هذه الذكرى تعيد إلى الأذهان مقترحا لبنانيا برز بعد أربع سنوات من احتلال المدينة المقدسة، ويقضي بإشراف هيئة لبنانية على مدينة القدس، ولا يُعرف لغاية الآن إذا كان هذا المقترح قد شكل عنوانا وقاعدة للحراك الدبلوماسي اللبناني الكثيف الذي شهدته العواصم الإقليمية والدولية طوال أشهر صيف عام 1971.
في السابع والعشرين من أيار/مايو 1971 نشرت صحيفة “الحياة” اللبنانية وقائع مؤتمر صحافي للأب اسطفان صقر رئيس جامعة الروح القدس (الكسليك) بحضور نقيب المحررين ملحم كرم، استهله بشجب “إدعاءات الصهيونية العدائية وانتهاكات اسرائيل المستمرة لحقوق الإنسان في الأراضي المحتلة بما في ذلك السياسة الرامية لتبديل وضعية هذه البلاد”، ثم قدم مقترحا لإدارة لبنانية للمدينة المقدسة، على الشكل التالي:
ـ انتداب لجنة ثلاثية لبنانية لإدارة مدينة القدس والأماكن المقدسة.
ـ تتألف هذه اللجنة من مسلم ويهودي ومسيحي.
ـ يجب ان يكون الثلاثة المذكورون من التابعية اللبنانية.
ـ ينبغي لعضوية اللبناني في هذه الثلاثية أن يكون قد أتم الثلاثين من عمره كحد أدنى، وأن يكون لبنانيا منذ أكثر من عشر سنوات.
ـ توكل رئاسة الثلاثية سنويا ومداورة لأحد الأعضاء.
ـ يوضع تحت تصرف هذه الثلاثية ألف ضابط وجندي لبناني، ومن حقهم في حال الضرورة الإعتماد على جيوش الأمم المتحدة.
ـ يكون مقر الثلاثية الدائم في القدس نفسها.
وبحسب صقر، كما نقلت عنه صحيفة “الأنوار” الصادرة في بيروت في التاريخ نفسه فإن اختيار لبنان لهذا المهمة العسيرة “ليس اعتباطا، ولا تمليه شوفينية مطلقة العنان، إنه مستوحى من محطتين واقعيتين، فلبنان احد البلدان النادرة التي تتعايش فيها الطوائف منذ قرون عدة، رغم حدوث بعض الخضات السطحية، هو البلد النموذج الذي يمثل البشرية بشكل مصغر”.
بعد أيام على هذا المقترح، زار رئيس الحكومة اللبنانية صائب سلام العاصمة المصرية، وقالت “الأنوار” في الأول من حزيران/يونيو 1971 “إن الرئيس سلام عقد جولة أخرى من المحادثات مع محمود فوزي رئيس حكومة الجمهورية العربية المتحدة، وجرى فيها تقييم لأزمة الشرق الأوسط وتركز البحث على المساعي التي يبذلها لبنان في هذا الصدد”.
ومن القاهرة إلى العاصمة الأردنية عمان، وكان وزير الخارجية اللبنانية خليل أبو حمد قد زارها (11 ـ 5 ـ 1971) قبل وصول صائب سلام إليها، ومن عمان أطلق سلام توصيفا لزيارته فقال وفقا لصحيفة “الأقصى” الأردنية (23 ـ 6 ـ 1971) “هي زيارة عزيزة تلبية لدعوة كريمة في نطاق التحرك اللبناني الذي أخذت حكومة لبنان على نفسها عهدا به، تحرك عربي مستمر وتحرك دولي”.
