حرب إضطرار لا إختيار.. نعمة الجغرافيا ونقمتها في الشرق الحزين!

دخل الصراع في غزة مرحلة جديدة مع قيام إيران بتنفيذ ردٍ صاروخيٍ مُركّبٍ على إسرائيل. بهذا العمل العسكري أصبح النقاش بشأن مصير منطقة الشرق الأوسط كله يدور في فضاء الجيوسياسة، لا القوانين والمنظمات الدولية ولا حقوق الإنسان ولا غيرها من آليات ضبط النزاعات بين الدول. اليوم نحن أمام لحظة شكسبيرية: "نكون أو لا نكون"، كما تُردّد معظم دول المنطقة، وهذا أخطر أنواع المواقف التي يبلغها صانع القرار.

ساعات كاملة احتلت خلالها إيران سماء الشرق الأوسط. بالإضافة إلى سيطرتها على المضائق المائية في هرمز وباب المندب. في الميزان الاستراتيجي، هذا تحول كبير. نحن نعيش مرحلة تطغى فيها السيولة والميوعة الاستراتيجية إلى حين بلوغ مرحلة التوازن. بالتالي، أمام صانع القرار خريطة أمنية وسياسية متحركة جداً.

في طهران، يبدو أن صانع القرار اختار طريقه. حفظ النظام أولوية ولا بأس بتغيير قواعد اللعبة هنا أو هناك طالما أنها تخدم هذا الهدف المركزي. حفظ النظام يعني تجنب احتمالية خوض حرب مباشرة مع واشنطن. معادلة جديدة رسمتها العملية العسكرية الإيرانية في انتظار مآلات الرد الإسرائيلي المؤجل حتى الآن.

قرار الرد على قصف إسرائيل للقنصلية الإيرانية في دمشق اتخذ منذ الساعات الأولى، برغم أنه لم يكن موضوعاً في حسبان العقل السياسي الإسرائيلي. هناك نشوة قومية إيرانية كبيرة كانت تطالب بالرد على الضربة الإسرائيلية وبالتالي صارت مصلحة النظام أن يستجيب للبيئة الحاضنة لكن ليس على طريقة بعض الأنظمة الشعبوية، بل من خلال رد موضعي مدروس ومحسوب يمنع التدحرج نحو خيار الحرب الشاملة.

***

لدى منطقتنا مقدرة عجيبة على استقطاب القوى الدولية إليها. هي منطقة ولّادة أزمات مما يعكس مركزيتها في النظام الدولي. نحن نعيش على الأزمات وحل الأزمات بأزمات جديدة. هي شعرة تفصل بين اللعنة والنعمة. نحن نعيش لعنة الجغرافيا في ظل غياب التوازن الاستراتيجي الدولي.. ومعه القرار العربي وقبله المشروع العربي

الغموض البناء. الصبر الاستراتيجي. النفوذ الاقليمي. قواعد الاشتباك. ربط النزاع. وأخيراً فك الاشتباك. كل هذه المصطلحات/السياسات كانت تتعرض لامتحان صعب تلو امتحان منذ أن بدأت إسرائيل بشن ضربات ضد أهداف إيرانية سواء على أرض سوريا أو في قلب إيران من دون تبنيها رسمياً إلى أن تم استهداف القنصلية الإيرانية في دمشق. مع هذه الضربة، كان لا بد من رسم معادلة جديدة. معادلة تُعيد الاعتبار إلى الهيبة والقوة الردعية. في نظر معظم الشارع الإيراني، عدم الرد يعني ان الضربة الإسرائيلية القادمة ستكون على وزارة الخارجية بقلب طهران. يرى معظم الرأي العام الإيراني أن حرب غزة هي حرب أمريكية ضد إيران. وأن واشنطن لو أرادت وقف النار في غزة لأجبرت إسرائيل على ذلك بوقف الجسر العسكري الجوي بينها وبين تل أبيب. ناهيك عن شعار المعارضة الإيرانية المتداول أن البيت أحق بالاهتمام من المسجد. اليوم البيت والمسجد يتعرضان للقصف.

***

الصورة في واشنطن مختلفة تماماً. ليس لأن قادتها يعيشون على كوكب آخر. بل لأن “العم سام” يجد نفسه مُحرجاً بخوض حرب اضطرار وليس حرب اختيار. هذا النوع من الحروب يُوقظ الذاكرة الجماعية الأمريكية، فتتبدى أحلام حربي كوريا وفيتنام البشعتين. فالكابوس الفيتنامي ما يزال يسكن أروقة البنتاغون. وبالرغم من أن الرأي العام الأمريكي غير معني مباشرة بأحوال العالم. غير أن صانع القرار في أمريكا يجد في الرد الإيراني على القصف الإسرائيلي ما يمكن احتماله. الموقف الاستراتيجي بعدم الذهاب إلى حرب شاملة لا أبعاد ايدولوجية له. منطلقاته جيوسياسية بحتة. ينسحب هذا الكلام على جميع دول حلف “الناتو”. أساساً الغرب لم يتحمل عملية عسكرية من قبل ميليشيا في السابع من تشرين الأول/أكتوبر الفائت فكيف لهُ أن يقبل بعملية عسكرية من دولة حافة نووية تملك صواريخ باليستية؟

