لم يُعرف لغاية الآن إذا كان مشروع إرسال الحامية العسكرية اللبنانية إلى مدينة القدس منفصل عن “الحجز الإحتياطي” الذي اجتهد في تسويقه عام 1971 وزير الخارجية اللبنانية خليل أبو حمد، أم أن “الحجز” و”الحامية” من قماشة المشروع الواحد، فالصحف اللبنانية والأردنية الصادرة في تلك الفترة، وهي الأكثر عناية واهتماما بالموضوع، لم تتطرق إلى مضامين وافية تؤكد انفصال المشروعين أم أن أحدهما يكمل الآخر.
في السابع من تموز/يوليو 1971 جاء العنوان الرئيس لصحيفة “الحياة” اللبنانية كالآتي: “لبنان يقترح فرض حجز احتياطي على مدينة القدس/أبو حمد: الإقتراح سيقدم لمجلس الأمن وهناك درس جدي للمشروع”، ونشرت “الحياة” تفاصيل المناقشات التي أجرتها لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب اللبناني حول هذا المشروع مع الوزير أبو حمد فقالت:
“عقدت لجنة الشؤون الخارجية صباح أمس اجتماعا برئاسة الدكتور أمين الحافظ ـ رئيس الحكومة لاحقا ـ وحضور وزير الخارجية الأستاذ خليل أبو حمد، واستهل الحافظ الإجتماع بكلمة قال فيها إن اجتماعنا اليوم قُصد به قبل اي شيء آخر الإطلاع على حصيلة نشاط دبلوماسي استمر أكثر من شهرين وجرت أثناءه اتصالات وزيارات عديدة لمسؤولين لبنانيين إلى عواصم عربية وأجنبية ومن مسؤولين أجانب إلى لبنان، وحرصنا في الإجتماع الإطلاع على كل ما جرى من هذه الأحداث إدراكا منا أنها تشكل خطا واحدا يعبر عن مقاصد الدبلوماسية اللبنانية، وإذا كان لبنان استطاع أن يكون ذا صوت مسموع في حوار دائر حول أزمة الشرق الأوسط، فإن الباعث للإرتياح أن يتم جزء من هذا الحوار على أرض لبنانية أو بواسطة مسؤولين لبنانيين مع مسؤولين عرب وأجانب”.
هذا اعتراف واضح بدور دبلوماسي لبناني ريادي من قبل شخصية سياسية مرموقة محسوبة بصورة أو بأخرى على “المناخ التقدمي” بالتوصيف الإصطلاحي لتلك المرحلة، ومما قاله أمين الحافظ أيضا “إذا كان لبنان ركّز قسما كبيرا من اهتمامه على مشكلة القدس وخطط تهويدها وقام بالإتصالات والمساعي التي رآها الرسميون مناسبة للدفاع عن القدس، وإننا نقف اليوم لنتساءل: هل هي نهاية المطاف للدبلوماسية اللبنانية بهذا الصدد أم أن خطوة عملية هي المنتظرة من الجانب اللبناني الذي أخذ على عاتقه التركيز على قضية القدس”؟
بعد كلمة الحافظ، وبحسب “الحياة” أيضا، “ألقى الوزير خليل أبو حمد بيانا أعلن فيه لأول مرة وجود اقتراح لبناني بفرض حجز احتياطي على مدينة القدس وأن يقدم هذا المشروع لمجلس الأمن، وقال الوزير بأنه استمزج رأي الدول العربية والأجنبية حول هذا الإقتراح فلقي التأييد”.
وتعليقا على هذا الإقتراح كتب محمد الحوماني في زاويته “خواطر لبنانية” في “الحياة” قائلاً:
“حفل بيان الوزير أبو حمد الذي ألقاه في اجتماع اللجنة الخارجية ـ في مجلس النواب ـ بتفاصيل التحرك اللبناني الواسع سواء منه ما تناول منه قضية فلسطين والإحتلال الإسرائيلي أو العلاقات اللبنانية ـ العربية، والواقع أن الجهد اللبناني في الإطار العربي أو العالمي الواسع والذي تولاه الرئيس ـ صائب ـ سلام والوزير أبو حمد بتوجيه وإشراف الرئيس ـ سليمان ـ فرنجية، قد أعاد لبنان إلى مركزه القيادي على صعيد لمّ الشمل العربي وشرح القضية العربية للرأي العام العالمي، أما الإقتراح اللبناني بوضع الحجز الإحتياطي على القدس المحتلة فهو أمر في منتهى الأهمية لوضع حد لتهويد القدس، إذ ليس كلبنان يستطيع أن يطرح مثل هذا الإقتراح في المجال الدولي”.