وما يلفت الإنتباه في هذه الزيارة سؤال وجهه مراسل “وكالة الأنباء الأردنية” إلى الرئيس سلام في سياق حوار نشرته جريدة “الرأي” الأردنية (23 ـ 6 ـ 1971) وجاء كالآتي “لقد قام لبنان بعد زيارة وزير خارجيته للأردن بدور هام على الصعيد الدولي لإنقاذ القدس، فهل تعتقدون بضرور تحرك عربي شامل”؟ لم يجب سلام على هذا السؤال بوضوح، ولكنه قال خلال المؤتمر الصحافي المشترك مع نظيره الأردني وصفي التل كما نقلت “الرأي” الأردنية (24 ـ 6 ـ 1971) عنه “كان همنا الأول أن نبحث بيننا من تقارب في الفهم لأمورنا المشتركة، وكان في مقدمة ذلك محاولات للحيلولة دون تهويد القدس العزيزة”.
وبعد ثلاثة أشهر على زيارة وزير الخارجية اللبنانية خليل أبو حمد إلى عمان، وصل إلى بيروت وزير الخارجية الأردنية عبد الله صلاح وقال “بما يتعلق بالمدينة المقدسة فهي وديعة تناقلت إلينا عبر الأجيال، وأشاد بجهود الرئيسين فرنجية وسلام والوزير أبو حمد في إثارة موضوع القدس والتعاون مع الأردن”، كما كتبت “الرأي” في السابع والعشرين من آب/أغسطس 1971، وأما خليل أبو حمد فقال “المحادثات تناولت الوضع في المنطقة وتطرقت بصورة خاصة إلى قضية القدس”.
يقول عادل مالك “عندما عاد أبو حمد إلى مراجعة احكام شرعة الأمم المتحدة، تبين له ان مجلس الأمن يتمتع بصلاحية اتخاذ تدابير احترازية لإبقاء الحالة على ما هي عليه حتى انتهاء النزاع، فعرض مشروعا يدعو إلى اتخاذ تدابير احترازية تتعلق بمدينة القدس، وأطلق يومذاك على المشروع إسم الحجز الإحتياطي على مدينة القدس، رغبة من لبنان بتجميد وضع المدينة ومنع اسرائيل من التمادي في أعمال التهويد”
وإذ تشعب التحرك الدبلوماسي اللبناني في تلك الفترة نحو المشرق والمغرب العربيين، وكاد لا يستثني قطراً عربياً واحداً، فقد شمل هذا التحرك الأطراف الدولية، ومن ضمنها فرنسا والولايات المتحدة، وعلى ما أوردت “الحياة” البيروتية في الرابع من أيلول/سبتمبر 1971 “أن خليل أبو حمد وزير خارجية لبنان اجتمع لمدة ساعتين بالسيد جان دي ليبكوفسكي وزير الدولة في وزارة الخارجية الفرنسية، وصرح الوزير اللبناني بأنه بحث في أزمة الشرق الأوسط ووضع القدس بالتفصيل مع الوزير الفرنسي”، وأشارت صحيفة “النهار” في الخامس من الشهر نفسه إلى أن أبو حمد سيجتمع مع وزير الخارجية الأميركية وليم روجرز للغرض إياه، ونقلت “الأنوار” في اليوم ذاته عن أبو حمد قوله “إن يوم تصفية الحساب مع اسرائيل سيأتي بشكل أو بآخر”.
في كتاب “من رودس إلى جنيف/فلسطين من الضياع إلى الربيع” الصادر في بيروت عام 2012 للزميل عادل مالك ما يؤشر إلى مشروع لبناني خاص بمدينة القدس المحتلة، وفي ذلك يقول:
“درس لبنان بعناية وضع مدينة القدس، فتبين له أن هناك أمرا أساسيا متفقا عليه بين جميع دول العالم، وهو منع تهويد القدس، وهناك عدد من القرارات الصادرة عن الأمم المتحدة، تعتبر أعمال التهويد باطلة وتطلب إلغاءها، فرأى لبنان بشخص وزير خارجيته خليل أبو حمد في هذا الإجماع الدولي على عدم تهويد القدس، عنصرا يجب استغلاله للمحافظة على المدينة المقدسة”.
