
***
من عام الاجتياح الإسرائيلي 1982، رسمتُ المِهني/ الميداني طريقاً لي في الصحافة. في الميدان، تَتَصادق والمشاكل الكامنة أو الطارئة، وتتحسّس تعرجات انسياباتها، وتلفحك تخبطاتها ساخنةً. وفي الميدان، تختبر مَدَيَات “بارومتر” شجاعتك الذهنية والعقلية، وما يتوقف عليه من ثبات أو فرار، من إثبات أو مجرد خربشات، والأهم، أنه يمنحك صك اعتراف بِثيمة المهنة، وعبق أسرارها. فأنت اللصيق بما تكتب..
وَقَع الاجتياح، وتعمّد إنزال التدمير والدمار والموت، مُطبّقاً قواعد الغزو الهمجي العدواني الذي لطالما أتقنه العدو الإسرائيلي وعصاباته من الهاغانا وشتيرن وباقي مسميات حاملي العقيدة الصهيونية/التوراتية/العنصرية/ والإجرام العلني.. الاجتياح ليس عدواناً همجياً وحسب بل جعبة من السياسة والأمن. أولها إقصاء ليس فقط منظمة التحرير الفلسطينية كحالة سياسية، وإنما ترحيل الشعب الفلسطيني من شتاته في مخيمات لبنان عن طريق ارتكاب المجازر. فكانت مجزرة صبرا وشاتيلا (ننصح بقراءة كتاب الدكتورة المؤرخة بيان نويهض عن مجزرة صبرا وشاتيلا الصادر عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية)، وثانيها تسليم لبنان أرضاً وسلطة للمتعاونين مع العدو. بمعنى آخر تغيير هوية لبنان.
***
ماذا لو تحققت أهداف اجتياح العام 1982؟ وماذا لو تغيّرت خريطة لبنان وقتذاك فرزح تحت احتلال إسرائيلي دائم؟. وعلى نقيض هذه الصورة، ماذا لو لم تكن هناك مقاومة؟ وماذا لو لم تجتح نفوس الناس العاديين صلابة دعم المقاومة، وماذا لو لم تتدعّم هذه المسيرة بالقادة والشهداء، والقادة/الشهداء، وقد تسنى لي فرص اللقاء بهم، من عماد مغنية في طهران في ذكرى مرور أربعين يوماً على رحيل الإمام الخميني في العام 1989 لتغطية الحدث بدعوة شخصية من وزارة الخارجية الإيرانية (كنت يومها في صحيفة “السفير”)، إلى لقاء/صدفة في مساء شتائي غمرته الثلوج في منزل السيد عباس الموسوي في العام 1984 في بعلبك بحضور الشابين السيد حسن نصرالله والشيخ محمد خاتون (رحمه الله)، والسيدة الشهيدة أم ياسر والسيدة أم زهراء خاتون. ليتكرر اللقاء/المقابلة مع الأمينين العامين الموسوي (وكان أول حديث له إثر انتخابه أميناً عاماً نشرته صحيفة “السفير”)، ومع السيد نصرالله (في مقابلة أجريتها معه في تشرين الأول/أكتوبر 2000 ومنشورة في صحيفة “الوطن” السعودية وكنت مراسلتها في بيروت).. إلى غيرهم من قادة ومسؤولين في أحزاب وطنية وفلسطينية، وأناس بسطاء من أرض المقاومة وبيئتها الحاضنة.
***
في “الأربعين ربيعاً”، وما بعد إلى أن يأذن الله، كنت في “نص الجنون” وما أزال. في مسيرة نضجت، أو آخذة بالنضوج، واكبت وما أزال أواكب مسيرة نضحت بتجارب “بَرَمَتْ رقاب” الأصدقاء وفكّت رقاب العدو.. نماذج في التخطيط، وحسن التقدير، وصدْم المفاجأة، وممارسة أخلاقية قلّ نظيرها في التاريخ ولم تدرّس بعد، وأعني تجربة العفو الذي مارسه أهالي الشهداء والأسرى تجاه العملاء المتعاونين مع العدو الإسرائيلي والذي تحقق في يوم التحرير في أيار العام 2000. سلوك جماعي منضبط، متماسك ومتمسك بوعي قيمي/أخلاقي!. إلى نماذج لا تحصى، من الأكاديميات العسكرية الأجنبية، وبالتأكيد العربية الذين أفرغت أفواههم تجربة المقاومة الأربعينية العسكرية، والاستخبارية، والأمنية، ومثلها في الخطاب الصادق/الواضح، وغير الملتبس، والمتجدد بشعاراته، والفاعل في تأثيراته الممتدة إلى كل اللغات. خطاب أعطى لمفردات اللغة قيمتها الحقيقية.
***
مع “الأربعين ربيعاً”، لا يستكين الثبات إلا على مواقف/مبادئ/عقيدة في خدمة الإنسان، وفي رفض الظلم والمستكبرين أيّاً تكن حمولة مناصبهم في تكوينات شرائح المجتمع، وفي تبيان الحق والحقيقة، وفي الصَبْو ناحية فلسطين وترابها الممتد من بحرها إلى نهرها.
وفي الأربعين وما بعدها من سنوات كُتبت، تكون الحكمة في النضج والعقل قد قاربت التكوُّن (لدى البعض)، وهو ما يعتقده أصحاب عقائد ومفكرين ويفسره العلم. عقلانية النضج، في السلوك، في التبصُّر، في الأداء، في رسم استراتيجيات فردية كانت أم على صعيد المجموع، أو الكتلة المنسجمة المتجانسة التوّاقة إلى التحرر الذاتي في سبيل اكتمال إنسانيتها.. مع استحالة تحقق الاكتمال الإنساني فهو لله تعالى، لكنها في ما بعد الأربعين ربيعاً ستكون مرحلة وعنواناً جديدين حتى نُحصّن التحرير بالتغيير، فمن يجرؤ على المهمة؟
(*) كتاب “علي أيوب، سيرة مقاوم عابر للساحات”، دار الفارابي، بيروت وفيه تروي خديجة أيوب سيرة والدها علي أيوب.