ولفحص الجبهة الاقتصادية، يجب عرض الوضع الاقتصادي عشية الحرب. وعلى الرغم من حالة البلبلة التي شهدها الاقتصاد الإسرائيلي منذ إعلان “التغييرات القضائية” في كانون الثاني/يناير 2023، كان الاقتصاد الإسرائيلي في وضع جيد جداً، بحسب جميع المؤشرات المقبولة في عالم اقتصاد الدول. نسبة الدين – إلى الناتج المحلي انخفضت في سنة 2022 بنسبة 7.1%، ووصلت تقريباً إلى 61% – وهي النسبة نفسها قبل وباء “كورونا”؛ أما نسبة البطالة، فكانت 3.5% فقط؛ والتضخم تراجع بنسبة 3.8%؛ هذا بالإضافة إلى أن مخزون العملة الأجنبية في بنك إسرائيل كان أكثر من 200 مليار دولار. الانخفاض الجدي في الاستثمارات الأجنبية والصناعات العالية الدقة أدى إلى تراجُع قيمة الشيكل الذي كان 3.85 في مقابل الدولار. وعلى الرغم من ذلك، فإن توقعات النمو لسنة 2023 كانت جيدة، مقارنةً بالدول المتقدمة، وكانت 3%، وهو ما يعادل 1% للفرد.
وعلى الرغم من نقطة الانطلاق الجيدة هذه، فإن “السيوف الحديدية” أدت إلى زعزعة الاقتصاد، وسيكون لها تأثيرها لسنوات، مستقبلاً. هذا التأثير سيستمر، حتى لو استمر الوضع الحالي للقتال في جبهة واحدة فقط، وبكثافة عالية، وذلك للأسباب التالية:
أولاً؛ استعمال السلاح – لتحقيق أهداف الحرب، يستعمل الجيش أسلحة ثقيلة أكثر من أي أسلحة استعملها سابقاً، وهو يحتاج إلى كميات كبيرة جداً من السلاح. فضلاً عن أن شدة الحرب تتطلب استعمالاً غير مسبوق للصواريخ الاعتراضية الخاصة بـ”القبة الحديدية” في الأساس، وأيضاً “السهم 3”. ومنذ بداية شهر كانون الأول/ديسمبر، كان هناك نحو 11 ألف إطلاق في اتجاه إسرائيل من جميع الجبهات.
ثانياً؛ تجنيد ما يقارب 350 ألف جندي احتياطي يكلف 7% تقريباً من القوة العاملة في السوق. هذا له إسقاطات مضاعفة: قوى بشرية من الصعب استبدالها في أماكن العمل؛ وأيضاً الدفعات التي يتوجب على الدولة دفعها لجنود الاحتياط.
ثالثاً؛ إجلاء 125 ألفاً من السكان يتطلب تمويل السكن، وأيضاً متطلبات الحياة لمن تم إجلاؤهم.
رابعاً؛ تعويضات للسكان الذين لحِق الضرر بأملاكهم بسبب الصواريخ.
خامساً؛ مساعدات مالية للعمال والمصالح التجارية التي لحِق بها الضرر نتيجة الحرب، بدءاً من البطالة، ووصولاً إلى التعويضات، بسبب خسارة الدخل نتيجة الحرب.
سادساً؛ تراجُع في مداخيل الدولة بسبب مدخول أقل من الضرائب، وأيضاً بسبب وقف الاستثمارات الأجنبية المباشرة.
التقديرات الأولية لعام من الحرب، بالحدة نفسها الموجودة اليوم في جبهات مختلفة، وتأخذ بالاعتبار الإنفاق على الأمن، وخسارة الدخل للدولة، والتعويضات وإعادة البناء، ستكون نحو 200 مليار شيكل (حوالي 55 مليار دولار). المساعدات الأميركية لمرة واحدة، البالغة قيمتها 14 مليار دولار (لم تقر بعد)، يمكن أن تساعد إسرائيل على التعامل مع تكلفة الحرب العالية
عملياً، ينعكس الاضطراب الاقتصادي جيداً من خلال الضرر الذي لحِق بالطلب، وأيضاً بالعرض. ففي مجال الطلب، تشير معطيات استعمال بطاقات الائتمان إلى انخفاض في جميع مناطق البلد. فمثلاً، في البلدات التي تم إخلاؤها، مثل “كريات شمونة” أو “سديروت”، انخفض استعمال بطاقات الائتمان في الأسبوع الأول من شهر تشرين الثاني/نوفمبر بنسبة 80%، في الوقت الذي انخفض في مدن أُخرى، مثل تل أبيب ورعنانا، بنسبة 20%. وهذا يحدث في مجالات مختلفة أيضاً. فمثلاً، في الأسابيع الأولى من الحرب، سُجِّل ارتفاع حاد يعادل 40% في الشراء من شركات التموين، في الوقت الذي غاب تقريباً كلياً الإنفاق على الترفيه خلال شهر تشرين الأول/ أكتوبر. وفي مجال العرض، سُجِّلت صعوبات في مجالات الإنتاج المختلفة، بسبب وجود عدد كبير من العمال في الاحتياط، وأيضاً لأن العمالة الأجنبية غادرت البلد، فضلاً عن منع دخول آلاف العمال الفلسطينيين من الضفة الغربية إلى إسرائيل. أمور كلها تصعب على سلاسل الإنتاج، وتفاقمها بسبب صعوبات الاستيراد – أساساً بسبب مشكلة الاستيراد عبر البحر الأحمر نتيجةً للتهديد الحوثي.