كيف عمل خليل أبو حمد؟
يقول عادل مالك “عندما عاد أبو حمد إلى مراجعة احكام شرعة الأمم المتحدة، تبين له ان مجلس الأمن يتمتع بصلاحية اتخاذ تدابير احترازية لإبقاء الحالة على ما هي عليه حتى انتهاء النزاع، فعرض مشروعا يدعو إلى اتخاذ تدابير احترازية تتعلق بمدينة القدس، وأطلق يومذاك على المشروع إسم الحجز الإحتياطي على مدينة القدس، رغبة من لبنان بتجميد وضع المدينة ومنع اسرائيل من التمادي في أعمال التهويد”.
وحيال ذلك “كان لا بد للبنان أن يعرض المشروع على الدول العربية مستمزجا آراءها، وخصوصا الدولة أو الدول ذات العلاقة المباشرة، وانقسمت هذه الدول بين مؤيد بتحفظ، ومتخوف، ومعارض”.
وفي سياق شرحه للمواقف العربية من المشروع اللبناني، يقول عادل مالك “رأى بعض الدول العربية أن هذا المشروع يمكن أن يضع حدا لأعمال تهويد القدس، فيما اعتبر البعض أن مجرد تحريك هذا الملف يمكن أن يُفسر وكأنه خطوة نحو الحال السلمي، أما الأردن الدولة المعنية أولا بموضوع القدس، فقد عارض الإقتراح اللبناني، ورأى فيه نوعا من انتقاص سيادته على المدينة المقدسة، وهو الأمر الذي لم يهدف لبنان إليه مطلقا”.
وجراء ذلك طوى لبنان مشروعه الذي كان يأمل بعرضه أولا على الدورة العادية للجمعية العمومية للأمم المتحدة التي كان مقررا عقدها في السادس والعشرين من أيلول/سبتمبر 1971، ومن ثم على مجلس الأمن الدولي.
سقط المشروع اللبناني الخاص بمدينة القدس بالضربة القاضية ولم يصل إلى أروقة الأمم المتحدة ولا إلى مجلس الأمن، مع العلم أن إسنادا من حاضرة الفاتيكان كان يدعم المشروع اللبناني، ومن مظاهر اجهاض هذا المشروع المواقف التالية:
ـ بعد يومين من إطلاق الأب اسطفان صقر المشروع الخاص بمدينة القدس ذكرت صحيفة “الحياة” في التاسع والعشرين من أيار/مايو 1971 أن خليل أبو حمد “استقبل سفير الأردن في لبنان أكرم زعيتر، وأكد، قطعا، لجميع الإشاعات أنه ليس للحكومة اللبنانية أي مشروع خاص للقدس، وكانت الحكومة الأردنية قد أكدت أنها لا تقبل إلا أن تظل القدس العربية جزءاً لا يتجزء من تراب المملكة الأردنية ووجوب عودتها تحت السيادة الأردنية”.
ـ قبل انعقاد الدورة العادية لهيئة الأمم المتحدة في خريف عام 1971، أفاد مراسل صحيفة “الحياة” علي الدجاني من عمان (15 ـ 9 ـ 1971) أن عبد الله صلاح وزير الخارجية الأردنية “عقد مؤتمراً صحافياً شرح فيه وجهة نظر الأردن حول عرض قضية القدس على مجلس الأمن، ونفى أن يكون للبنان مشروعا للقدس، وقال إن التنسيق تام بيننا وبين إخواننا اللبنانيين”.
عودة إلى البداية:
لم يُعرف حتى هذه الآونة عما إذا كان مشروع الأب اسطفان صقر مشروعاً أو إسهاماً جامعياً خاصاً، أو أنه يندرج في إطار ما يُسمى “الدبلوماسية الأكاديمية”، حيث تلجأ الدول عادة إلى اختبار ردات الفعل على سياساتها ومشاريعها من خلال اعتماد وسائل غير مباشرة للتعبير عن تلك السياسات او المبادرات.
ولم يُعرف أيضا إذا كان المشروع اللبناني الذي حاول الوزير خليل أبو حمد تسويقه إقليميا ودوليا، هو نفسه مشروع الأب صقر، أو جرى تعديله، أو أنه مشروع مختلف عن مشروع صقر.
من يعلم؟ من يضع النقاط على الحروف؟
من يفتح خزائن وزارة الخارجية اللبنانية؟