أيضاً القول إن الرئيس الأمريكي جو بايدن مشغول بالانتخابات الرئاسية القادمة لا يعني انشغال المؤسسة الأمريكية العميقة عن العالم. للتذكير أجريت انتخابات أمريكية في ظل الحروب العالمية الأولى والثانية. ما يهم هنا هو أن الرد الإيراني على القصف الإسرائيلي كان يُمكن أن يستجلب عملاً عسكرياً أمريكياً لو قرّر الرئيس بايدن ذلك، لكن الموضوع في يد “المؤسسة” وليس الرئيس، وهذه “المؤسسة” لا تُريد الحرب نهائياً.

***

ماذا لو تدحرج الصراع المستمر في غزة خارج حدود الشرق الأوسط؟

في العلوم العسكرية، أن اليوم الاول للحرب يُغيّر الخطط كلها. فما بالك بحرب غزة التي دشّنت شهرها السابع. بكل تأكيد اتساع رقعة الصراع في الشرق الأوسط يستجلب لاعبين دوليين مثل روسيا والصين. والمنطقة العربية تحوّلت إلى ملعب لتصفية الصراعات الدولية واثبات النفوذ. لربما يكون هذا العامل عنصر حسم عند صُنّاع القرار في طهران وواشنطن وتل أبيب. على أساس أن تكلفة تدحرج الصراع خارج المنطقة أكبر بكثير من حصر الصراع داخلها. عليه نكون أمام ضربة إيرانية موضعية ومدروسة. تُعيد قواعد الاشتباك ولا تُخرِج الصراع عن السيطرة. على الأرجح، هذا المسار قد يُفضي إلى وقف لإطلاق النار في غزة ومنع الحرب عن لبنان.

أصبح من المؤكد أن العالم لا يستجيب إلا لمنطق القوة. موازين القوى هي من تُحرّك الدول. والدول تتكلم بلغة المصالح. وبالرغم من هول الدمار والدم المُسال، فإن اللحظة التي تعيشها المنطقة ـ ولربما العالم ـ تتطلب عقلاً سياسياً بارداً جداً لتفكيك تداعيات هذه الحرب على مستقبل المنطقة.

إقرأ على موقع 180  في الطريق إلى أوكرانيا.. كمين لروسيا في كازاخستان

***

لم يعد البحث يقتصر على سؤال “اليوم التالي”، بل اتسع ليصبح السؤال عن “العصر التالي”.

بالنظر إلى خريطة القوة في الشرق الأوسط. الأرض تحكمها معادلات توازن رعب ممتدة من شواطئ البحر الأبيض المتوسط الشرقية (غزة وحيفا وبيروت وطرطوس) وصولاً إلى شواطئ الخليج العربي. سماء المنطقة تعجُ بالمُسيّرات المُنتشرة القادرة على الاغتيال والتدمير ناهيك بآلاف الصواريخ الباليستية المملوكة من طرفي معادلات الرعب ذاتها. أما الفضاءات الإعلامية والثقافية فتحكمها وتتحكم بها جيوشٌ الكترونية فعّالة أشبه ما تكون بميليشيات مسلحة.

على هذا العقل تحديد هوية القوة المتعددة الموجودة اليوم في الشرق الأوسط. ثم تحديد المعادلات التي تحكم هذه القوة. بعدها يتم إسقاط مراكز القوى ومعادلاتها على الخريطة لقراءة أحكام التاريخ وقواعد الجغرافيا. ويتم تحديد الأدوار والأحجام لكل اللاعبين. عند هذه النقطة ربما نستشرف مستقبل المنطقة القابعة على فوهة بركان حرب غزة.

لدى منطقتنا مقدرة عجيبة على استقطاب القوى الدولية إليها. هي منطقة ولّادة أزمات مما يعكس مركزيتها في النظام الدولي. نحن نعيش على الأزمات وحل الأزمات بأزمات جديدة. هي شعرة تفصل بين اللعنة والنعمة. نحن نعيش لعنة الجغرافيا في ظل غياب التوازن الاستراتيجي الدولي.. ومعه القرار العربي وقبله المشروع العربي.

(*) بالتزامن مع “الشروق

Print Friendly, PDF & Email
طارق زيدان

كاتب سعودي

Download WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  ميخائيل ميلشتاين: ما يحدث في جنين قابل للتمدد!