وفي صحيفة “النهار” البيروتية (7 ـ 7 ـ1971) أن الوزير أبو حمد “أعلن عن وجود اقتراح لبناني بفرض حجز احتياطي على مدينة القدس، على أن يقدم هذا المشروع إلى مجلس الأمن، وقال الوزير إنه استمزج رأي الدول العربية والأجنبية حول هذا الإقتراح فلقي التأييد” وفي التاريخ ذاته نشرت صحيفة “الرأي” الأردنية وقائع جلسة لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب اللبناني وكتبت في صفحتها الأول “لبنان يقترح لمجلس الأمن فرض حجز احتياطي على مدينة القدس للحيلولة دون تهويدها” وأوردت “الرأي” هذه التفاصيل:
“أعلن السيد خليل أبو حمد وزير الخارجية اللبنانية أن لبنان سيتقدم إلى الأمم المتحدة بإقتراح يطلب فيه فرض حجز احتياطي على مدينة القدس ضمن الجهود التي يبذلها لمنع تهويد المدينة المقدسة، وقال الدكتور أمين الحافظ رئيس لجنة الشؤون الخارجية البرلمانية إن أبو حمد أعلن ذلك في جلسة عقدتها اللجنة، وأضاف أن السيد أبو حمد أبلغ اللجنة أن هذا الإقتراح سيُقدم قريبا إلى مجلس الأمن بعد أن استمزج لبنان رأي الدول العربية والأجنبية ، وذكرت معلومات رسمية أن أبو حمد قال: لكي يوضع حد لسياسة الخنق البطيء التي تمارسها اسرائيل ـ في القدس ـ فإن لبنان يعتبر أنه في المرحلة الحالية لا بد من اتخاذ إجراءات احترازية مؤقتة وفعالة تهدف إلى منع اسرائيل من التمادي في تنفيذ سياسة التهويد”.
وبعد يومين (9 ـ 7 ـ1971) أشارت صحيفة “النهار” إلى “اتصالات لبنانية ـ أردنية حول اقتراح فرض الحجز على القدس” وقالت إن وزير الخارجية خليل أبو حمد “أعلن ان اتصالات تجري مع وزارة الخارجية الأردنية للإتفاق على صيغة الحجز الإحتياطي على مدينة القدس لمنع تهويدها، وقال من المنتظر أن يُعرض هذا الطلب على مجلس الأمن الدولي في الدورة العادية المقبلة إذا استكملت جميع العناصر السياسية والقانونية المتعلقة به”.
رأى الأردن في المشروع اللبناني نوعا من المزاحمة للولاية الهاشمية على القدس، فدخول طرف جديد إلى دائرة تبحث وتقرر في مصير المدينة المقدسة يضعف الشرعية الأردنية ومساعيها بإعادة القدس إلى “الحظيرة الأردنية” كما قال عبدالله صلاح، فيما الأردن الذي تنازع طويلا مع دول عربية مركزية مثل السعودية ومصر حول من له حق الولاية على القدس منذ عام 1947، كان من الصعب عليه أن يتوافق ولبنان حول مشروع “الحجز الإحتياطي”
وفي واقع الأمر، أن مقدمات هذه الإتصالات كانت تشكلت قبل أن يكشف عنها أبو حمد، ففي العاشر من تموز/يوليو 1971 كتب وفيق رمضان في”النهار” أن أبو حمد “زار عمّان تلبية لدعوة رسمية من زميله وزير الخارجية الأردنية عبدالله صلاح في أوائل أيار/مايو، وفتح الوزير اللبناني مع الملك حسين والمسؤولين الأردنيين موضوع القدس ورغبة لبنان في القيام بتحرك دبلوماسي لإستثارة علاقاته الأوروبية والباباوية من أجل القيام بعمل ما لوقف أعمال اسرائيل لتهويد المدينة المقدسة، وهذا الموضوع كان له تأثير إيجابي عميق لدى الملك حسين والمسؤولين الأردنيين”.
ماذا في ذاكرة الشهر الخامس من عام 1971؟
صدرت صحيفة “الدفاع” الأردنية في العاشر من أيار/مايو 1971 بهذا العنوان “القدس موضوع المباحثات الأردنية ـ اللبنانية” ونقلت الصحيفة عن عبدالله صلاح قوله “جرى التركيز في المباحثات على قضية القدس خصوصا وأن السيد أبو حمد يعتزم السفر إلى روما لزيارة الفاتيكان وإلى باريس لمقابلة وزير خارجية فرنسا ثم يزور إيطاليا للتباحث مع وزير خارجيتها”. وفي الثاني عشر من الشهر نفسه، نشرت صحيفة “الأردن” موقفا لرئيس الحكومة اللبنانية صائب سلام قال فيه “إن زيارة خليل أبو حمد وزير الخارجية اللبنانية إلى الفاتيكان تستهدف مطالبة قداسة البابا بأن يقوم بالدور المسيحي المطلوب الذي لم يقم به مسيحيو الغرب حتى الآن بالنسبة لمدينة القدس”.