تشير التقديرات إلى انكماش الناتج المحلي بنحو 10% في الربع الأخير من العام، وانخفاض في النمو السنوي إلى 2% في سنة 2023 (وهذا يعني نمواً يعادل الصفر للفرد). بالإضافة إلى أن الإنفاق على الخدمات العامة سيغدو أكثر مما كان عليه، ويمكن أن يؤدي إلى عجز بنسبة أكثر من 5% في الميزانية الحكومية، وهو ما سيرفع نسبة الدين – الناتج المتوقع لسنة 2023 إلى ما يعادل 64% في نهاية سنة 2023. لذلك، فإن التقديرات الأولية لعام من الحرب، بالحدة نفسها الموجودة اليوم في جبهات مختلفة، وتأخذ بعين الاعتبار الإنفاق على الأمن، وخسارة الدخل للدولة، والتعويضات وإعادة البناء، ستكون نحو 200 مليار شيكل (حوالي 55 مليار دولار). المساعدات الأميركية لمرة واحدة، البالغة قيمتها 14 مليار دولار (لم تقر بعد)، يمكن أن تساعد إسرائيل على التعامل مع تكلفة الحرب العالية والإنفاق الأمني الذي سيتعزَّز في الأعوام المقبلة، إلا أنها لن تغطي إلا ربع التكلفة العامة تقريباً.
وعلى الرغم من المعطيات المقلقة هذه، فإن معطيات استعمال بطاقات الائتمان تشير إلى ارتفاع منذ الأسبوع السادس للحرب، ومؤشرات البورصات المختلفة وسعر الدولار لم تتراجع بشكل حاد كما جرى في الأسبوع الأول من الحرب. مؤشر “تل أبيب 125” عاد إلى مستواه الذي كان عليه قبل الحرب، وسعر صرف الدولار هو 3.60 شيكلاً، وهو أقل مما كان عليه عشية الحرب. يبدو أن هناك عاملين منعا ضرراً أكبر في البورصة المحلية وسعر صرف الدولار: العامل الأول، هو نضوج المجتمع الإسرائيلي. فخلال جائحة كورونا، تم صرف أكثر من ربع صناديق الائتمان في الشهر الأول، وكثيرون تعلموا الدرس، ولم يسارعوا إلى الصرف، على الرغم من سوء الظروف؛ أما العامل الثاني، فهو التدخل الذي قام به بنك إسرائيل في سوق العملات الأجنبية، وهو ما عزز ثقة الجمهور. حاكم بنك إسرائيل، البروفيسور أمير يارون، أعلن أن البنك سيخصص 30 مليار دولار للمساعدة في استقرار العملة. وعملياً، لم يستعمل حتى الآن سوى 10 مليارات، إلا إن مجرد التصريح من حاكم البنك المركزي كان له تأثير كبير. هذا فضلاً عن أن CDS، شهادة التأمين ضد التأخر في تسديد الديون، تراجعت، من 143 نقطة في بداية الحرب إلى 110 نقاط – وهو ما يشير إلى اعتدال نسبي.
وبعد حوالي شهرين على الحرب، يمكن القول إن الاقتصاد الإسرائيلي يثبت حصانته مرة أُخرى في مواجهة تحدٍّ جدي. أزمة كورونا كانت أزمة عالمية، خرج منها الاقتصاد الإسرائيلي أقوى من بقية الدول التي عاشتها. الأزمة الداخلية بشأن “التغييرات القضائية” أضرّت بالاستثمارات الإسرائيلية، لكن الاقتصاد أثبت أنه استطاع الصمود في مواجهتها. يبدو أن الاقتصاد الإسرائيلي يستطيع، حتى الآن، الصمود أمام التحدي الأصعب في تاريخ الدولة. لكن لا يوجد أي ضمان أن تستمر الأمور على هذه الحال. العكس هو الصحيح، هناك احتمال ألّا يصمد الاقتصاد الإسرائيلي أمام التحديات في سنة 2024، وهو ما يمكن أن يؤثر مباشرةً في القتال.