وحول هذه المبادرة اللبنانية كتب (10 ـ 5ـ 1971) يوسف حنا افتتاحية “الدفاع” الأردنية فقال:
“زيارة السيد وزير خارجية لبنان للأردن وما صدر عنه من تصريحات قبل سفره إلى الفاتيكان، تؤيد الجهود الصادقة التي يضطلع بها هذا البلد الصامد لتوحيد كلمة العرب وتقويم صفهم وتنسيق مظاهر نشاطهم السياسي في معركتهم المصيرية المشتركة”.
بحلول أواخر آب/أغسطس 1971، وكان الموعد المحدد لإنعقاد الدورة العامة لجمعية الأمم المتحدة قد اقترب، وصل عبدالله صلاح وزير الخارجية الأردنية إلى بيروت وكتبت صحيفة “الرأي الأردنية (27 ـ 8 ـ 1971) في أعلى الصفحة الأولى “وزير الخارجية في بيروت حول الأوضاع والعلاقات العربية/ لبنان يشارك الأردن موقفه ويدعو للتنسيق العربي ومجابهة تهويد القدس”.
خلال هذه الزيارة بدا الخلاف واضحا بين لبنان والأردن ولكن من دون الإفصاح عن ذلك، إنما التمعن في تصريحات وزيري خارجية البلدين، لا تترك مجالا للشك بوجود فجوة واسعة بينهما، وجاءت مواقف الوزيرين كما نقلتها “الرأي” على الشكل التالي:
ـ عبدالله صلاح: “بما يتعلق بالمدينة المقدسة فهي وديعة تناقلت إلينا عبر الأجيال، وإن موقف الأردن هو أن لا سلام من دون عودة القدس إلى الحظيرة الأردنية”.
ـ أبو حمد: “إن لبنان يشاطر الأردن قلقه على مصير المدينة المقدسة التي تعمل اسرائيل ما بوسعها وبكل قوة لتهويدها، ونحن تجاه الإقتراحات الدولية وغيرها، نرى في الوقت الحاضر أنه لا بد لمجلس الأمن من اتخاذ تدابير احترازية ومؤقتة لإنقاذ القدس ولوقف سياسة تهويد القدس”.
في التعليق على التباين بين الطرفين والذي حرصت العاصمتان العربيتان على إبقائه صامتا ومن دون تحويله إلى سياسة محاور صدامية، يتوجب القول بأن الأردن رأى في المشروع اللبناني نوعا من المزاحمة للولاية الهاشمية على القدس، فدخول طرف جديد إلى دائرة تبحث وتقرر في مصير المدينة المقدسة يضعف الشرعية الأردنية ومساعيها بإعادة القدس إلى “الحظيرة الأردنية” كما قال عبدالله صلاح، فيما الأردن الذي تنازع طويلا مع دول عربية مركزية مثل السعودية ومصر حول من له حق الولاية على القدس منذ عام 1947، كان من الصعب عليه أن يتوافق ولبنان حول مشروع “الحجز الإحتياطي”.
في الواحد والعشرين من أيلول/سبتمبر1971 افتتحت الجمعية العامة للأمم المتحدة دورتها العادية، ولم يعرض لبنان مشروعه لا في هيئة الأمم ولا في مجلس الأمن الدولي، سقط المشروع، وغار في غياهب الماضي، وربما غاب ايضا عن ذاكرة أكثرية السياسيين اللبنانيين.
هذا المشروع الذي يعيد التذكير بالأفكار الخلاقة التي كانت تطلقها الدبلوماسية اللبنانية هو أحد العناوين النوعية والمميزة لمرحلة ما قبل العام 1975، تلك المرحلة الخلاقة تتحاشى غالبية السياسيين اللبنانيين الحاليين قراءة صفحاتها لغايات في النفوس الأمّارة بالسوء.
(*) راجع للكاتب نفسه: كان للبنان مشروعه لإدارة القدس.. وأسقطه الأردن!
– في الجزء الثاني: الدبلومسية اللبنانية ومساعي المصالحة بين الأردن والفصائل الفلسطينية.