الميزانية الجديدة لسنة 2023، التي يتم نقاشها في الكنيست، تعادل 510 مليارات شيكل، وتتضمن ارتفاعاً بقيمة 30 ملياراً، نسبةً إلى مقترح الميزانية السابق. الأموال المخصصة للحرب، وضمنها دفعات لأيام خدمة جنود الاحتياط، ودفعات حربية مدنية، تشمل تعويض من تم إجلاؤهم. لا نقاش بشأن الحاجة إلى زيادة الإنفاق، بالإضافة إلى الإنفاق العسكري الروتيني، إذ يتعين على الدولة دفع تعويضات لائقة لكل مَن لحِق به الضرر نتيجة الحرب. الحديث هنا يدور حول مكون أساسي في حصانة المجتمع الإسرائيلي. وعلى الرغم من ذلك، فإن المكون الأساسي لتمويل الإنفاق الآخذ بالازدياد هو زيادة الدين، الأمر الذي سيزيد في العجز في الأعوام المقبلة، وخصوصاً في أعقاب دفع فائدة أعلى في ظروف الفائدة الحالية. هذا بالإضافة إلى أن الحكومة غير مستعدة لاتخاذ قرارات صعبة، تتضمن تقليص الميزانيات المخصصة لفئات معينة ووزارات لا حاجة إليها، وكذلك إعادة توجيه الأموال إلى الجهد الحربي. طبعاً، تحويل الأموال لن يستطيع سد الفجوة والحاجة إلى الأموال، إلا إن هذا يمكن أن يؤشر إلى معنى ضريبي مهم لإسرائيل، من أجل حاجاتها الداخلية والخارجية، وبصورة خاصة في مقابل شركات الائتمان العالمية.
في الفترة الحالية، هناك 3 شركات ائتمان كبيرة، هي “موديز” و”فيتش” و”ستاندرد آند بورز”، صنّفت الائتمان الخاص بإسرائيل سلبياً، لذلك، هناك حاجة إلى إظهار المسؤولية في التعامل مع الميزانية. ففي حال لم ترَ هذه الشركات أي تقليصات جدية ملائمة للظرف الحالي، وبدلاً من ذلك، رأت تخصيص ميزانيات غير معقولة تشير إلى تعامُل “عادي”، وتكون فيها الحسابات الائتلافية أهم من الحسابات القومية، فإن تصنيف الائتمان سيتراجع. تطوُّر كهذا يمكن أن يُلحق الضرر بالاقتصاد الإسرائيلي بشكل ينعكس على الجهد الحربي. المجتمع الإسرائيلي سيشعر بذلك من جيبه الخاص، الأمر الذي يمكن أن يُلحق الضرر بالدعم الشعبي لاستمرار الحرب. وأكثر من ذلك، كما في الانتفاضة الثانية، فإن الجهود الحربية تتطلب قرارات صعبة وتقليصات مؤلمة، كتلك التي قادها بنيامين نتنياهو خلال ولايته كوزير للمالية. بهذه الطريقة، الاقتصاد الإسرائيلي والقتال يمكن أن ينجيا، إذا اتُخذت هذه القرارات الصعبة اليوم، بدلاً من دفع أثمان أكبر بكثير خلال سنة 2024.
في نظرة واسعة إلى الاقتصاد، يجب التشديد على أن الإسقاطات المباشرة والفورية للحرب الحالية ستكون في المستقبل عبارة عن مزيج من البيئة الأمنية الصعبة، والإنفاق الأمني العالي جداً، وضرر سيلحق بالاستهلاك الشخصي وانخفاض في الاستثمارات المباشرة من الخارج. هذه الأمور يمكن أن تدفع إلى عشرة أعوام من الاقتصاد الضائع، كما جرى فور انتهاء حرب “يوم الغفران”، إلى أن وُضعت الخطة لدفع الاستقرار في سنة 1985. ومن أجل عدم تكرار هذا السيناريو السلبي، يجب على الحكومة العمل بمسؤولية قصوى، وفي أقرب وقت ممكن، لتقليص الضرر المستقبلي بالاقتصاد الإسرائيلي. وبكلمات أُخرى، دولة إسرائيل فوجئت في السابع من تشرين الأول/أكتوبر، كما فوجئت قبل ذلك بـ50 عاماً في حرب يوم الغفران. على الصعيد الاقتصادي، يمكن لخطوات اقتصادية صحيحة أن تمنع 10 أعوام من الضياع الاقتصادي، كما حدث بعد حرب يوم الغفران”. (المصدر: مؤسسة الدراسات الفلسطينية).